روايات ما بعد الاستعمار للمهاجرين من جنوب آسيا إلى بريطانياالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 13:59:11

د. أشرف إبراهيم محمد زيدان

جامعة بور سعيد/كلية الآداب/مصر

ترجمة: د. أشرف زيدان                  

مراجعة: أ.د. جمال الجزيري

إن كتّاب الروايات متعدّدي الثقافات لهم وجود ملحوظ جدًا في المملكة المتحدة منذ سنوات عديدة، ولكن أكبرهم نصيبًا من النجاح الشعبي والاهتمام النقدي هم روائيو شتات جنوب آسيا؛ فبعد أن نشر سلمان رشدي روايته "أطفال منتصف الليل" في عام 1981، بدأ الكتَّاب يحصدون الواحد تلو الآخر استحسانًا جماهيريًّا كبيرًا، ويحقَّقون تقدُّمًا غير مسبوق، ويحصدون الجوائز المرموقة، لدرجة أنه ظهرت هناك حملة انتقادات كبيرة على جائزة البوكر في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، ولدرجة أن البعض زعموا أنّ "مستقبل الأدب الإنجليزي سيكون هنديًا" (راناسينها، ص: 63). وتلاحظ روفاني راناسينها (Ruvani Ranasinha) أنّ هؤلاء الكتاب الناطقين بالإنجليزية "نالوا شهرة واسعة بوصفهم وسطاء، ومترجمين ثقافيين، ومتحدثين رسميين"(ص: 10)، بالرغم من ادعاءاتهم المريبة والهشة بين الفينة والأخرى عن "الأصالة" أو إحجامهم المعلَن عادةً عن تمثيل مجتمعات عرقية كاملة.

إنَّ تاريخ مصطلح "الأسيوي البريطاني"، مثله مثل العديد من المصطلحات التي تُستخدم لوصف الهوية الجمعِيَّة، تاريخ معقَّدٌ ويقوم على التجريد. فسلمان رشدي وآخرون كانوا يعرّفون أنفسهم لفترة طويلة بأنهم "بريطانيون سود"، وهو مصطلح جامع يدل على جاليات الأقليات والآداب العِرقية. ولكن طوال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، شكّك المنظِّرون والكتَّاب والجمهور في فاعليَّته السياسية ودلالاته الضمنية الجمالية، متَّبِعين في ذلك تأكيد ستيوارت هُول على أنّ لقب "البريطانيين السود" خلق نوعًا من الهيمنة الإشكالية التي لا تستطيع أن تمثِّلَ التنوع العرقي للثقافة المعاصرة (نُشرت المقالة لأول مرة في عام 1987، والطبعة التي اعتمدنا عليها هنا نُشرت في (1996b). وعلى نفس المنوال، حذرت سوشيلا ناستا (Susheila Nasta) مما تلا ذلك من استخدام مصطلح "الأسيويين الجنوبيين" الذي يُعد أكثر تحديدًا؛ لأنه "يسطِّح حتمًا مجالاً متنوِّعًا من الخلفيات الثقافية"، وهو الأمر الذي يتيح للغالبية البيضاء أن تستخدم من جديد سياسة "فَرِّقْ  تَسُدْ" (ص: 6). وعلاوة على ذلك فإنّ مصطلح "أدب الآسيويين البريطانيين" (British Asian literature) أو أدب "الآسيويين الجنوبيين البريطانيين" (British South Asian literature) يفشل في تحديد الأفراد المشار إليهم به، أو تحديد المعايير التي يستند إليها في هذا التحديد. هل يشمل المصطلحُ سام سيلفون (Sam Selvon) وف. س. نايبول (V. S. Naipul) ، وهما مهاجران من أصل جنوب أسيوي، ولكنهما يرتبطان في الغالب بشتات جزر الهند الغربية؟ وهل يمثل المصطلحُ كلا من مُلْك راج أناند(Mulk Raj Anand)  و ج. ف. ديزاني (G. V. Desani)، وهما مثالان من الأمثلة الأولى على الكتّاب "الأسيويين البريطانيين" حققا شهرة في المملكة المتحدة ولكنهما عادا بعد ذلك ليستقرا في الهند؟ هل يعني المصطلحُ بالضرورة الروايات التي تتكلم عن جنوب آسيا أم عن بريطانيا؟ هل يوحى هذا المصطلح بأجندة سياسية أم حِسّ جماليّ؟ وهل يتعلق بمواطَنة المؤلف أم بمحل إقامته؟ هل يتعلّق بجمهور قراء النص أم بالموضوع الذي يتناوله؟

