نظرية ما بعد الاستعمار والروايةالباب: مقالات الكتاب
د. أشرف إبراهيم محمد زيدان جامعة بور سعيد/كلية الآداب/مصر |
المؤلف: جون ماكليود
ترجمة: د. أشرف إبراهيم محمد زيدان
مراجعة الترجمة: د. جمال الجزيري
يستعمل مصطلح "ما بعد الاستعمار" (Postcolonialism) للدلالة على مجموعةً واسعة ومتنوعة وبينيَّة من الدراسات الأكاديمية، التي تهتم في المقام الأول بدراسة التأثير الثقافي والاجتماعي للاستعمار الأوروبي، ودراسة الطُّرق التي تستخدم لمقاومة هذا الاستعمار. ومع أنَّ نظرية ما بعد الاستعمار قد توحي للمهتمين بدراستها بأنها منهج منسَّق أو شائع، فإن مجال نظرية ما بعد الاستعمار أكثر تفاوُتًا بكثير مما قد يوحي به المصطلح. وهناك خلاف كبير حول: (1) مزايا وعيوب دراسات ما بعد الاستعمار، (2) وحول مدى إمكانية أو عدم إمكانية أن تساعد هذه الدراساتُ بشكل فعَّال المقاومةَ المتواصلة للاستعمار وإرثه السياسي والإبداعيّ الذي ما زال قائمًا، (3) وأخيرًا حول طريقة كتابة هذا المصطلح (هل نكتبه post-colonialism أم نكتبه postcolonialism؟). فدخول مجال دراسات ما بعد الاستعمار يُعَدُّ بمثابة دخول منطقة متنازع عليها بشدَّة وتتسم بالتصدُّع من الداخل والتضارب وغياب الإجماع عليها.
ومع ذلك، فإنَّ كل مفكري نظرية ما بعد الاستعمارية تقريبًا، بغضّ النظر عن موقفهم الفكري، يدفعهم ويحركهم اعتراض عام ذو طابع سياسي وأحيانًا ذو طابع أخلاقي على مجيء الاستعمار الأوروبي مع فجر العصر الحديث، وعلى الواقع الجغرافي السياسي وعلى طرق الفِكر التي ظلت باقية بعدما انتهى الاستعمار بشكله الرسمي في معظم دول العالم التي كانت خاضعة للاحتلال وتحررت منه. فبدلاً من أن يحتفل علماء نظرية ما بعد الاستعمار بالنظام العالمي المعاصر باعتباره عالَمًا قد تحرر من العمليات الاستعمارية التقسيمية والاستغلالية في العادة – والتي كانت تتضمن في الغالب قيام القوى الأوروبية بالاستيطان في الدول والأراضي الأجنبية رغمًا عن إرادة الشعوب الأصلية لهذه الدول والأراضي – فإنهم يفضحون بقاء الممارسات الاستعمارية المادية والإبداعية حتى أواخر القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين.
فقبل ظهور مصطلح "ما بعد الاستعمار" بوصفه مصطلحًا أكاديميًا أساسيًّا في الثمانينيات من القرن العشرين، كانت دراسة الاستعمار ومقاومته والتخلُّص منه تقع في الأساس على عاتق علوم من قبيل علم الاقتصاد، والدراسات السياسية، وعلم دراسات المناطق ، وكانت متأثرة في العادة بالفلسفة السياسية الماركسية وبحركات الاستقلال القومية المتأثرة بالماركسية في العديد من الأماكن التي كانت خاضعة للاحتلال من قبل (أفريقيا فيما تحت الصحراء الكبرى على سبيل المثال). وكان مصطلح "ما بعد الاستعماري" يدلُّ آنذاك على مجرد فترة قريبة في الزمن في العلاقات الدولية وفى حيوات الأماكن التي كانت خاضعة للاحتلال من قبل. ووفقًا لنيل لازاروس (Neil Lazarus)، مع بداية السبعينيات من القرن العشرين، كان مصطلح ما بعد الاستعماري "مصطلحًا تعصيريًّا: أي كان مفهومًا تاريخيًّا، وليس مفهومًا أيديولوجيًّا، ولم يكن ينم عن رغبة أو طموح سياسي، ولم يتطلَّع لأن يشير إلى نظام سياسي واجتماعي محدد" (ص: 2). ويمكننا القول بأنه قبل الثمانينيات من القرن العشرين كان مصطلح "ما بعد الاستعماري" يُستعمَل كاسم أكثر من استعماله كصفة، وكان يدل على واقع سياسي أو تاريخي وعلى جانب من جوانب الواقع، ولم يكن منهجًا لفهم الواقع. وتغيَّر ذلك بمجرد أن المصطلح لم يعد يُستعمل للدلالة على مجموعة ملموسة من الوقائع أو الظروف، وإنما صار يُستعمل للدلالة على وضع محدَّد وطريقة استراتيجية في التفكير لم تظهر بعد التخلُّص من الاستعمار، وإنما بدأتْ أثناء عصر الاستعمار ذاته.
