متعة الراوي والرواية والقارئالباب: مقالات الكتاب
عماد أحمد العالم |
انهيت حديثًا وبعد طول تردد قراءة رائعة فيكتور هوجو "البؤساء"، التي رغم شهرتها التي تعدت الحدود وترجمتها لعشرات اللغات وطباعة ملايين النسخ منها وتمثيلها بالعديد من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التي استوحت منها النص؛ إلا أنني وبإرادةٍ عربية متأصلة بقيت من حزب الممانعة والمعارضة، رافضًا أن أقتني هذه الرواية لأقرأها. لا أخفي عليكم أن هذا التجاهل الذي حرمت نفسي بسببه من المتعة اللامتناهية التي شعرت بها بعد قراءتي لها؛ كان بعد أن تعرضت لتلك اللوثة التي طالما خوفتني منها وحذرتني من كم النكد والحزن والتعاسة بها على لسان كل من توارت لمسامعهم، وبما يتوافق مع فكر الكثير ممن يرون في الرواية والقصة فقط "النهايات السعيدة"، التي غالبًا ما يكون فيها الحال بالنهاية تتويجًا لحكاية حب أو كفاح تنتهي وفق ما يتخيله القارئ الساعي، لأن يضع يده على خده بعد انتهائه منها, لينعم بنوم سعيد والابتسامة مزروعةٌ على وجهه، فهو الذي طالما أيقن أن قوى الخير ستنتصر على الشر، ويعم السلام، وتسود المحبة والوئام!
نزار قباني وبقريحته الشعرية وبفطنته الغريزية استدرك باكرًا حالة النشوة، التي تتشكل منها رغبات القارئ والمستمع والمشاهد العربي، فكان أن وصفها بقوله: الحب ليس روايةً شرقيةً بختامها يتزوج الأبطال!
بالفعل، فلو تابعنا عددًا من الأفلام السينمائية العربية لوجدناها موغلة في هذا النوع من النهايات، التي تتفق مع القول: "هذا ما يطلبه المتفرجون"، حتى إنهم تحدوا التاريخ، وزوروه حين زوجوا عبلة لعنتر في أحد تلك الأفلام الموغلة في السفاهة واستصغار عقل المشاهد, الذي لا يرغب أن يترك دار العرض وقتها, إلا وهو غير نادم على ما دفعه لأجل مشاهدة فيلم سينمائي، استمتع فيه بالرقص والغناء ونهايةٍ كما أرادها أن تكون!
عودة لتلك المشاعر التي تعترينا حين ننتقل في قراءتنا لأي عملٍ أدبي من مرحلة القراءة للقراءة؛ لمرحلة التوهان الإنساني والفكر والتأمل والنقد والسعي لمعرفة خفايا الكلمات والجمل والمواقف، واستنباط كينونة الأمور وحقيقتها المبطنة لا الظاهرة فقط. فتلك الغاية الأسمى والفائدة الأعظم من كونك قارئ نمت بينك وبين الكتاب - أيًّا كان ما يتطرق إليه - تلك العلاقة الأقرب للزواج الكاثوليكي، فلا أنت قادر على تركه إن لم يعجبك موضوعه، كما أنك مجبر على أن تواصل الاحتفاظ به بمكتبتك دون التفريط به أو إحطاط قيمته. أما إن توافقت معه، فهو علاقة حب أزلية. وقتها ما إن تقرأ آخر كلمة في آخر سطر من العمل الأدبي الذي تعايشت معه وقتًا من الزمن، لا بد لك أن تضعه جانبًا باحترام وإجلال في مكتبتك, فتنطلق عقبها في حالةٍ من السكينة الإنسانية المفعمة بمشاعر تفصلك عن الواقع الذي تعيشه. تحيي فيه مجددًا الشخصيات التي قرأت عنها وتحاول أن تربط الأحداث ببعضها، فيما أنت تتذكر وبنشوة المحب صورة لبعض الأحداث وما فيها من لحظات القسوة والضعف الإنساني والطمع والجشع والغدر والخيانة والمحبة والكره والظلم والعدل والإنصاف، وتتساءل: بالفعل هل كان المفروض من "جان فالجان" مثلاً وهو بطل رواية البؤساء أن لا يقمع ذاته ويذلها في نهاية الرواية عبر تغيره الدوني المفاجئ تجاه "كوزيت", تلك الطفلة التي انتشلها من براثن اليتم والذل ورباها حتى غدت توأم روحه وبمثابة ابنته, لكنه بعد أن أيقن أن زواجها من "ماريوس" بات قطعًا حُلُم حياتها, انصاع لتلك الرغبة وقمع ذاته ومن ثم بإيثارٍ فريد ارتأى رسم مستقبلها الجديد دون ماضيه الذي رآه غير مشرفٍ لها!