إذا كان مـصـطــلـح "الــروايـــة الأســـيـويــة البريطانية"مصطلحًا حديثًا نسبيًا، فإنَ تطبيقاته حديثة أيضًا. إنّ أدب المهاجرين من جزر الهند الغربية وأفريقيا، الذي قاده كتّاب من أمثال سيلفون، ونايبول، وإيميشيتا (Emecheta)، قد وجد جمهورًا في المملكة المتحدة قبل أي ظهور حقيقي ومتواصل لـلأدب الإنجليزي الهندي. ويرجع وجود الآسيويين الجنوبيين في بريطانيا إلى عام 1700 على الأقل، وبعد الحرب العالمية الثانية والتحرر من الاستعمار شكَّلوا أخيرًا أكبر أقلية عرقية في بريطانيا. ولكن القراء الإنجليز لم يُقبلوا على الروايات التي كتبها الروائيون القادمون من شبه القارة الهندية إلا في حالات استثنائية قليلة. وتلاحظ راناسينها أنّ الأسيويين الجنوبيين وجدوا جمهورًا لهم بين القراء البريطانيين باعتبارهم مؤرخين اجتماعيين، وليس باعتبارهم أدباء. فحتى بحلول خمسينيات القرن العشرين، كانت الرواية الهندية يُنْظَرُ إليها على أنها "عمل تجاري في دور النشر بالعاصمة"، وهو الأمر الذي جعل الروائيين الطامحين إما أن يفشلوا في العثور على ناشر يوقّعون معه عقودًا لنشر أعمالهم أو يتجهوا إلى كتابة روايات تخالف تمثيلات الاختلاف ذات الطابع السياسي (ص: 12). ولقد نجح بعض الأفراد في أن يحظوا بجمهور قراء بريطانيين أصيل. فارتبط أناند بدار نشر بلومزبيري، وتسلط روايتاه "الممنوع الاقتراب منهم" (1935) و"كوولي" (1936) الضوء على أوضاع الفقراء في الهند إبَّان الاستعمار البريطاني. وحققت ديزاني  (Desani)نجاحًا غير متوقَّعٍ بروايتها "كل شيء عن هـ. هاتِر" (1948)، وهي رواية شُطَّار عجيبة ترصد مغامرات البطل الوارد في العنوان الفكاهية سعيًا وراء الاستنارة. ويزعم هاتِر أنّ اسمه الأول الذي يبدأ بالحرف هـ ـ(H) يرمز لـ "هندوستانيوالا"، وهي كلمة من الكلمات العديدة التي تمثِّل تقويضًا لغويًّا مدهشا ويسميها البطل "الإنجليزية المتقعّرة" (rigamarole English) (الطبعة الأصلية: 1948ح الطبعة التي اعتمدنا عليها: 2007، ص: 37).  وتلاحظ ناستا أنّ روايات ديزاني تعلن عن نفسها على الفور بأنها روايات تقويضيَّة تتحدّى الأعراف الأدبية المعاصرة في اللغة والنوع الأدبي والأسلوب؛ وتُعتَبَر رواية "كل شيء عن هـ. هاتِر" استباقًا للحساسيات ما بعد الحداثية عند سلمان رشدي الذي أقرَّ بأنه يدين ببعض الجوانب الأسلوبية لهذه الرواية.