تطورت نظرية ما بعد الاستعمار، كما نفهما اليوم، بسرعة في ثمانينيات القرن العشرين لسببين مترابطين: تأثير النظرية النقدية، وظهور منهج ذي طابع ثقافي أكثر في الأكاديمية لتناوُلِ الأمور التي تبدو ملموسة في التاريخ والسياسة والمجتمع. فبدايةً من أواخر السبعينيات من القرن العشرين،أثار العديدون من أعمدة الفكر حِراكًا في رؤى النظرية النقدية البنيوية وما بعد البنيوية، خاصة من جانب الفلاسفة الناطقين بالفرنسية فيما يتعلق بتناوُلِ الاستعمار وكيفية مقاومته. وذهب كلٌّ منهم بأسلوبه وبطريقة مثيرة فكريًّا إلى أن طُرق التفكير والإبداع ليست تالية في الأهمية لمصائر المستعمرات، وإنما هي في الواقع مكوِّن أساسي من مكوِّنات النزعة الاستعمارية ككل.
ففي كتابه الرائد "الاستشراق" (1985 [1978])، ذهب إدوارد سعيد إلى أنَّ الاستعمار الفرنسي والإنجليزي للشرق الأوسط ما كان بإمكانه أن يحدث على أرض الواقع ما لم تؤسس أوروبا شبكة معقدة من المعارف حول تلك الأراضي الأجنبية. فإنتاج مثل هذه المعارف - خاصة في الفنون والعلوم، بدايةً من الشعر ومرورًا بالرسم والفلسفة ووصولًا إلى الطب - ساعدَ على تسويغ نزع ملكيّات الشعوب المستعمَرَة وحُكمِها تسويغًا فكريًّا وأخلاقيًا. وفي الوقت ذاته صاغوا أسلوبًا في التفكير لتطبيع التباين البيِّن بين الغرب الذي يتسم بـالتقدم والتحضر والعقلانية والشرق الذي يتسم بالتخلُّف والبربرية وعدم المنطقية. والاستشراق(Orientalism) هو المصطلح الذي صكه إدوارد سعيد ليصفَ هذا الأسلوب من الفكر الذي سمَّى شيئًا لم يكن له وجود في الواقع. ويؤكد سعيد أن الشرق مصطلح "لم يكن موجودًا"؛"فالشرق هو فكرة لها تاريخ وتراث من الفكر والتصوير والمفردات منحا الشرقَ واقعًا وحضورًا في الغرب وللغرب"(ص: 4-5).
