القرن العشرون أو نقد الديمقراطيةالباب: مقالات الكتاب
محمد نجيب فرطميسي المغرب |
مريم ريفو ـ دالون Myriem Revaut-d’Allonnes
دالون فيلسوفة ومدرسة بالمدرسة التطبيقية للدراسات العاليا.
ترجمة: محمد نجيب فرطميسي
القرن العشرون هو قرن لينين وهيتلر ودوغول وغاندي، قرن الأنظمة الكليانية في حربها ضد ديمقراطيات أضعفتها تناقضاتها. القرن العشرون هو قرن العنف الأيديولوجي والأوهام.
تواجهنا، مع مطلع القرن الواحد والعشرين، صعوبات من أجل موضعة وتحليل، بل تسمية بعض مظاهر واقعنا السياسي: كيف نعبر اليوم عن التفاوت الاجتماعي وقد اختفت من معجمنا لغة الصراع الطبقي كما تداولناها في القرن الماضي؟ أي صفة نضفيها على ضروب الاقصاء الجديدة وعلى العنف الذي يداهم مجتمعات يسودها السلام وتنعم بالاستقرار؟ ماذا عن تفاقم حجم المطالبة بكيانات مستقلة؟ وماذا عن سؤال حقوق الانسان والمواجهة العنيفة بين مطلب القيم الكونية وصعود الخصوصيات؟
للامساك بطبيعة هذه الظواهر، لا بد من العودة للمناظرات والصراعات التي عرفها القرن العشرون، تلك التي ورثناها اليوم. ظهرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي أنظمة فريدة من نوعها، نطلق عليها اسم "الكليانية": الفاشية بإيطاليا والشيوعية مع الثورة الروسية بقيادة منظرها الأكبر لينين والقوميةـ الاشتراكية بألمانيا. تغاضى بشكل أول بآخر كارل سميث (1888 - 1985) K.Schmitt، الذي انتقد سابقًا وبشدة الديمقراطية الألمانية الليبرالية، عن فضائح النظام النازي.
هذه هي الأنساق التي اصطدمت بها (على الأقل حتى نهاية الحرب الباردة) الديمقراطية. هيمن هذا التعارض على المناظرات الفكرية، مثلما تحكّم في السياسة الواقعية، كما كان وقع انهيار الأنظمة الكليانيةـ تجسد رمزيًا في سقوط حائط برلين سنة 1989ـ قويًا على وعي الانسان الأوروبي. لم يشكل فقط، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي إمانويل لوفيناس (1905ـ1995) E.Levinas، سقوط الشيوعية نهاية نظام هيمن كليًا على إيديولوجية دولة تتوخى اكتمال الإنسانية بل "توارى الأفق الذي يلوح خلف الشيوعية واختفى الأمل والوعد بالخلاص". حل زمن من دون آمال محل زمن " يعد بشيء ما".
رعب وإيديولوجية
لم يكن فقط التعارض القائم بين الديمقراطية والكليانية تعارضًا من طبيعة "إيديولوجية" يتوخى تعزيز القناعات الطيعة للديمقراطية الليبرالية. كانت الأنظمة الكليانية ـ بما فيها القومية ـ الاشتراكية والشيوعية ـ هي المحاولة الأشد تطرفًا والتي لم تعرف الإنسانية مثيلاً لها من حيث التقويض الكلي للسياسة. ركزت، في حقل الفكر السياسي، حنة أرندت (1900 - 1972) H.Arendt وكلود لوفور (ازداد سنة 1924) C.Lefort، رغم الاختلاف بينهما، على هدم الأنظمة الكليانية الكلي للأسس التي تقوم عليها الجماعة السياسية وحول العنف الممارس على شروط العيش المشترك. ما يميز الأنظمة الكليانية أنها ضروب فريدة من الحداثة، غير قابلة للاختزال في أنظمة الهيمنة التقليدية التي سبق التعريف بها في التصنيف الكلاسيكي للأنظمة السياسية (كما عرفها الإغريق أو تلك التي تحدث عنها مفكرو القرن الثامن عشر). إنها لا تتحدد كليًا في السلطة الديكتاتورية أو في أي نظام تسلطي يتوخى بالأساس تقليص ممارسة الحريات العامة.
تتمثل خصوصية هذه الأنظمة الكليانية كونها أفلحت في تحقيق ضرب من الهيمنة تنظم، على حد تعبير حنة أراندت، "تعبئة الجماهير" مُدمجة في الآن معًا "الرعب" و"الإيديولوجية" على نحو نتج عنه "دمار" شامل. يبطل الرعب كل أشكال المجال بين البشر، إذ أصبحوا محض جموع، بله ركامًا من العينات المتشابهة. يتجلى بشكل ملموس المس بدعائم بنيان المجتمع السياسي في الاستهام الشمولي لمجتمع متجانس، مجتمع خال من الصراعات والانقسامات، مجتمع يتحكم بالكامل في تنظيم الحياة السياسية.