وقد أنتج بعض الروائيين، من أمثال الكاتبة عطية حسين (Attia Hosain) والكاتبة كمالا ماركاندايا (Kamala Markandaya)، مجموعة أعمال في فترة منتصف القرن العشرين، ويتم النظر إليهم في الوقت الحالي على أنهم من الكتاب المهمّين في المرحلة الأولى من كتابات الكتاب الآسيويين البريطانيين. ولكن بالرغم من النجاح الفردي الذي حققته روايات مثل رواية عطية حسين "أشعة شمس على عمود مكسور" (1961) ورواية ماركاندايا "رحيق في غربال" (1954)، كانت الرواية الآسيوية البريطانية ما زالت تفتقد إلى جمهور قراء مواظب على قراءتها مثل الجمهور الذي حظيت به أعمال سيلفون ونايبول. وربما كان من المدهش أنَّه في سبعينيات القرن العشرين فازت ثلاث روايات تدور أحداثها حول الهند بجائزة البوكر العريقة، وكلّها كتبها روائيون أوربيون، وهم ج. ج. فاريل(J. G. Farrell)  ووروث برُوَار جهابفالا  (Ruth Prawer Jhabvala)  وبول سكوت (Paul Scott). وسرعان ما تغيّر هذا الافتقار إلى التمثيل "الهندي" المباشر تغيُّرًا سريعًا وكبيرًا في عام 1981، عندما نشر سلمان رشدي روايته "أطفال منتصف الليل". إنّ الرحلة السحرية المليئة بالمغامرات التي قام بها بطل الرواية سليم سيناء - المولود مع استقلال الهند- أذهلت القراء والنقاد على حد السواء، وسرعان ما حظيت الرواية بمكانة معتَرَف بها. في عام 1993، فازت الرواية بجائزة "بوكر البوكر". وفي عام 2008، اختار القراء الإنجليز رواية "أطفال منتصف الليل" أفضل رواية فازت بالبوكر على مدار الأربعين عامًا التي مضت منذ ظهور المسابقة. ووفقًا لرأي راناسينها، إن هذه الرواية "دفعتْ كتابات الكتّاب الآسيويين الجنوبيين الناطقين بالإنجليزية نحو التيّار الرئيسي المعترف به" (ص: 59)، وكثيرًا ما يزعم كتّاب الأقليات البريطانية أنّ نجاح سلمان رشدي لم يكن فحسب مصدر إلهام لكتاباتهم، بل ساعد كذلك في إمكان توسيع نطاق جمهور الفنانين متعددي الثقافات. وبالنسبة للجماهير البيضاء، أصبح سلمان رشدي في الواقع الممثلَ الفعلي لجنوب آسيا، وهو الأمر الذي صارت له آثار متزايدة التشابك بحلول نهاية ثمانينيات القرن العشرين.

يثبت سلمان رشدي دائمًا أنه كاتب مثير للجدل، ويثير الناس على ما يبدو لانتقاده بتصويره لـشخصية إنديرا غاندي في رواية "أطفال منتصف الليل" وتصويره أيضًا لشخصيات تاريخية باكستانية متعددة في روايته "العار" (1983). ولكن لم يتوقع إلا قليلون الغضب الدولي الذي أثارتْه روايته "آيات شيطانية" (1988). وقال رشدي بأنّ هذه الرواية تدور أحداثها حول الهجرة والمنفى والهويات المهجنة وتحوُّلات الكائنات، وشرح ذلك لاحقًا بقوله إنها "أغنية حب"، لـ "ذواتنا المهجَّنة" (1991، ص: 394)، فبطلا الرواية التوأمان، عند سفرهما إلى إنجلترا، سرعان ما يصبح أحدهما ملاكاً والآخر ماعزًا شبيها بالشيطان، ويكتشفان أنّ صفات جسديهما الجديدين انعكاس للصورة النمطية عند الإنجليز عن الهنود. وتسيطر الأغلبية البيضاء على المهاجرين؛ لأنهم "يصفوننا... إنهم لديهم سلطة الوصف، ونحن نرضخ للصور التي يركّبونها عنّا" (الطبعة الأصلية صدرت في عام 1988ح والطبعة التي اعتمدنا عليها طبعة 1997، ص: 174). ويدرك بطلها صلاح الدين تشامتشا أنَّه يجب عليه أنْ ينبذ كل هذه المحاولات لتحديد هويته، وأن يتقبّل، بدلاً من ذلك، كل جزء من "ذاته المهجَّنة". وتتضمن رواية "آيات شيطانية" أيضًا سلسلة من الأحلام عن حياة النبي محمد والنشأة الأولى للإسلام، بما في ذلك "الآيات الشيطانية" المشهورة بالسوء والتي عليها خلاف منذ أمد بعيد. وإعادة التخيُّل الجذري للتاريخ الإسلامي أغضبَ المجتمعات الإسلامية حول العالم، وهو الأمر الذي وصل في النهاية إلى حد الاغتيالات وأعمال الشغب وقطع العلاقات الدبلوماسية وقطع العلاقات الدولية وإصدار آية الله الخميني فتوى بهدر دم سلمان رشدي. ذكَّرت هذه الرواية العالَم بقدرة الأدب البالغة على التحريض وعلى التعريض للخطر؛ فسلمان رشدي نفسه اضطر للاختباء لسنوات عديدة. وإذا كانت رواية "أطفال منتصف الليل" أدت إلى زيادة التعريف بكتابات الكتّاب الآسيويين البريطانيين في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، فإنَّ رواية "آيات شيطانية" قد كشفت عن الإمكانات السياسية لهذه الكتابات في نهاية ذلك العقد من الزمان. لقد غيرت هذه الأزمة الكتابة البريطانية المتعددة الثقافات جملةً وتفصيلاً، ورفعتْ مكانة الكتَّابِ"البريطانيين السود" إلى آفاق غير مسبوقة، ولكنها دمرت فكرة التجانس الوهمي التي كانت متشكِّلة عن الجالية "البريطانية السوداء".

