إحياء التفكير في راهنية ميشيل فوكو الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 19:58:38

محمد نجيب فرطميسي

المغرب

جوديث ريفيل Judith Revel

ترجمة: محمد نجيب فرطميسي

ما الذي يحدث لفكر فيلسوف بعد ثلاثين سنة من وفاته؟ يمكّن، في الوقت نفسه، وفي أغلب الحالات، إنتاج متن متسرع، من وضع حدود له، وتحديد "مكانته" في المشهد الفكري لعصر ما، وتشكيل صورة موحدة عنه. هكذا تُفتح، في سياق تاريخ الفلسفة، لحظة ثانية: آنذاك تحتل الخلافات التأويلية، وأحيانًا نزاعات الميراث، مكانها. والحال أن لا شيء من كل هذا، في حالة فوكو، حدث. إن خصوصيته، من هذه الناحية، مزدوجة. إذ لم يترك فوكو متنًا بالمعنى الدقيق للكلمة: بينما أتيح للرعيل الأول - مساعديه وقراؤه المعاصرين له - الاطلاع مباشرة على فكره عبر كتبه، فإن الجيل الثاني تعرف عليه انطلاقًا من نصوص "متفرقة" نشرت في حياته وتم جمعها في جزئين تحت عنوان "أقوال وكتابات" (طبعة غاليمار 1992). كما أتاح، أخيرًا، نشر دروسه بكوليج فرنسا مكتملة، للباحثين الشباب إمكانية اللقاء بفكر فوكو والاطلاع عليه.

مفهوم المؤلف

ثلاثة مداخل، ثلاثة سجلات، وبالنسبة لفوكو ثلاثة أساليب - غير متكافئة - للاشتغال: ثلاثة "مستويات" للتعامل، تتمفصل فيما بينها، بكيفية مثيرة، لكنها لا تغطي بعضها البعض نهائيًا. إذا كان لا بد من التذكير بكل هذا، فذلك لأننا لسنا أمام متن مكتمل، بل بصدد "فحص" feuilletage غير مألوف. فحص بقدر ما هو معقد فهو غير مكتمل في الآن نفسه: يتعلق الأمر بكمية هائلة من الكتابات غير المنشورة، سلمها أخيرًا صديق عمره دانييل ديفير D. Defert للمكتبة الوطنية لفرنسا، وتلك المدرجة في رصيد مؤسسة ذاكرة المطبوعات المعاصرة بمدينة Caen، وما تملكه العائلة، ناهيك عن الوثائق المنتشرة في أنحاء العالم، توفر أي شيء، إلا وحدة متن مغلق، وهوية مؤلف ثابتة وراسخة على رقعة الفكر المعاصر: بدلا من فضاء متماسك، ومتنوع، لكنه مفتوح على صيغ إشكالية متعددة.

نعلم جيدًا نفور ميشيل فوكو من مفهوم المؤلف ومصطلح "الأثر- المؤلف" المرتبط به، والذي تعزّه أنظمتنا المدرسية والجامعية. لا يسعنا، والحالة هذه، إلا أن نبتهج لاستحالة تشكل فكر فوكو بوصفه أثرًا Une œuvre بالمعنى الدقيق للكلمة: لا نوقف فكرًا حيًا. حتى وإن خصته طبعة لابلياد الشهيرة بمجلد - يستعيد كتبه المنشورة في حياته - فسيبقى "عدم الإغلاق" الخاصية الأساسية المميزة لفكره. إشادة، على الأقل، بهذا "الشغف" القوي، والذي لازم فوكو طيلة حياته، برومان روسل R Roussel، والذي يبدو أنه ميز فعلاً، تمرده ونفورهLa rétivité   من كل تحديد للهوية بعد المماة: "المتاهة هي التي خلقت المينوتورMinotaure   le، لا العكس".

غياب الأرثودوكسية

يترتب عن هذا الوضع نتيجتان: تتمثل الأولى في غياب شبه مطلق لـ"ظاهرة المدرسة" واستحالة إضفاء الطابع الأرثودوكسي على فكر فوكو: أين نرسي القاعدة؟ كيف نحدد "حقيقة فوكو" إن كان الأثر يختفي كأثر، إن لم يكن فعلاً المؤلف واحدًا، إن كان ما خلفه ليس فقط مجموع ما قاله وما كتبه، لكن أيضًا حركة بحث، معنى إيماءة تغير مكانها باستمرار، أعيد استثمارها في عدة مجالات – عمومًا، إن كان فعل التعلم هو فعلاً كيفية للمساءلة أكثر مما هو نسق؟

ترتبط النتيجة الثانية بالأولى: إنه تشعب لا مثيل له لاستعمالات فكر فوكو. استعمالات لا تستثني في شيء مقاربة أخرى -عميقة، بقدر ما هي ضرورية - إنها القراءة الفيلولوجية للنصوص: لا بد من الإشادة هنا بكل من أصدروا، في السنوات الأخيرة، طبعات ووفروا أدوات نقدية، وأعادوا الاعتبار لكلام فوكو ومعقوليته الخاصة به. لولا ذلك لم يكن هناك شيء آخر ممكن. لكن الاستعمالات تفرض علاقة أخرى بفكر الفيلسوف. لقد فتحت ورشين: من جهة تحيين actualisation فكر فوكو وقفًا لزمان - زماننا نحن - ليس هو زمانه، من جهة أخرى، تطبيق تساؤلاته أو استعمال مفاهيمه في حقول، أو مواضيع، لم يضعها فوكو نفسه في الحسبان.

