لماذا ما فتئت الفلسفة القديمة تخاطبنا؟الباب: مقالات الكتاب
محمد نجيب فرطميسي المغرب |
فابيان تريكور Fabien Trécourt
ترجمة: محمد نجيب فرطميسي
كانت الحقبة اليونانية القديمة L’Antiquité، مقارنة بمجتمعاتنا الحالية، بيئة عنيفة، مجحفة وجائرة، تؤمن بالخرافات ... فقد اتهم، على سبيل المثال، سقراط بـ"إفساد عقول الشباب" وحُكم عليه بشرب السم، فقط لأنه تجرأ على التشكيك في معتقدات مواطنيه وعقائدهم. تعايش الفلاسفة الأوائل، طيلة الحقبة القديمة، مع حرية التعبير النسبية، ومع القيم الأخلاقية والسياسية البعيدة كل البعد عن قيمنا الحالية. يحضر ذلك بوضوح في كتاباتهم. إن كانت حدوسهم صائبة، حول هذه المسألة أو تلك، بل متقدمة أحيانًا على معاصريهم، فإن بعضًا من أفكارهم تبدو متجاوزة بله صادمة بالنظر لمعاييرنا الأخلاقية المعاصرة. أما على المستوى النظري، فلم يخرجوا عن المألوف. يتداخل عندهم العلم والدين والأسطورة في تأويل الظواهر؛ الطبيعية، والبيولوجية ... لدرجة يصعب اليوم وصف هذه النظريات بـ"العلمية". نفس الأمر يصدق على دراسة الاقتصاد، والتاريخ والمجتمع، إذ لم تنضج بعد، تنهل بكيفية مستفيضة من الأحكام الجاهزة والمعتقدات غير المبررة. ما الفائدة إذن من الانشغال اليوم بالفلسفة القديمة، إن لم يكن الأمر ضربًا من الترف الثقافي؟ لماذا ما زالت هذه الفلسفة تحظى باهتمام الأساتذة الجامعيين والعلماء، وجمهور عريض متعطش للحكمة؟
مشكلات خالدة
يعود أولاً تفسير هذه الظاهرة لطبيعة الاختلاف بين الأسئلة والأجوبة. حتى وإن بدت الأجوبة متجاوزة، فإن الأسئلة ما زالت تتمتع بحضورها الراهن: ما العالم؟ ما طبيعة الأشياء بمعزل عن الانطباع الأول عنها؟ هل تعكس الكلمات، التي نستعملها للتعبير عن هذه الأشياء، الحقيقة؟ كيف نميز الصواب من الخطأ، الواقع من الوهم؟ الفلسفة القديمة، كما تطرق لذلك أرسطو في مؤلفه "ما وراء الطبيعة" هي قبل كل شيء مساءلة للبداهات، وفن الاندهاش مما لا يُدهش إنسانًا بتاتًا. هكذا شك الحكماء الأوائل، فيتاغورس وطاليس وديمقريطس في ملاحظاتهم ومعتقداتهم، وأعلوا من شأن البرهان العقلي: أشياء غير مرئية لكنها موجودة منطقيًا، كالفراغ واللانهائي أو الذرات. اكتست اللغة، بفضل هذه الطريقة في التفكير، وضعًا متميزًا، نظرًا لقدرتها على استيعاب هذه الوقائع اللامرئية. لقد اقتضت الضرورة، بحكم أن الكلمات هي أيضًا مصدر الأوهام والخيالات، ولتفادي الوقوع في التناقض، والقبول بنتائج وفرضيات ما نفكر فيه، صياغة قواعد الخطاب السليم. هكذا ازدهر، مع ميلاد الفلسفة، المنطق والرياضيات والهندسة.
فتح، بصفة عامة، الإغريق القدامى، ثلاثة ورش ما زالت حاضرة إلى الآن، يتعلق الأمر بالطبيعيات (ما هو سين؟) والمنطق (ضمن أي شروط يمكننا القول إن سين تساوي سين؟) والأخلاق (كيف نحيا مع سين؟). اكتست هذه الأسئلة، مع أفلاطون، طابعًا نسقيًا، مما جعل الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد Whitehead يختزل كل التقليد الفلسفي الغربي "في سلسلة من الحواشي دًونت على هامش صفحات مؤلفات أفلاطون". كما اعتبر الفيلسوف الألماني كارل ياسبرزKarl Jaspers في كتابه "أصل التاريخ ومعناه"، أن هذه التساؤلات حاضرة تقريبًا في العالم طيلة الألفية الأولى من تاريخنا الراهن. يشهد على ذلك ظهور البوذية والهندوسية والزرادشتية ...إلخ. هكذا شكلت، بالنسبة لياسبرز، الحقبة القديمة "مرحلة محورية" واضعة الأسس الروحية للإنسانية. "تتمثل - في نظره - جدة هذه المرحلة في وعي الانسان بذاته وبحدوده، وبالوجود في كليته. إذ واجه الانسان العالم الرهيب، كما واجه أيضًا عجزه الذاتي، طارحًا أسئلة جوهرية وحاسمة، ومتطلعًا لتحرره وخلاصه ... ففي هذه الحقبة بالذات تشكلت المقولات التي ما زلنا نفكر بها الى اليوم".