ظهرت الأفكار التي كتبها سلمان رشدي عن الهجرة والمنفى، والذوبان الثقافي، وعدم التسامح كثيرًا في روايات آسيوية بريطانية أخرى. يظنُّ بطلُ رواية "رجل اللامكان" (1972) لماركاندايا (Markandaya)  ظنًّا خاطئًا بأنَّه "إنجليزي أكثر من الإنجليز أنفسهم" (الطبعة الأصلية ظهرت في عام 1972ح والطبعة التي اعتمدنا عليها نشرت في عام 1973، ص: 72). ولكنّه يدرك، بعد تعرضه للظلم والهجوم من قبل جيرانه الذين تتزايد عداوتهم نحوه، "أنني تحوَّلتُ إلى غريب" (ص: 241)، وهو تحوُّل ليس مثل التحوُّل الجذري السحري الذي نجده عند المهاجرين في روايات سلمان رشدي، ولكنه تحوُّل مشابه في طبيعته وأثره. وفي المقابل، نجد أن بطل رواية "الانطباعي" (2002)، وهي أول رواية للكاتب هاري كونْزرُو (Hari Kunzru)، يتمتع بموهبة هائلة في الذوبان الثقافي لدرجة أنه يصير"رجل كل الأماكن"، إذ أنه يتخذ لنفسه سلسلة من الهُويّات تتراوح ما بين الولد الهندي السيء الذي ينتمي للطبقة العليا، والداعر الذي يلبس ملابس النساء، وتلميذ المدرسة في العصر الفيكتوري، واليتيم في مؤسسة تبشيرية، وطالب الجامعة الإنجليزي، ومساعد عالِم أنثروبولوجيا إمبريالي، وبدويّ في صحراء أفريقيا. وفي بريطانيا، تمكِّنُه بشرته الفاتحة ولكنته الإنجليزية المُتْقَنَة من أنْ يعيش بينهم بشخصية "جوناثان بريدجمان"، وفي كل منعطف يبحث هذا الشاب عن أية صفات إنجليزية يمكنه أن يتبنّاها حتى "تغوص أعمق تحت جلده" (ص: 247). إنَّ أداءه بوصفه جوناثان بريدجمان مقنع جدًا لدرجة أنّ الجميلة والغامضة استارت تشابل ترفضه لأنَّه نموذج معهود جدًا من الرجال الإنجليز، وتحطِّمُ قلبَه عندما تقول له: "أنت أكثر شخص عرفتُه إنجليزيَّةً" (ص: 332). ويستكشف رشدي وماركاندايا وكانزرو، كلٌّ بطريقته المختلفة، قيمة الذوبان الثقافي، ومُرَكَّبَ "الهوية الإنجليزية الجوهرية" المزعومة، وحدود ومخاطر تقليد المستعمِر.