قطعًا لكي تستوعب التصرف المذكور لهذا الملاك المتجسد بشخص سجينٍ فارٍ من العدالة لا بد لك أن تعي معنى الإيثار وفق الطبيعة البشرية المختلفة والمتذبذبة والمتغيرة. ففي حين هي عند البعض سمو إنساني بلا مقابل؛ هي عند آخرين تضحية في غير محلها, ومن ثم تتوقع هذه الأخيرة أن يكون تصرفها مختلفًا إن حصل نفس الموقف معها, بل إنها ترى الفضل الذي قامت به يستوجب أن يكون جزاؤه حمدًا وتبجيلاً لا نفورًا وتجاهلاً.
من أبرز ما يمكن أن تتعلمه بوصفك قارئًا لرواية البؤساء لهوجو هو أن الحظ العاثر ليس مبالغة بمقدار كونه أحيانًا واقعًا يواجهه البعض, لكنه وفي كل مرة يتجاوزه, يحضر نفسه لعقبة ٍ أخرى، لا تنتقص من عزيمته في الوصول لهدفه، الذي قد يقطف من أحب ثمار نجاحه, دون أن يستمتع راعيه بتلك السعادة الأزلية حال تحقق كل مبتغاه. فيها وعدًا عن كونها رواية اجتماعية تعرض لظروف المجتمع في الحقبة التي أعقبت الثورة الفرنسية، رؤى سياسية غير مباشرة تعرض لها الكاتب دون أن يُظهر ميلاً جليًّا لأيديولوجية على أخرى, ولجماعاتٍ مختلفة وسلطةٍ حاكمة، تنوعت بين الملكية والإمبراطورية والجمهورية, أنهكت فرنسا لتترك أثرًا واضحًا في أخلاقيات المجتمع وتصرفاته ونمط معيشته وعاداته وتقاليده, وحجم الظلم والضيم الذي عمَّ تلك الحقبة, ونال الكاتب فيما بعد حين عاش منفيًّا خمسة عشر عامًا خلال حكم نابليون الثالث، من عام 1855 حتى عام 1870.
تطرقت البؤساء لجوانب إنسانية بحتة، تحدث بها هوجو عن الحب والحرب والطفولة المفقودة والسجن, كما حفلت بمشاعر إنسانية شديدة التعقيد, كرسها الصراعٍ المرير بين قوى الخير والشر، التي مثل جزء فيها شخص "السيد تينارديه", مالك الفندق الفاسد وزوجته المتجبرة اللذان عهد إليهما بالأساس لتربية الطفلة "كوزيت" نظير مبلغٍ مالي فاستعبداها وأذلاها. أما العدالة فقد ظهرت بأكثر من نمطٍ تجلى أبرزه في مفتش الشرطة "جافير", الذي لا يرى إلا القانون أمامه، ولكن دون أن يتشبع بروحه التي قام عليها وقُنن, وبإنسانيته التي تحتمل عدم تطبيقه والتغاضي عنه في حال رأى رجل الأمن أن الإصلاح يتطلب التغاضي عن الخطأ, وتجنيب العقاب والنصح والإرشاد فقط.