واستندتْ حُجَّةُ إدوارد سعيد على ثلاثة منظرِّين ممن يشتغلون في مجال النظرية النقدية. أولاً، يدين إدوارد سعيد كثيرًا لأعمال ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذي ذهب في كتابيه "النظام والعقاب" (1977) و"تاريخ الجنس"(1979) إلى أنَّ القوة قوة خطابية في الأساس، ولذلك لا تنفصل عن خلق المعرفة والبحث عنها. ثانيًا، استلهم إدوارد سعيد انطونيو جرامشي (Antonio Gramsci)عندما وصف الاستشراق بأنه شكل من أشكال "الهيمنة" (hegemony)، أي أنه شكل استراتيجي نفعي من أشكال المعرفة تخلقه طبقة أو جماعة، ولكن يتم نشره بين الآخرين على أنه صورة طبيعية أو حقيقية للواقع. ثالثا، تأثر إدوارد سعيد بالمفكر الفرنسي المولود في الجزائر جاك داريدا(Jacques Derrida) وبحُجَّته التي تقول بأننا لا يمكننا التفكير في العالَم خارج نطاق أشكال المعرفة التي صنعناها حوله، وهي فكرة يتم تلخيصها في العادة تلخيصًا غير دقيق بالمقولة "لا يوجد شيء خارج النص".
اهتمام إدوارد سعيد بالأسس الخطابية للاستعمار باعتباره هيكل قوَّةٍ وشكلاً من أشكال السلطة تبنّاه مفكران هنديان ينتميان لمدرسة ما بعد الاستعمار هاجرا إلى الغرب، وهما: هومي ك. بابا وجياتريتشا كرافور تيسبيفاك؛ وقد ساعدا على جعل مصطلح "ما بعد الاستعمار" مألوفًا؛ لأنهما، على عكس إدوارد سعيد، استخدما دون تردد مصطلحَ "ما بعد الاستعماري" للدلالة على منهج تحويلي في التفكير يتحدّى ويتجاوزُ المنهج الاستشراقي أو الاستعماري المستخدَم في فهم هذا العالم. وفي مقالة نشرها هومي بابا في الثمانينيات من القرن العشرين وأعاد طباعتها في كتابه المتميز "موقع الثقافة" (1994)، طور أفكار إدوارد سعيد الخاصة بسياق تاريخي محدد وجعلها إطارًا لـ "خطاب استعماري" أكثر تجريدًا، وضربَ في العادة أمثلة من فترة الغزو البريطاني في جنوب آسيا. وكان بابا متأثِّرًا بنظريات جاك لاكان(Jacques Lacan) القائمة على تفسير التحليل النفسي للغة، وذهب إلى أن الخطاب الاستعماري ظاهرة ملتبسة ومتذبذبة إلى حدٍّ كبير ومنشطرة على نفسها ولا يمكنها أن تحتفظ بأكثر شيء رغبتْ فيه: أي رؤية مستقرة للعالَم يتم فيها التمييز بدقة بين المستعمِر والمستعمَر بحيث يكونا نقيضين لبعضهما. ويرى هومي بابا أن نظرية ما بعد الاستعمار ميّزَتْ وقدَّرتْ زئبقيَّة الخطاب وفوضاه الجوهريين، بدلاً من أن تقبَلَ المفاهيم الثابتة أو الشمولية أو الكليَّة الكامنة في لُبِّ مفاهيم من قبيل الحضارة، والهوية، والعرق، والأمة، وحتى الحداثة نفسها: "ويقاوم منظورُ "ما بعد الاستعماري" محاولةَ خلق أشكال كلية من التفسير الاجتماعي، ويفرض الاقرارَ بالحدود الثقافية والسياسية الأكثر تعقيدًا التي توجد على أطراف هذه المجالات السياسية المتناقضة في العادة" (ص: 173). إنَّ نظرية ما بعد الاستعمار عند هومي بابا خلقت منهجًا جديدًا تمامًا في التفكير، وهو منهج عَتَبيٌّ/ طرفيٌّ، وغير ثابت، وقع فيما بعد المنطق، ويتحدّى المناهج التقليدية التي يتم بها تشكيل المعرفة وطلبُها.