ربما كان من المدهش أن رواية مونيكا علي (Monica Ali) التي حققتْ نجاحًا كبيرًا، "شارع بِريك لين"(2003)، تقترب من موضوعات مشابهة، فبطلتها نازنين تتعرض لاستراتيجيات متضاربة للتكيُّف على الحياة في شرق لندن. فجاءت المرأة الشابة من بنجلاديش إلى شارع بريك لين عن طريق زواج الصالونات. وزوجها تشانو رجل طيِّب في العادة، ولكنه أكبر منها في السن بكثير، وغير محظوظ بوجه عام، ولا يناسب تطلعاتها الرومانسية.  تنجذب نازنين لاحقًا لكريم، الشاب الوسيم الذي له نشاط سياسي. ولكن بطلة الرواية ترصد الحياة اللندنية وتتأقلم، وتتجاوز عقبات الحياة في لندن بشكل مطرد بطريقتها الخاصة. ويحيط بها أشخاص إما أنهم مصممون على الحفاظ على الهوية الجماعية البنجلادشية أو أشخاص مصممون على الذوبان الثقافي تمامًا في المجتمع الإنجليزي. وتتعلم البطلة أن تضع قواعدها وتوقعاتها الخاصة بها. وفي النهاية، ترفض كلا من زوجها وحبيبها، وتقرر أن تعيش في بريطانيا مع أطفالها. وفي المشهد الختامي للرواية الذي كثيرًا ما يستشهد به النقاد والقراء، تأخذ نازنين البنتين للزلج على الجليد. فبينما تحتج إحدى البنتين قائلة لها: "لا تستطيعين أن تتزلجي وأنت ترتدين عباءة ساري"، ترى نازنين في الموقف احتمالات الجمع بين هويتها الإنجليزية وهويتها الأسيوية. فترد على الفتاة قائلة: "إنها إنجلترا؛ يمكنكِ أن تفعلي ما تشائين" (ص: 36). 

تتباهي الرواية البريطانية التي يكتبها كتّاب وكاتبات ينتمون لعدة ثقافات بوجود العديد من الكاتبات المتميزات، ومن أشهرهن زادي سميث (Zadie Smith) وأندريا ليفي (Andrea Levy)، ورواية "شارع بريك لين" تضع مونيكا علي في مقدّمة الروائيات. ومع أن مونيكا علي قد تكون أكثرهن شهرةً، هناك العديد من الكاتبات حظين باهتمام نقدي كبير في فترة ما بعد صدور رواية "أطفال منتصف الليل". وتعتبر رواية "امرأة عجوز شريرة" (1987) للكاتبة رافِنْدر راندهاوا (Ravinder Randhawa) مثالاً مبكرًا ومهمًّا للرواية الآسيوية البريطانية النسوية. تتنكر شخصيتها الرئيسية، كُلونت، في هيئة "المرأة العجوز الشريرة" المذكورة في عنوان الرواية؛ ويساعدها هذا التنكُّر في الكشف عن الطبيعة المتغيرة للهويات على نطاق واسع. ولكن جولات البطلة في هيئة "امرأة عجوز" تساعد المؤلفةَ على أن تقدِّم مجموعة متنوعة من النساء الأخريات اللاتي تجاهد كلٌّ منهن في سبيل التكيُّف مع التهجين والتحامل والصراعات بين الأجيال. وتشمل خيوط السرد المعقدة المتداخلة كلا من مايا، التي تُجري بحثًا عن الجنون في الجالية الآسيوية لبرنامج وثائقي تليفزيوني، وراني التي نجتْ من هجوم وحشيٍّ بأعجوبة. وتُصاب راني بصدمة القذائف وتُحتجز في المستشفى، ولكنها لا تتماثل للشفاء إلا عندما "يعالجنها" النساء الأخريات من خلال سرد الحكايات الجماعية. إنَّ السرد غير التقليدي في رواية "الصندوق الأحمر" (1991) للكاتبة فرحانة شيخ (Farhana Sheikh) يسلط الضوء على رئيسة (Raisa)، التي تبرز مقابلاتها مع الطالبات الشابات مدي التحامل والعنف الذي ابتليت به الأقليات العرقية في المدارس الثانوية. وتصارع بطلة رواية "النقل" (1992) للكاتبة أتيما سريفاستافا(Atima Srivastava)  تعقيدات حياة "الجيل الثاني" [من المهاجرين] أثناء إعدادها لبرنامج تلفزيوني عن أزمة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز. وفي أحد خيوط السرد الرئيسية في رواية "الحياة ليست كلها ضحكًا" (1999) للكاتبة ميرا سِيال (Meera Syal)، تُعِدُّ تانيا برنامجًا وثائقيًّا عن الآسيويين البريطانيين المعاصرين، وأسندت البطولة إلى اثنتين من أعز صديقاتها، وهما تشيلا وسونيتا. ولكن مشروع تانيا يفضحهما بطريقة صريحة لا مجاملة فيها، وهو الأمر الذي يهدد بتمزيق أواصر صداقتهن. والكتَّاب والجمهور يدركون الأبعاد السياسية للتمثيل الفني إدراكًا حادًّا منذ فترة طويلة، وتزايد هذا الإدراك بعد فضيحة موضوع رواية "آيات شيطانية". ويكتب نقاد الثقافة باستفاضة وقوة عن افتقار تمثيل الأقليات في وسائل الإعلام البريطانية الرسمية، وتوجد بالفعل عواقب سياسية معقّدة مترتبة عما تفعله هذه التمثيلات. وكثيرًا ما يستكشف الروائيون هذه القضايا في رواياتهم وقصصهم.      