في هذه الرواية سيكتشف القارئ تسلسلاً فريدًا للأحداث وربطًا لشخصيات الرواية بطريقة، قلما أبدع بها راويٍ كفيكتور هوغو. فالشخصيات دومًا تتلاقى في فصلٍ ما من سرده, لنكتشف مثلاً أن تلك الفتاة التي افتدت ماريوس بحياتها حين تعرض لرصاصة من جند الحكومة؛ هي ابنة الجشع "تيناردييه" المُدللة التي أصبحت مومسًا فيما بعد وأحبت ماريوس. فيما أخوها الصغير هو من قتل في أثناء جمعه الذخيرة للثوار, والذي وللصدفة وقبل وفاته قد وجد طفلين صغيرين تائهين فآواهما دون أن يعرف أنهما أخواه!
في البؤساء ستعي أن سطوة الظلم مهما بلغت منتهاها, ستُهزم يومًا ما من شخصياتٍ قوية الإرادة, لا تيأس حتى تحقق مبتغاها.
في الأدب وعالمه السحري, لكل قاص وأديب أسلوبه وطريقته في الكتابة، وأجمل ما قد تستفيده من أي رواية تقرأها هو ما تحلق بك فيه في عالم من التفكير الإيجابي البناء، لتفهم كينونة النفس التي كتبتها، ومعرفة سر معانيها. لكنني وللأمانة أُسطر عشقًا أزليًّا لا ينتهي بانتهاء ما كتبه كل من الأسطورتين فيكتور هوغو كأحدب نوتردام, الحب الكبير, ملائكة بين اللهب, مذكرات محكوم عليه بالإعدام, رواية عمال البحر, والكولومبي الفريد غابرييل غارسيا ماركيز؛ فرادة عزلته التي تملكت عقلونا, فتفجر عنها ثورة علمتنا أن الواقع بجفافه والسحر بخياله إن امتزجا؛ فلا بد أن ينتج عن انصهارهما رائعةً أدبية خالدة كخلود مؤلفها واسمها "مئة عام من العزلة", حركت فينا ألمًا تجدد مع رحيل كاتبها، الذي تركنا لمئة عام من الحزن والغمة على رحيله, لإدراك واقع أنه لم يعد لدي ما أقرأه له بعد أن حظيت بما استطعت إيجاده من رواياته، التي لا ينسى تأثيرها, وإن كان من لا يُنسى منها أيضًا هو رواية الحب في زمن الكوليرا، حيث الحب إلى ما لا نهاية, وتريندادا البريئة وذاكرة نسائي الحزينات وفي ساعة نحس, وعاصفة الأوراق, ووقائع موت معلن, وحكاية بحار غريق, وامرأة الساعة السادسة والحب وشياطين أخرى وعشرات القصص القصيرة الأخرى.
لكن هل هذان الأسطورتان اللاتيني والفرنسي اللذان أسراني بإبداعهما اللامتناهي وتحدثت عنهما هما سرًّا الرواية والقصة، الذي لم يتكرر لا من قبل ولا من بعد؟.......بالطبع لا, فهناك دومًا عباقرة الأدب كالروسيين تولستوي وديستوفسكي، واللذان أتحفانا بالجريمة والعقاب، وآنا كارنينا، والحرب والسلام. كما ستبقى الإنجليزية أميلي برونتي ومرتفعات هذرينج من كلاسيكيات الأدب العالمي, شأنها كمواطنيها جورج أورونيل وتشارلز ديكينز, والعبقري الأمريكي آرنست هيمنغواي, والمتصوف المبدع باولو كويلو, وليس انتهاءً بالطبع بفيلسوف الرواية اليونانية نيكوس كازانتزاكيس, الذي مزج الرواية بالفلسفة بالحس الإنساني، والبحث عن الذات ومحاولة فهم الغيبيات، كما قرأنا له في أسطورته التي لا تنسى "زوربا اليوناني".
بالفعل, هناك دومًا بقية لم تبدأ بشخصية بعينها ولن تنتهي كذلك, طالما أن للقلم عاشقًا يسطر فيه سحر كلماته, فيتلقفه قارئٌ يُقدر معنى الإبداع ويستمتع به!
تغريد
التعليقات 1
تبقي دوما رواية البؤساء رواية جديرة برؤي متجددة ، وقد إستمتعنا مع هذه القراءة المتميزة بإضافت فنية وفكرية اخرجها من كمونها وموضحا لنا إيها في يسر وعمق ننحني لهما
اكتب تعليقك