ولذلك فليس من المستغرب أن يكون نقد الكليانية في سبعينيات القرن الماضي قد ساهم في إعادة تفعيل وإعادة تأهيل فكرة انعدام وجمود واقع اجتماعي وسياسي خال من الصراعات كيفما كانت. وجد بهذا المعنى، هذا النقد أطروحات مفضلة لدى الليبرالية السياسية، خاصة الأهمية التي توليها هذه الأخيرة للحياة العمومية. تُعد، في هذا الصدد، كتابات الفيلسوف الأمريكي جون راولز (1921 - 2002) J.Rawls متميزة وأصيلة فكريًا، إذ لا تختزل الديمقراطية السياسية في إكراهات السوق وفي تجاوز التعارض القائم بين الحرية والمساواة، بين العدالة الاجتماعية والنجاعة الاقتصادية. في حين لا يقر مفكرون آخرون، أمثال فريدريك فون هايك (1899 - 1992) F.von Hayek بصلاحية مفهوم العدالة الاجتماعية وهم بذلك يدعمون فكرة أن السوق نظام تلقائي مستقل تماما عن إرادة البشر.
"نهاية التاريخ" ضد "صدام الحضارات"
الأثر الأشد مفارقة لسقوط الأنظمة الكليانية هو في الوقت ذاته، ومن دون شك، الكيفية التي بلورت بها الديمقراطية ضربا من الاجماع وأفلحت في أن تضفي على نفسها صبغة عالمية على حساب الهشاشة وعدم التماسك. اكتست الديمقراطية، عندما اقترنت باحترام حقوق الانسان، وتم تثمينها أخلاقيا، حمولة إيجابية.
اقترن تضخم "ما هو قانوني" خاصة في الولايات المتحدة ـ يشهد على ذلك تراجع ما هو سياسي أمام إضفاء الصبغة القانونية على حياة البشر ـ بسقوط الأنظمة الشيوعية وازدهار الثقافة الثورية في الديمقراطيات الكبرى: حيث عرف نقد الديمقراطية "البرجوازية" أو "الصورية" المتعارضة مع الديمقراطية "الواقعية" فتورًا قويًا. وجد بعض المفكرين المعاصرين، أمثال يورغن هابرماس (1929) J.Hebermasفي ألماتيا ورونالد وركين (1931) R.Dworkinبالولايات المتحدة، في التركيبة التي حدثت أخيرًا بين حقوق الانسان والليبرالية والديمقراطية تحقيق برنامج الحداثة السياسية.
لكن الأمور ليست بهذه السهولة. واجهت الديمقراطية، بعدما أضحت ضربًا من "المجال المشترك" حيث لا أحد يفكر في الاعتراض على قيمتها المعيارية، مشاكل متجددة ومتفردة. عندما وجدت الديمقراطية نفسها (على الأقل) من دون بديل في الخارج ومن دون معرضة حقيقية في الداخل، أصبحت لا فقط خالية من المعنى، بل مقترنة بكل بساطة بهيمنة التبادل السلعي المعمم الذي يميز، حسب الفيلسوف فرانسيس فوكوياما (1952) F.Fukuyama "نهاية التاريخ"، حيث يتوحد المجال ويكتسي كوكب الأرض طابع التشابه حول السوق العالمية.
فند الحادي عشر من شتبر 2001 هذا التأويل، إذ سلط الضوء على الأطروحة المخالفة، أطروحة "صدام الحضارات" التي قال بها صامويل هانتنغتونS.Huntington. نعيش اليوم في عالم مجزأ، عالم منقسم بفعل حرب الثقافات وصدام الهويات: هذا ما سيكون عليه الأفق الجديد لعهدنا الذي يتعذر تخطيه. هذا ما أدى لتعطيل فكرة انتشار الديمقراطية عالميًا.
إننا، فيما يبدو، أبعد ما نكون عن المناظرات الأيديولوجية والسياسية الكبرى التي شكلت التعارض القائم بين الديمقراطية والأنظمة الكليانية. لكننا نلاحظ مع ذلك أن ذروة العنف الأيديولوجي الذي عرفه القرن العشرين لم يعقبها عهد يسوده السلام وينعم بالطمأنينة. لا يسعنا هنا إلا التذكير بالرؤية المتبصرة للفيلسوفة حنة أرندت: "من المحتمل جدًا أن تفلح الحلول الكليانية في البقاء رغم سقوط الأنظمة الكليانية، وذلك في صيغة محاولات جادة تطفو على السطح كلما لاحت إمكانية التخفيف من حدة الفقر السياسي والاجتماعي والاقتصادي بكيفية تليق بالإنسان". قد تكون هذه أكبر العقبات التي تقف في وجه حاضرنا حاليًا.
المصدر:
Myriam Revault-d’Allonnes Le XXe siècle ou la critique de la démocratie In Le Point Hors-série
Les textes fondamentaux de la pensée politique Sept-Oct. 2008. P 93 -95
تغريد
اكتب تعليقك