 يستند  في الواقع، في الحالة الأولى، هذا التحول في علاقته  براهننا نحن، على فكرة مرتبطة أساسًا بفوكو: لا وجود  لفكر إلا بوصفه نتاج لحظته التاريخية الخاصة به؛ لكن أيضًا، لا وجود لموضوع الفكر إلا باعتباره ثمرة مجموعة محددة من التمثلات والتحديدات، والتقسيمات الخاصة بحقبة معينة: التحليل بالنسبة لفوكو، تابع دائما لعملية التحقيب: لا وجود لـ"تاريخ الحمق" (1961) دون الإحالة على الحقبة الكلاسيكية، ولا لأركيولوجيا العلوم الإنسانية، في "الكلمات والأشياء" (1966)، دون القرن الثامن عشر، ولا لتحليل "النظم الانضباطية" في "المراقبة والعقاب" (1975) من دون الأخذ بعين الاعتبار  "منعطف" القرنيين  الثامن عشر والتاسع عشر.

التاريخ "يتحرك"

ليس التاريخ ثابتًا بتاتًا، وليس له، كما يذكر بذلك دائما فوكو، خارج dehors: الكل تخترقه حتميات تاريخية، نسقنا الفكري، ممارساتنا، بل حتى العلاقة التي نقيمها مع ذواتنا ومع الآخرين. وعليه، فإن سؤال التحقيب يستدعي منا، إن أردنا استعادة بعض تساؤلات فوكو - حول الجزاء، الجنسانية، أو نُظم الحكم - بذل مجهود للارتقاء بالتفكير الى مستوى وضعيتنا التاريخية الحالية: وإذا كان الاعتراف بـ"حركية" التاريخ الذي لا مفر منه، يمكن أن يؤكد أحيانًا وصفًا مضى، فإنه قد يفرض أيضًا الاعتراف بالتحول أو عدم الاستمرارية الراديكالية radicale discontinuité.

الحديث عن الليبرالية الاقتصادية والسياسية بإرجاعها للنصف الأول من القرن التاسع عشر بفرنسا، شيء، والحديث عن الليبراليات المعاصرة - وهو ما قام به فوكو في دروسه التي كرسها في سنتي 1978 - 1979، للسياسة الحيوية - شيء آخر، كما تقتضي ضمنا أشكلة problématisation ما يعود في نفس الوقت للاستمرارية (ما يدوم) وما يرتبط عموما بالتحول (ما يعاد تحديده): سنة 1830 ليست هي نفسها سنوات 1950 و1960. لا معنى لأن نطبق مبدئيًا هوية سياسة حيوية مرتبطة، في القرن التاسع عشر، بصعود الإنتاج الصناعي ومتطلبات بعض منظمات الشغل، تلك التي استعادها، بعد قرن من الزمان، الفكر الأوردوليبرالي1 ordoliberale بألمانيا أو تلك التي تحضر، في سنوات 1960 و1970، عند منظري الليبرالية الجديدة لمدرسة شيكاغو. ثلاث لحظات، ثلاثة أمكنة، ثلاثة مباحث "تفاضلية" différentielle مختلفة، ثلاثة أصناف للسياسة الحيوية: ثلاثة بحوث تاريخا نية.

يتمثل بالتالي "استثمار" فوكو اليوم في مواصلة هذا البحث القائم على التفاضل: ما هي العناصر التي ما زالت دائمة ومستمرة؟ ما هي تلك التي تستلزم، في المقابل، استئناف التحليل أو إصلاحه؟ في الاقتصاد السياسي، في سوسيولوجيا السياسة، تساؤلات فوكو متعددة، لكن الباحثين إن أرادوا قراءة الراهنية من خلال هذا الفيلسوف عليهم البدء قبل كل شيء، من ضرورة تحديد معالم cartographier خصوصية الحاضر. إن لم يفعلوا ذلك، سيجردون فوكو من تاريخانيته - وهذا بالضبط، فيما يبدو لي، منتهى استعمال فكر ميشيل فوكو.

ضرورة منهجية

تحويل مفاهيم إجرائية وتاريخانية إلى مفاهيم لا تاريخية (لا تأخذ بعين الاعتبار وجهة النظر التاريخية)، هو بمثابة طواف، بمفهوم السياسة الحيوية، بجانب الفكر الأرسطي، ولاهوت القرون الوسطى، معامل القرن التاسع عشر، أو العولمة، دون طرح مشكل الاختلاف الجذري الذي تستدعيه هذه المرجعيات التاريخية، إنه بالضبط إنجاز ميتافيزيقا (سيئة). مثال السياسة الحيوية واضح وجلي، وقد ازدهرت استعمالاته في السنوات الأخيرة؛ لكن هذا يصدق أيضًا عندما يتعلق الامر بإقامة نص تأسيسي vulgate لفكر فوكو، حول أشكال العلاقة بالذات أو الجنسانية. ما ينبغي من دون شك البحث عنه عند فوكو ليس إذن ما يشكل مثالاً أو حقائق، بل تساؤلات أعيد تعديلها باستمرار بواسطة رصد عدم الاستمرارية التاريخية.

