التلميحات التاريخية والأدبية في رواية «عزازِل» للكاتب الروسي المعاصر بوريس أكونينالباب: مقالات الكتاب
حسين علي خضير كلية اللغات – جامعة بغداد |
الكتاب: "عزازل"
المؤلف: بوريس أكونين
المترجم: إبراهيم استنبولي
الناشر: دار سؤال
اللغة: العربية
سنة النشر: 2019
عدد الصفحات: 360 صفحة
تدور أحداث هذه الرواية في القرن التاسع عشر، وتحديدًا في زمن الكاتب الكبير دوستويفسكي، ويبدو للقارئ من أول وهلة ان بوريس إكونين واقع تحت تأثير هذه الحقبة، ولكن نصه ملغومًا بالمفاجأة، سيتمكن القارئ من الحصول على بعض المعلومات التاريخية. يبلغ عمر بطل الرواية عشرون عامًا فقط، وهو موهوب جدًا، ويتضح أنه في المستقبل سيصبح محققًا ممتازًا ذا شخصية قوية وشجاعة.
تبدأ الرواية بقصة انتحار شاب غريب الأطوار وكان وريث ثروة كبيرة جدًا، عند التحقيق في هذه القضية، يكتشف إراست أن منظمة تقودها امرأة عجوز مجنونة تُدعى الليدي إستر. هذه المرأة تريد السيطرة على العالم. أحيانًا تبدو ايجابية جدًا فهي تعمل في الأعمال الخيرية، ومن ناحية أخرى، تبحث عن الأطفال الموهوبين وتعمل على تعليمهم، وتضع المعلومات التي تحتاجها في رؤوسهم. بعد ذلك، تشجع هؤلاء الأشخاص على تولي مناصب قيادية في بلدان مختلفة. وبالتالي، فإنها تريد الحصول على السلطة في يديها. أما منظمتها تحمل اسم "عزازِل"، وتعتقد تلك العجوز أنها من خلال تعليم أطفالها بشكل صحيح، فأنها تصنع منهم سلاحًا سيساعدها في الصراع على السلطة، ولا تتوانى أبدًا في ضرب عنق كل من يقف في طريقها.
حبكة الرواية مبنية بطريقة غير عادية، ويبدو دائمًا أن الحل قد اقترب بالفعل، حتى عندما يتم الكشف عن الحقائق، ولكنها تدور في دوامة الأحداث بشكل أكبر، مما يثير أسئلة جديدة. سيضطر إراست فاندورين إلى المخاطرة بحياته أكثر من مرة بحثًا عن الحقيقة، الأمر الذي لن يمنعه من تجربة الحب وفقدانه، حتى نهاية القصة، تظل المؤامرة قائمة، وستكون نتيجة الأحداث غير متوقعة للغاية. جميع ابطال الرواية مستقلون في تفكيرهم، البعض منهم طائش والبعض الاخر طموح وغيرهم مفرطون في التفكير.
من خلال قراءتي لهذه الرواية المليئة بالأحداث والتلميحات الأدبية والتاريخية وجدت أن الكاتب يعرف جيدًا كيف يستغل الوقائع التاريخية ويعكسها في روايته، فقد تطرق إلى مواضيع عديدة، ومن ضمنها موضوع (العدميين) الذي ناقشه الكاتب ايفان تورغينيف في روايته "الآباء والبنون"، ولكنه في هذه الرواية صورهم الكاتب كمنظمة تقوم بأعمال اجرامية، فيقول: «وأن أولئك العدميين من مختلف البلدان يرفعون بشكل دوري تقاريرهم المشفرة بأرقام إلى مجلس الثوري المركزي عن الأعمال الإرهابية التي قاموا بتنفيذها!»(1) ، وأيضًا حاول الكاتب أن يقحم رواية (الشياطين) للكاتب الكبير دوستويفسكي بالأحداث التي تجري بالرواية، فيقول: «مالم يتم استئصال السرطان في بداية ظهوره، فإن هؤلاء الرومانسيين سوف يفجرون لنا بعد حوالي ثلاثين سنة، وربما قبل ذلك، مثل تلك الثورة التي سوف تبدو معها مقصلة الثورة الفرنسية مجّرد مزحة لطيفة جدًا. لن يمنحونا فرصة لكي نهرم بهدوء، تذكّر كلمتي هذه. هل قرأت رواية (الشياطين) للسيد دوستويفسكي؟ عبثًا. لقد تنبأ بكل ذلك بشكل بليغ».