من الأسطورة إلى العقلالباب: مقالات الكتاب
محمد نجيب فرطميسي المغرب |
ترجمة: محمد نجيب فرطميسي
هي فكرة على قدر كبير من الدقة والعمق، قال بها الفيلسوف الألماني هيجل، لم ينتبه إليها إلا القليل من القراء، مفادها أن الفكر العقلاني (يفكر هنا هيجل في الفلسفة) علمنة لدين سابق عليه: يتعلق الأمر في حالة المثالية الألمانية بعلمنة الإصلاح البروتستانتي ويهم في حالة العقلانية الإغريقية الثقافة الأسطورية|. كما ذهب أيضًا جان ـ بيير فرنان J-P Vernant إلى أن العقلانية القديمة (الإغريقية)، "تنقل بكيفية علمانية وعلى مستوى الفكر المجرد، نسق التمثل الذي بلوره الدين. هكذا تستعيد كسمولوجيات الفلاسفة وتطيل أمد أساطير أصل الكون ... لا يتعلق الأمر بتماثل مبهم وغامض. إذ تتطابق البنيات، إلى حد كبير بين فلسفة أنكسماندر وأصل الآلهة للشاعر هزيود."
تمت هذه الثورة ـ دائمًا حسب فيرنان ـ في إطار الاستمرارية على ثلاثة مستويات: أولاً، عوض الكلام، كما هو الشأن في الميثولوجيا، بلغة القرابة ـ "زيوس هو ابن كرونوس، وهذا الأخير ابن أورانوس" ألخ ـ ستعبر الفيزياء عن نفسها بمصطلحات السببية والتفسير: يتسبب هذا العنصر في ذاك العنصر، وتسفر هذه الظواهر عن هذه النتائج وهكذا دواليك. لن يتكلم، فيما بعد، الفيزيائيون عن جيا Gaîa أورانوس أو بونتوس، بل عن الأرض والسماء والماء: ستخلي الآلهة المكان للعناصر الطبيعية. لا تعيق، مع ذلك، هذه القطيعة مع الأسطورة، الاستمرارية: ورث كوسموس الفلاسفة السمات الأساسية (الانسجام والدقة والجمال .... الخ) للتصورات الأسطورية القديمة عن الكون.
وزع زيوس، عندما انتصر على العمالقة في الحرب، العالمَ على الآلهة الذين ساندوه، مانحا إياهم ما يستحقونه. وهكذا يكون قد وضع بفعله هذا أسس كون منسجم وعادل، تبقى على مساعديه مهمة السهر عليه وحمايته. ستظهر أخيرًا شخصية العالِم، مختلفة تمامًا عن شخصية الكاهن: لا يستمد العالِم سلطته من أسرار يمتلكها، بل من حقائق يذيعها ويشيعها، ليست ألغازًا، بل حججًا عقلية.
ينبغي توسيع نطاق تمفصلات هذا الانتقال من الميتوس إلى اللوغوس، من الأسطورة إلى العقل. وينبغي أيضًا التأكيد على أن العلوم الرياضية وعلم الفلك والفيزياء أو البيولوجيا، لم تكن في المرحلة اليونانية منفصلة، كما هي عليه اليوم، عن الفلسفات الكبرى. لنكتفي هنا بتقديم أفضل تعبير عن هذا التحول الكبير، مستلهمين أوديسة الشاعر هوميروس.
ملامح النسيان
خاض أوليس، ملك إيثاكيا، لعشر سنوات حربًا ضروسًا واجه فيها الإغريق أهل طروادة. بدأ كل شيء بالنسبة إليه، بنزاع مسلح، وكان المغزى من سفره، الذي هو في نفس الحين معنى الحياة، هو العثور على الانسجام المفقود، هو هذه المنطقة من الكون التي غادرها مكرها. كان أوليس، عندما وضعت الحرب أوزارها بفضل خدعة حصان طروادة، يفكر في شيء واحد، العودة إلى إيثاكيا واستعادة عالمه وقصره ومعانقة زوجته بينلوب وابنه تيليماك. لكن هذه العودة لم تكن من السهولة بمكان، بل استغرقت عشر سنوات، بعد حرب دامت هي الأخرى عشر سنوات. لماذا هذه العودة طويلة بهذا الشكل؟ لأن أوليس، أثناء إحدى حلقات هذه الحكاية، فقأ عين السيكلوب الوحيدة. والحال أن هذه الشخصية هو أحد أبناء الاله الجبار بوسيدون: إله البحر والماء.