وفي الوقت ذاته، تتبَّع تْسبيفاك نظرية ما بعد الاستعمار عبر فِكر جاك دريدا التفكيكي في كتاباتها النقدية الصعبة في العادة التي جمعتْها في كتبِها من قبيل "في عوالم أخرى" (1988) و"الخارج في آلة التدريس" (1993). وكما أن تفكيكية دريدا تلقي الضوء على زئبقيَّة كل بِنى التفكير التي تحاول أن تثبِّتَ بِنى قيمٍ خاصة أو ثنائيات متعارضة، فإنَّ سبيفاك تسعى إلى كشف الطرق الاستعمارية في التمثيل بوصفها (أولاً): مكوِّنَة للفلسفة الغربية وتصوُّرِها لنظام العالَم؛ و(ثانيًا): بوصفها متزعزعة في جوهرها ومحلَّ شكٍّ أساسًا. وبالنسبة لسبيفاك أيضًا، فإنَّ الناقد المتخصص فيما بعد الاستعمار مسئول عن تحدي المعارف المسلَّم بها عن العالَم، وإيجاد طُرق فِكر جديدة. وبالإضافة إلى أعمال إدوارد سعيد، رسَّخَتْ أعمالُ بابا وسبيفاك مع بداية تسعينيات القرن العشرين نظريةَ ما بعد الاستعمار بوصفها مجالاً معرفيًّا ذا مفاهيم متميزة.
كان لهؤلاء النقاد تأثير هائل في توصيف دراسات ما بعد الاستعمار بوجه عام. ولكنّ أعمالَهم أثارت ثلاث شكاوى محدَّدَة ومتواصلة فيما يتعلق بنظرية ما بعد الاستعمار. (أولاً): كثير من كتاباتهم، وخاصة كتابات بابا وتيسبيفاك، مكتوبة بطريقة فيها تحدٍّ صارخ، وأحيانًا تصل إلى مرحلة الغموض التام الذي لا يمكن سبرُ غوره، مما أدّي بمنتقدي النظرية إلى اتهامها بـالنخبوية، والافراط في النظرية، والإغراق في الرطانة. (ثانيًا): يشكك جزءٌ كبيرٌ من فِكر نظرية ما بعد الاستعمار ليس في تلك الخطابات التي ساعدت الاستعمار على البقاء فحسب، وإنما يشكِّكُ أيضًا في المصادر السياسية الرئيسة المعارِضة للاستعمار مثل الماركسية والقومية المناهضة للاستعمار؛ فتتَّهمُ هذه النظريات بأنها تتبنى مبدأ التسوية بصورة مميتة، لأنها تقبلُ، دون تفكير، بعضَ المفاهيم الأساسية للسياسة والثقافة المستمدة من الغرب، ولذلك تنظر للشعوب التي كانت خاضعة للاحتلال من قبل كما لو كانوا يتاجرون بطرق غير شرعية في أشكال المعرفة السياسية المستقرة أو الكليّة التي أذاقتْهم الويلَ في المقام الأول. ولذلك ليس من المستَغْرَب أن بعض أكثر منتقدي نظرية ما بعد الاستعمار شراسةً ينتمون للماركسية، فيعترض إعجاز أحمد(Aijaz Ahmad) في كتابه "في النظرية" (1992)، وإ. سان جوان الأصغر (E. San Juan Jr.) في كتابه "ما وراء نظرية ما بعد الاستعمار" (1998)، وبينيتا باري (Benita Parry) في كتابها "ما بعد الاستعمار: نقد مادي" (2004) اعتراضًا شديدًا على استبعاد المعارضَة المناهضة للاستعمار باعتبارها محلَّ شكٍّ من الناحية الفكرية. (ثالثًا): تمَّ التشهيرُ بحماسِ نظرية ما بعد الاستعمار بوصفه تحوُّلا آخر للحتمية الثقافية (culturalism) في الفكر الأكاديمي، حيث يتم النظر إلى قضايا السلطة والسياسة نظرة نفعيَّةً باعتبارها قضايا تمثيل وخطاب ونصيَّة . ويُعَرّف جيمس بروكتر (James Procter) "الحتمية الثقافية" بأنها "تدل على الميل إلى إبراز واستكشاف الدور المركزي للثقافة في المحافظة على السلطة الاستعمارية (الجديدة) والمعارضة ما بعد الاستعمارية" (ص: 173)، ويثير هذا الإبرازُ الشكَّ في ازدراء نظرية ما بعد الاستعمار الواضح للمنهج التجريبي والاستكشافِ المتحمِّس لدقائق الخطاب واللغة.