ماذا عن إمكانية الاستعمال الثانية: تطبيق   مشكلات أو حقول لم يتصد لها فوكو. يبدو، هنا أيضًا، أن الموجه الوحيد ذي طابع منهجي، يرتكز أيضًا على الحفاظ على وضعية تربط بكيفية وثيقة ممارسة الفلسفة بالتحليل التأريخي. خارج هذا المجال لا حدّ لذلك: كانت، في الواقع، الثلاثين سنة الأخيرة، غنية باستعمالات جديدة. نفكر على سبيل المثال في الدراسات الما بعد كولونيالية وما أضفته على الاختلاف في التاريخ، اختلاف حُسم في جغرافية العالم. وماذا، على سبيل المثال، عن السياسة الحيوية في الهند، أو في المستعمرات الفرنسية؟ وماذا عن التحكم في الأجساد عندما تعمل السلطة، كما كان عليه الأمر في عهد ديكتاتورية الأرجنتين، على تختفي؟ نفكر أيضًا في "دراسات النوع"، دراسات الشدود الجنسي أو التحول الجنسي - على العموم حيثما تستدعي وضعية الأقلية، التفكير في نفس الآن في علاقات السلطة وإمكانية مقاومة هذه السلط، وفي شخصنة "ممارسة حرية غير مقيدة". نفكر أيضًا في الممارسات الفنية في "الإنجازات" التي استلهمت بشكل كبير مفهوم "اكتشاف الذات" عند فوكو، والتي تتداول اليوم إلى جانب النقد وعلم الجمال، نفكر أخيرًا في تحليل أشكال الذاتية السياسية الجديدة، التي أدرك فوكو، فيما أعتقد، مكانتها المركزية في المستقبل وضرورة فهم اختلافها، لكن لا شيء يدفعه ليستشعر التعميم.

فهم بعد جهد وعناء

إننا الآن، كما قال فوكو قبل أربعين عامًا، في أحد دروسه بكولج فرنسا، في عصر "انشطار التُربة": كل شيء يتحرك تحت أقدامنا، الأمر موكول إلينا لإحياء متطلبات التفكير، أي ما يدعوه الفلاسفة «السؤال النقدي» والذي يمتل إرث الأنوار الأكثر أهمية. لم يكن فوكو، مالكًا في يوم ما، للحقيقة؛ غير أنه يسعفنا، رغم ذلك، في مساءلة مرتكزات فكرنا. هكذا يمكننا طبعًا، وبعد ثلاثين سنة من وفاته، إقامة لوحة جنائزية ونصب تذكاري من ورق. لكن يمكننا أيضًا القول إن عمله الخصب والمذهل فعلاً يتيح لنا، بعد جهد وعناء، فهم عالمنا الخاص عن طريق مفاضلة تاريخية لأشكال وصيغ التوزيع والتي يوفرها هذا العمل لفكرنا.

***

المينوتور في الميثولوجيا الإغريقية مخلوق نصفه رجل ونصفه الآخر ثور أبيض كالثلج. سرعان ما نمى المينوتور وأصبح مفترسًا، للتخلص منه تم بناء متاهة عملاقة لتكون مسكنًا له، يركض بين ممراتها، عاجزًا عن الخروج منها.

 أوردوليبرالية Ordolibéralisme

 ظهر هذا الاتجاه الليبرالي في ألمانيا في الثلاثينيات القرن المنصرم. من أشهر ممثليه والتر أوكن W Euken. تتمثل مهمة الدولة، وفقًا لدعاة هذا التيار الفكري، في إقامة بيئة تتيح المنافسة الحرة، على أن يبقى البنك المركزي مستقلاً، وبمنأى عن التدخلات السياسية. ينبغي أيضًا، في نظرهم، أن تكون ميزانية الدولة متوازية. الأجور وشروط العمل لا تفرضها الدولة.

السياسة الحيوية biopolitique

يفيد هذا المصطلح عند فوكو كل فعل تتدخل بواسطته السياسة في مجال الكائن الحي (الصحة والنظافة والجنسانية ومعدل المواليد ...) أما السلطة الحيوية فتمارس على خصائص الحياة، تراقب وتتحكم في البشر بوصفهم أجسادًا وسكانًا، في حين أن مفاهيم السلطة القديمة كانت تمارس على النفوس.

 

المصدر:

 

Penser Foucault vivant

Judith Revel

In Le Point Hors-Série N: 16

Michel Foucault L’anti-système

Juin – Juillet 2014 p 73- 76


عدد القراء: 656

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-