(2). اما أسماء الشخصيات الرئيسية إراست وليزا وردت في الرواية ليس من باب الصدفة، بل الكاتب كان مخططًا لها بعناية فائقة، فيقول على لسان ليزا زوجة البطل إراست: «بيد أن تخيلاتي كانت تنهي على الدوام وفي كل مرة بطريقة مؤسفة ومأساوية. وكل هذا بسبب "ليزا التعسة". ليزا وإراست، هل تذكر؟ كنتُ معجبة على الدوام بهذا الاسم – إراست، إلى أقصى درجة. فأتخيل لنفسي التالي: أنا مستلقية في تابوت شاحبة وفاتنة، مغمورة بورود جورية بيضاء، تارة أتعرق وتارة أموت بداء السل، أما أنتم فتنتحبون جميعكم»(3)، وفعلاً، في نهاية الرواية تحقق تخيلاتها وتموت بثوبها الابيض في ليلة عرسها. وهنا المقصود بليزا ووإراست رواية الكاتب نيكولاي كارامزين التي نشرت في عام 1792 وبطلاها أيضًا يحملان نفس الاسم وهذا دليل قاطع على ما قلنا سابقًا الرواية مليئة بالتلميحات الأدبية والتاريخية، وليس هذا فقط، بل حتى الإشارات التاريخية حاضرة في هذه الرواية: رجل يُدعى غبهاردت – هو حاول في نهاية الرواية إجراء تجربة على بطل الرواية إراست وهو نفس اسم أحد المتهمين الرئيسيين بإجراء تجارب على الناس خلال الحرب العالمية الثانية، وهو من الشخصيات النازية المعروفة آنذاك.
واخيرًا، لابد أن اعترف أن المعرفة العميقة لتاريخ روسيا والاطلاع الهائل لهذا الكاتب جعلته يعكس صورة واقعية لحياة روسيا في القرن التاسع عشر، والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا، كيف استطاع هذا الكاتب أن يصف الأحداث بدقةٍ متناهية؟ وهذا الامر يُحسب للكاتب بوريس أكونين، ويذكرني بقراءتي لرواية (لاوروس) للكاتب يفغيني فودولازكين حين يصف الفترة التي انتشر فيها الطاعون وكيف كان دقيقا في وصف هذه الأحداث، ولكن مشكلة بطل أكونين في هذه الرواية لا يبحث عن اسباب الجريمة ومعرفة القاتل فحسب، بل يبحث عن أثبات ذاته والمجد وهذا الشعور ظل يرافقه حتى نهاية الرواية، لذلك الكاتب كان صوته طاغيًا حول هذا الامر، فيقول: «لقد سخر القدر بقسوة من فاندورين، أغواه المجد ودفعه بعيدًا عن المسار الرئيسي للأحداث إلى طريق فرعي ليس ذا شأن...»(4). أذن، يلوح في الأفق بأن أزمة اثبات الذات لدى الشباب موجودة في كل عصر وزمان، أما بطل فودولازكين يعرف علته ولا يحتاج إلى اثبات ذاتهُ ولا يبحث عن المجد.
المصدر:
(1) بوريس أكونين: "عزازٍل"، ترجمة: د. إبراهيم استنبولي، الناشر: دار سؤال للنشر، الطبعة الأولى، 2019، ص 202.
(2) نفس المصدر، ص 122.
(3) نفس المصدر، ص 304.
(4) نفس المصدر، ص 265.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- ديمومة نصّ دوستويفسكي في عالمنا المعاصر
- أفكار تولستوي وتشيخوف حول الموت
- لماذا اعتبر ليف تولستوي الإسلام أفضل من الأُرثوذُكسية؟
- ديمتري بيكوف.. هل هو ظاهرة أدبية أم جنونية؟
- الأبعاد الفكرية في رواية «الجنازة المرحة»
- الإحباط الروحي لبطل رواية «روحي بافيل» في الحقبة السوفيتية
- الهوس الفكري وأثره على أبطال رواية (آل بتروف والانفلونزا وحولها) للكاتب الروسي المعاصر اليكسي سالنيكوف
- الرسائل الأيديولوجية في رواية «انديغراوند أو بطل من زماننا» للكاتب فلاديمير ماكانين
- شك وخوف بطل تشيخوف في قصة: موت موظف
- التلميحات التاريخية والأدبية في رواية «عزازِل» للكاتب الروسي المعاصر بوريس أكونين
اكتب تعليقك