لقد درس إدوارد سعيد وهومي بابا وجياتري سبيفاك الأدبَ الإنجليزي، واستشهدوا كثيرًا بأمثلة من النصوص الأدبية، ولذلك ليس من المستَغْرَب أن ينظروا إلى الاستعمار وميراثه على أنهما مسألة ثقافية في الأساس. إنَّ تطور نظرية ما بعد الاستعمار يدين بالكثير للدراسات الأدبية في العالم الناطق بالإنجليزية، ويرتبط ظهور نظرية ما بعد الاستعمار ارتباطًا وثيقًا بمصير النصوص الأدبية السردية عن الاستعمار وإرثه، وهذه العلاقة علاقة مكوِّنة لكليهما ومفيدة لهما معًا. ولقد حفز ظهورُ أنواع جديدة من النصوص السردية وجيل جديد تمامًا من الكتّاب الذين يكتبون باللغة الإنجليزية في ثمانينيات القرن العشرين الاهتمامَ بنظرية ما بعد الاستعمار، بينما مكَّنتْ الاهتماماتُ النقدية والمصطلحات الجديدة الخاصة بـنظرية ما بعد الاستعمار - التي تركز على الاستشراق والالتباس(ambivalence) والتابع وردِّ الاعتبار بالكتابة - تسميةَ مجموعة متميزة من النصوص السردية باسم نصوص ما بعد استعمارية وقراءتَها على هذا الأساس. وأصبح من الشائع الآن أنْ تَدْرِسَ "قصص وروايات ما بعد الاستعمار" باعتبارها نوعًا سرديًّا فرعيًّا له فنيّاته واهتماماته الخاصة (انظرْ: فريزر Fraser، 2000).
وهناك ثلاث مراحل في تطور قصص وروايات ما بعد الاستعمار بمفهومها الحالي:
أوَّلًا: تشتمل المرحلة الأولى على كتابات القرن العشرين التي أصدرها قبل أواخر سبعينيات القرن العشرين كتَّابٌ من أماكن مهمة في الكومنولث البريطاني - أفريقيا، وكندا، وجزر الكاريبي، وجنوب أسيا، وجزر جنوب المحيط الهادي- التي صُنِّفَتْ لاحقًا على أنها ما بعد استعمارية. وقصصهم ورواياتهم، التي كانت تصوِّرُ في العادة تجاربَ الحياة في دولة ذات تاريخ (قريب أو متواصل) مع الاستعمار البريطاني، كانت لها أحيانًا أجندة سياسية مميَّزة تتحدّى طُرق الاستعمار في النظر للأشياء من خلال تقديم أشكال معرفة ثقافية بديلة تعتمد في الغالب على ثقافة الشعوب الأصلية، كما نجد في قصة تشينوا أتشيبي (Chinua Achebe) الرمزية عن نيجيريا قبل وأثناء الاستعمار في روايته "عندما تتداعى الأشياء" (1958). وفي بعض الأعمال الأخرى، تم تقييم الحكومات المستقلة حديثًا تقييمًا نقديًّا، كما هو الحال في رواية آييكوي هآرما (AyiKwei Armah) "الجميلات لم يولدن بعد" (1968)، والتي تنقد استقلال غانا نقدًا ذكيًّا. وهناك بعض الكتاب يصوِّرون تقلبات الحياة اليومية دون اهتمام كبير بالسياسة، كما في تصوير ف. س. نايبول(V. S. Naipaul) لترينيداد في عصر الاحتلال في روايتيه "شارع مِيجِيل" (1959) و"منزل للسيد بِسْوَاز" (1961). وبدا بعض الكتّاب أكثر توافقًا مع مواقف البريطانيين الاجتماعية والثقافية المتغطرسة أكثر من توافقهم مع اهتمامات المستعمَرِين. وقُرِئتْ هذه النصوص آنذاك باعتبارها جزءًا من مجموعة أكبر من القصص والروايات التي تُسمَّى "أدب الكومونويلث"(Commonwealth literature). ومع أن معظم نقّاد الكومونويلث أقرُّوا بأهمية القضايا السياسية المحليّة، فإنهم كانوا أكثر اهتمامًا بالسمات العالمية المزعومة للشكل أو المضمون التي تتجاوز