الفهم سبيل الفعل
توجد أنماط الحياة، خلف أنماط التفكير. لا يكتسي بالنسبة لعالم الفيزياء، كونك اليوم جاليليا، أي معنى، فلقد عزز التقدم العلمي برادغمات (نماذج إرشادية) جديدة، نفس الآمر بالنسبة لعلماء البيولوجية والهندسة ...إلخ. لكن يمكن في المقابل، أن نقرر العيش في القرن الواحد والعشرين، على نحو أفلاطوني. يمكن أن نطبق يوميًا تعاليم الرواقيين، أو الأبيقوريين، الشكاك أو الكلبيين. كيف يُفسر هذا الاختلاف؟ يُفسر بكل بساطة بكون الرهانات الأخلاقية تعلو، في نظر القدماء، على الأفكار المجردة. "لم يكن فلاسفة الحقبة القديمة، الإغريق والرومان، مؤلفي كتب، " كما لخص ذلك مؤرخ الفلسفة بيير هادوP. Hadot في كتابه "ما الفلسفة القديمة؟" فقد: "كانوا في الواقع يشتغلون، عندما يكتبون، لتغيير رؤيتهم للعالم، لذواتهم، لإحساساتهم، بغية تغيير وجودهم ذاته... حتى التأملات الأشد تجريدًا (في الطبيعيات والميتافيزيقا والفلك) كانت موجهة للفهم بغية التصرف على نحو أفضل، ولم تكن تتوخى المعرفة من أجل المعرفة في حد ذاتها".
يمكننا على سبيل المثال، الحكم بأن المذهب الذري الأبيقوري أضحى اليوم متجاوزًا بالنظر للأعمال الأخيرة للميكانيكا الكوانطية، بيد أن تصور الأبيقوريين عن الحياة المقترن بهذه النظرية، ما زال مع ذلك حاملاً للمعنى: ما الكائن البشري، في نظرهم، إلا حزمة من الذرات، ثمرة صدفة في عالم لامتناهي، لا يحظى فيه الإنسان بأي امتياز أو وضع خاص ... أدرجت الأبيقورية فلسفتها الطبيعية في إطار نقد شامل للاعتزاز بالنفس والتمركز حول الذات والرغبات المنفلتة من عقالها. كان الانخراط، بكيفية عامة، في مدرسة فلسفية، في اليونان القديمة، شبيهًا شيئًا ما بالالتحاق بدير الرهبان. نقبل فيه العيش جماعة، زاهدين في الدنيا، تحت رعاية معلم ملهم روحيًا. لم تكن الفلسفة في سماء الأفكار بقدر ما كانت في علاقات التربية هذه، علاقات الصداقة والمحبة ... حتى أفلاطون، وهو الوحيد الذي وصلتنا لحد الآن مؤلفاته المكتوبة، يشرح في الرسالة السابعة أن نصوصه لا تقدم إلا صيغة مستنفدة عن فلسفته. يشير بيير هادو إلى أن "أفلاطون لم يؤلف، فيما يتعلق بمجال اهتماماته، عملاً مكتوبًا. الحال أن الأمر يتعلق بمعرفة لا يمكن نهائيًا صياغتها كما تصاغ المعارف الأخرى، بل بمعرفة تتدفق في النفس، عندما نستأنس ولمدة طويلة مع ما يمثله هذا النشاط، الذي كرسنا له حياتنا".
أقام الفلاسفة القدماء، حسب الفيلسوف بالودي J-F Ballaudé ضربًا من التراتبية بين الخطابات الجوانية والخطابات الشفوية والخطابات المكتوبة، معتبرين أن الخطابين الأولين يميزان النفس البشرية ويحددانها في بحثها عن ذاتها، عن الحق، عن الجميل وعن الخير. لا تؤدي، في نظر القدماء، النصوص التي وصلتنا إلا وظيفة الاستذكار والإرسال. إن شئت قلت إنها محض تدوينات، لملاحظات قائمة، إحاطات، توليفات لمسعى البحث وتركيب للنتيجة. ستغدو الفلسفة الحقة "حياة فلسفية" bios philosophikos تشمل ما دعاه بيير هادو "تمارين روحية": تأملات، حوار، وتفكر... تمارين تسعفنا لتحقيق التحول والاكتمال، والعيش في وفاق وانسجام مع أفكارنا. تتمثل هذه التمارين، على سبيل المثال، مع أفلاطون في إيقاظ الجانب العاقل في النفس، وفي إعادة تنظيم رغباتنا لبلوغ "صفاء النفس" مع أبيقور، والتجرد من ممتلكاتنا ومن كل يقين، كما هو الشأن مع بيرون، أو العيش عيشة "كلب" ينام عند مفترق الطرق وفي مأمن داخل برميل، على غرار ديوجين الكلبي.
لا يمكن إثبات صلاحية فلسفة ما بناء على شعبيتها، أو ثقة جماعة من الناس فيها أو سلطتها التفسيرية، بل بالنظر للطريقة التي يعيش بها الحكيم حياته كما يتصورها هو. يتميز هذا التصور أيضًا بكونه يتقدم في السنين بشكل جيد: حتى إن كنا نختلف مع إيتيقا الحياة الخاصة بهذا التيار الفلسفي القديم أو ذاك فإننا نقبل عمومًا بضرورة العيش في انسجام مع مُثلنا، وهو أمر ليس بالهين ولا بالممكن. يبدو دومًا الاشتغال على الذات صعبًا وملزمًا، وأحيانًا مخالفا لمصلحتنا الآنية أو اكراهات وسطنا البيئي، إنه ضروري لتحقيق انسجام الفكر والفعل. إن الفلسفة القديمة عندما تحثنا على القيام بكل هذا، من دون أن تقدم أجوبة جاهزة، تبقى على دوام البداية.
المصدر:
Fabien Trécourt : «Pourquoi la philosophie antique nous parle encore»
Sciences Humaines Hors-Série, N : 12
Les sagesses Antiques Juillet 2022 P 6 – 9
تغريد
اكتب تعليقك