تقتضي القاعدة أن يثأر الأب لابنه. سيخلق بوسيدون على طول طريق عودة أوليس عوائق محفوفة بالمخاطر. لم تكن هذه العوائق محض صدفة، بل تم اختيارها بعناية فائقة. ترتبط في جميع الحالات بالنسيان، يتعلق الأمر بالنسبة لبوسيدون بجعل أوليس ينسى الغرض من سفره الذي يذهب من الحرب إلى السلم، من الفوضى إلى الانسجام، من "مكان لا ينتمي إليه" إلى "مسكنه". يعمل الإله كل ما في وسعه لكي يفقد ملك إيثاكيا ذاكرته، لكي يوقف مسعاه ويضع حدًا للوعي بمعنى وجوده، وفي نفس الآن بهويته بوصفه كائنًا فان. تجسدت تلك العوائق في نشيد حوريات البحر والساحرة تسيرس وحبات زهرة اللوتس التي تفقد الذكرة والنوم العميق الذي انتاب البطل في غفلة منه وهو على مقربة من جزيرته، إذ اهتزت ريح عاتية ألقت به في لج البحر: كل هذه الأحداث والعوائق هي ملامح النسيان.
يحضر بين كل هذه العوائق، عائق يعبر خير تعبير عن الدلالة الفلسفية لهذه الحكاية المؤسسة، يحمل اسمًا جميلاً: كاليبسو. تعمل الإلهة الفاتنة، كما ذكر هوميروس، كل ما بوسعها لينسى أوليس موطنه. قاوم البطل، رغم كل هذه الإغراءات ورغم سحر الجزيرة وفتنة كاليبسو، ولم يوقف مسعاه في العودة إلى "مكانه الطبيعي"، مكانه في نظام الكون، إذ لم يكف عن البكاء كل مساء وهو يتأمل المحيط. قرر زيوس، بطلب من الإلهة أثينا، أنه آن أوان عودة أوليس. أرسل رسوله هيرمس لكي يحرره من سجن الحورية كاليبسو ويغادر الجزيرة. عرضت الفاتنة كاليبسو على معشوقها، ليبقى إلى جانبها، أجمل هدية يمكن تقديمها لإنسان: الخلود والشباب الدائم. رفض أوليس، خلافًا لكل التوقعات، الصفقة. يمكن أن نقرأ في هذا الرفض أعمق رسالة ستأخذها الفلسفة الإغريقية في الاعتبار، لا بكيفية أسطورية أدبية، بل بكيفية مفهومية، وبمعنى إغريقي، بكيفية "علمية": ليست غاية الوجود الإنساني، كما تدعي الأديان، الفوز بالخلاص الأبدي وبلوغ الخلود، الحال أن حياة فانية كريمة أفضل بكثير من حياة أبدية تافهة. الهدف من الفلسفة هو تحديد الحياة الكريمة من دون آلهة ولا عقيدة، والقبول بتناهي الإنسانية. جوهر الفلسفة هو البحث عن مذهب للخلاص من دون آلهة، روحانية علمانية تفترض قبل كل شيء القبول بوضعية التناهي. يتعلق الأمر بعنصرين سيشكلان تعريف الحياة التي يدركها الحكيم عندما يتخلص من الحياة اليومية ليلج الحياة الفلسفية. إنه ذاك الذي سينتصر، ما استطاع لذلك سبيلاً، عند القبول بتناهي الإنسانية، على الخوف من الموت. وهو أيضًا ذاك الذي يفلح في أن يعيش الحاضر، ويتصالح مع ما هو موجود، مع ذاته ومع الآخرين ومع العالم.
عليه، لكي يدرك هذا المقام، أن يعرف العالم، ويسخر العلوم العقلانية لتشكيل صورة مكتملة ما أمكن عن نظام الكون، حيث يعثر كل واحد، شأن أوليس، على مكانه الذي يليق به. يعيش الإنسان العادي في سراب الماضي والمستقبل، إذ من فرط تجاهله للحاضر، يفوت على نفسه الاستمتاع بالحياة. هذا فعلاً هو أفضل إرث فلسفي للأوديسة: ما دام أوليس في حرب أوفي سفر، فإنه يعيش باستمرار في الماضي أو في المستقبل. إنه في حالة حنين الى الماضي أو في ترج للمستقبل، لا في عشق إيثاكيا. يتعلق الأمر ب Amor fati كما قال نيتشه، حب القدر، حب ما يوجد هنا، هذا القدر المحتوم. هذه أول رسالة فلسفية للمرحلة الإغريقية، اتضحت معالمها، عند نهاية الأوديسة، وكانت عودة أوليس إلى موطنه أفضل تعبير عنها.
المصدر:
Luc Ferry: «Du mythe à la raison»
In Le Point Hors-série
Penser avec les Grecs
Oct – Nov 2021 p 36- 37
تغريد
اكتب تعليقك