التاريخ الغوغائي والسياسة الغوغائية. ولذلك بحثوا عن القاسم المشترك بين كتابات الكومونويلث المتباينة من جهة، وبينها وبين الكتابات البريطانية من الجهة الأخرى. فبداية من ثمانينات القرن العشرين فقط، صار هذا الأرشيف الضخم من روايات وقصص الكومونولث يُنظَر إليه على أنه ما بعد استعماري، لأنه خضع لعملية إعادة تقييم سريعة على ضوء نظرية ما بعد الاستعمار ونطاقها الأوسع وصار يُنظر إليه على أنه يتحدى طرقَ التفكير الاستعمارية أو الاستشراقية. وأدى ذلك أحيانًا إلى إعادة تقييم جذري للكتَّاب الذين ينتمون إلى المستعمرات السابقة إذا بدا عليهم أنهم لا يؤيدون نظرية ما بعد الاستعمار في مواقفها أو سياستها؛ ونايبول من الأمثلة المشهورة بالسوء في هذا المجال.
ثانيًا: ظهر النوع الثاني من روايات وقصص ما بعد الاستعمار بالتزامن مع تأسيس نظرية ما بعد الاستعمار. وكان إدوارد سعيد وهومي بابا وجياتري سبيفاك من المهاجرين الذين تلقّوا تعلييمًا جيدًا ومن الميسورين الذين هاجروا من الشرق الأوسط أو جنوب آسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا. ويرى بعض المعلقين إنه ليس من قبيل المصادفة أن تهتم نظرية ما بعد الاستعمار اهتمامًا خاصًا بتجارب الهجرة والمواطَنة العالمية التي مرَّتْ بها نخبة مثقفة تنتمي لعصر ما بعد الاستعمار. وبداية من أوائل ثمانينيات القرن العشرين، ظهر جيل جديد من الكتّاب تلقُّوا تعليمهم في جامعتي أكسفورد وكمبريدج، وكانوا أثرياء إلى حدٍّ ما، وكانوا مهاجرين أو أبناء مهاجرين مما يطلق عليه العالم الثالث إلى العالم الأول. وكانت كتاباتهم الروائية والقصصية التي تتسم بالتجديد متسقةً تمامًا عند قراءتها من منظور نظرية ما بعد الاستعمار. ومن الأمثلة الرئيسية على هؤلاء المهاجرين سلمان رشدي (Salman Rushdie)، فتحكي روايته"أطفال منتصف الليل" (1981) عن أحوال الهند في القرن العشرين، وذلك من خلال شخصية خيالية تدعى سليم سيناء يبدو حبه للسرد وتشكيكه في التاريخ المعهود سحريين أكثر من كونهما واقعيين، ويتناغم ذلك تمامًا مع النفور من المنهج التجريبي والأشكال الكليَّة للتفسير الاجتماعي مما نجده في نظرية ما بعد الاستعمار. وكما يشرح لنا سلمان رشدي في مقال مهم رؤيته الأدبية للهند، وهي رؤية تدين بالفضل لهجرته عندما كان تلميذًا من الهند إلى بريطانيا بقدر ما تدين للأشكال الشفاهية الشعبية من القصص الهندية أو المصادر الثقافية الهندية الأصلية الأخرى؛ فمكَّنتْه الهجرة من أن تكون لديه طريقة خاصة في النظر للعالم استطاع الباحثون أن يفسروها من خلال المصطلحات الجديدة التي ابتكرتْها نظرية ما بعد الاستعمار - خاصة وأنَّ "الذين هاجروا منّا أجبرتْهم الإزاحة الثقافية على قبول الطبيعة المؤقَّتَة لكل الحقائق" (ص: 12). واستشرفتْ رواية "أطفال منتصف الليل" ظهورَ مجموعة كبيرة من الروايات التي تميَّزتْ بأنها مدنيَّة ومع ذلك تدين بالفضل للتعددية الثقافية، وعبَّرتْ عن تجربة الهجرة الصعبة إلى الدول الغربية وفيما بينها، مثل رواية تميثي مو (Timothy Mo) "الحلوى المرة" (1982) التي ترصد حياة الصينيين في لندن في ستينيات القرن العشرين. وجرَّبتْ مثل هذه النصوص في العادة أشكالاً سرديَّة جديدة للتعبير عن رؤية المهاجرين الجزئية والتعددية للعالم، كما في رواية مايكل أُونداتشي (Michael Ondaatje) "في جلد أسد" (1987) التي تبدأ باقتباس من جون برجر (John Berger) يقول فيه: "لن يحدث بعد الآن أن تُرْوَى قصة كما لو كانت القصة الوحيدة" (أُونداتشي،صفحة دون رقم). وكان هذا النوع من الكتابة تجسيدًا لروايات ما بعد الاستعمار في سنواتها الأولى، وساعدها في تقوية الافتراض الأكاديمي الشائع الذي يقول إن نظريةَ ما بعد الاستعمار كانت مسعًى حضريًّا وعالميَّ المواطَنَة في الأساس. وكتبَ سلمان رشدي ذاته أكثر الروايات ما بعد الاستعمارية الحضرية خلودًا في ذلك العقد من الزمان، ألا وهي روايته "آيات شيطانية" (1988) التي عبّرتْ في شكلها المتحدِّي والتجديدي عن محاولتها التنصُّل من الطرق المعهودة في فهم العالَم من منظور المهاجرين، على الرغم من أن مخاطر نقد المعارف والمعتقدات المتوَارَثَة تم تسليط الضوء عليها بقسوة في الضجة التي صاحبت نشر الرواية في العالم الإسلامي.
ثالثًا: في المرحلة الثالثة التي بدأت مع بداية التسعينيات من القرن العشرين، ترسَّختْ رواية ما بعد الاستعمار باعتبارها فئةً قويًّةً يدعمُها جهازٌ نقديٌّ وأدبيٌّ كبيرٌ، ويشمل هذا الجهاز: المؤتمرات، والكتب المتبحِّرة، والمجلات الدولية. ويسعى بعض الكتَّاب في أعمالهم لأن يستجوبوا ويقيّموا الأماكن التي كانت محتلة من قبل تقييمًا نقديًّا، ويناوشون في العادة الأساطير الثقافية السائدة، أو يكتشفون النتائج المترتبة على التغير السياسي في أعقاب الاستعمار. ففي روايته عن أستراليا، يتناول بيتر كاري (Peter Carey) الوضع المعاصر للاستيطان الاستعماري في روايته "مفتش الضرائب" (1991)، ويتناول أساطير الماضي الإجرامي المضطرب لهذا الاستيطان الاستعماري في روايته "التاريخ الحقيقي لــعصابة كيلي" (2000). ويقدم الكاتب الجنوب أفريقي ج. م. كويتزي(J. M. Coetzee) في روايته الحاصدة للجوائز "العار" (1999) رؤى صدامية لعواقب الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، في حين أن روهنتون ميستري (Rohinton Mistry) يقدِّم لنا في روايته "توازن بديع" (1995) سردًا مخيفًا لحالة الطوارئ الهندية في منتصف السبعينيات من القرن العشرين (عندما تم تعليق الحكومة الديموقراطية). ومع ذلك، في حين أن كل رواية من هذه الروايات يمكنها أن تكون نموذجًا للمشروع النقدي الأوسع لنظرية ما بعد الاستعمار في صدامها مع أشكال المعرفة المعهودة، يظلُّ هناك خطرٌ يتمثَّلُ في أننا عندما نقرأها من هذا المنظور، فإننا نفرض عليها الأجندة السياسية أو الأخلاقية لـنظرية ما بعد الاستعمار. في الآونة الأخيرة، لم يعد سهلًا، كما كان من قبل، أن نزعم وجود توافق بين نظرية ما بعد الاستعمار والتمثيلات السرديَّة لـلاستعمار، والتخلص من الاستعمار، والهجرة. في الواقع، يعترضُ الكثيرون مما يُطلق عليها قصص وروايات ما بعد الاستعمار على مصطلح "ما بعد الاستعماري" بسبب القيود التي لا تُخطئها العينُ الماثلةِ فيه.
بالإضافة إلى ذلك، صار بعض النقاد الذين يتبنون نظرية ما بعد الاستعمار يشكُّون في الرواج اللافت لروايات ما بعد الاستعمار في السوق العالمية المعاصرة، كما يتضح من عدد روايات ما بعد الاستعمار التي تفوز بجوائز أدبية مثل جائزة مان بوكر البريطانية. وكما يناقش جراهام هاجن (Graham Huggan) في كتابه "الغريب ما بعد الاستعماري" (2001)، إنَّ الولع في السنوات الأخير بنشر روايات ما بعد الاستعمار والاحتفاء بها قد يعمل ضد أهداف نظرية ما بعد الاستعمار ذاتها عن طريق تقديم هذه الروايات بوصفها تسلية غريبة لمستهلكي العالم الأول الحريصين على تذوق القليل من البهارات الأجنبية. فإنتاج "الغريب ما بعد الاستعماري" ربما كان محاولة من الغرب لتدجين واحتواء عواقب النقد ما بعد الاستعماري الجامحة الموجود في الإبداع السردي، ولكنه يشكِّك أيضًا في فاعلية نظرية ما بعد الاستعمار نفسها في إحداث تغيير دالّ داخل الأكاديمية ذات البرج العاجي وخارجها. علاوة على أن مصداقية نظرية ما بعد الاستعمار تتعرَّض للتحدي في الآونة الأخيرة من خلال ظهور روايات كتبتْها شعوب الأمم الأولى أو السكان الأصليون في مستعمرات الاستعمار الاستيطاني في كندا وأستراليا ونيوزيلندا. فروايات كتّاب من أمثال الكاتبة باتريشا جريس (Patricia Grace) التي تنتمي لقبائل الماوري في نيوزيلندا تشكِّك في امكانية تطبيق النماذج الحضريَّة لما بعد الاستعماري على بعض الصراعات العابرة للثقافات، وفي الوقت ذاته تدعونا للتأمل في مدى إمكانية قيام البلاغة ما بعد الاستعمارية بإخفاء الأشكالَ الاستعارية المتواصلة للخيال والاستغلال الاستعماريين -ليس فقط ما بين الأماكن التي كانت محتلة والعواصم الثقافية، وإنما داخلها أيضا. ولذلك من المهم أن ندرك أن النصوص السردية الإبداعية تتيح وسائلَ الاستجوابِ النقدي لعيوب نظرية ما بعد الاستعمار وتحيُّزاتها بوصفها مجالًا بحثيًّا، بقدر ما يمكنها أن تبرهن، من خلال الممارسة، على أن أهداف نظرية ما بعد الاستعمار طريقةٌ في التفكير يمكنها أن تُحدِثَ تحوُّلًا كبيرًا.
المصدر:
McLeod, John. "Postcolonialism and Fiction". The Encyclopedia of Twentieth-Century Fiction. Vol. 3: Twentieth-Century World Fiction. Ed. John Clement Ball. West Sussex: Blackwell Publishing Ltd, 2011. Pp. 1284—1289.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- نظرية ما بعد الاستعمار والرواية
- الرواية الكندية وتطورها
- الاغتراب في الرواية
- روايات ما بعد الاستعمار للمهاجرين من جنوب آسيا إلى بريطانيا
- روايات الشتات الإفريقي ما بعد الاستعمارية
- روایات الحرم الجامعي (1-3)
- روايات الحرم الجامعي (2-3)
- روايـات الحـرم الجـامـعي (3-3)
- روايات البريطانيين السُّود
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الهند الغربية «جزر الكاريبي»
التعليقات 1
merci
اكتب تعليقك