هذا الاهتمام بتعريف الذات والدخول في التيار الرسمي يربط ميرا سِيَال بأعمال حنيف قريشي (Hanif Kureishi)، الذي حقق شهرة بسبب مسرحياته التليفزيونية في ثمانينيات القرن العشرين مثل "مغسلتي العامّة الجميلة". إنّ مكانة حنيف قريشي في النقد الأدبي العرقي البريطاني تكاد تنافس مكانة سلمان رشدي. ويعتبره الناقدُ سوخديف ساندو (Sukhdev Sandhu) أهم شخص "مسؤول عن وضع الأسيويين في إنجلترا تحت الأضواء" (ص: 230).  ولا شك في أن قريشي يكشف عن مكانة واهتمامات الأطفال المولدين في بريطانيا لأباء آسيويين مهاجرين ويقدم رؤى نقدية ثاقبة عنهم. وعلى وجه الخصوص، تُبرز أعماله التمايز غير المتوقع في العادة بين تجارب الجيل الأول وتجارب الجيل الثاني. يبدأ بطل روايته "بوذا الضواحي" (1990) قوله، قائلاً: "اسمي كريم أمير، وأنا رجل إنجليزي المولد والنشأة تقريبًا. وعادة ما يعتبرونني رجلاً إنجليزيًّا مرحًا، وهي سلالة جديدة كما تعرفون، لأنني نتجتُ عن تاريخين قديمين" (الطبعة الأولى 1990؛ الطبعة التي اعتمدنا عليها نشرت في عام 1991، ص: 3). ومع أن كريم "ليس فخورًا" بكونه إنجليزيًّا، فإنه يكاد لا يُعْتَبَر "باكستانيًّا" أيضًا، وهو الأمر الذي قدم لنا صورة عن إصرار قريشي على أنه يعرِّف نفسه في المقام الأول على أنه من أهل لندن. وتذهب راناسينها إلى أنّ أعمال قريشي "تسخر بأسلوب المعارضة الأدبية من فكرة المجتمعات المتجانسة والمتميزة والمعرَّفَة عرقِيًّا"(ص: 222). والخلط المتعمّد في الهوية في رواية "بوذا الضواحي"- وهي رواية لا تعبر عن العرقية أو تستغلُّها أو ترفضها تمامًا -يضع كريم تحت ما أسماه مارك شتاينMark)   (Stein ليس "ما بعد العِرقيَّة" (post-ethnicity)، وإنما "العرقية المزعومة" (posed-ethnicity) (ص: 115)، فأحيانا يستخدم علامات اختلاف، ولكنه يقوّض أية فكرة تقول بأن الهوية يمكن حصرها في مفهوم العِرق فقط. وهكذا، نجد أن مهنة التمثيل عند كريم، التي تبدأ بدور كوميدي بشكل كارثي ممثَّل في شخصية موجلي، وتنتهي بأدائه لشخصية في مسلسل تليفزيوني شكلي عن الأقليات- هذه المهنة تُنَاظِرُ ميله للنظر إلى العرقية ذاتها على أنها أداء تمثيلي.

ومثل حنيف قريشي، برز مجموعة من كتّاب الجيل الثاني على الساحة الأدبية، والكثيرون منهم يستكشفون المواقع الثقافية "الما بين" أو "العالقة بين" للأسيويين المولودين في بريطانيا. فرواية التكوين الكوميدية التي كتبتْها سِيَال الكوميدية بعنوان "أنا وأنيتا" (1996) ترصد لنا حياة فتاة تكبر في بيئة ريفية متعصبة في إنجلترا في ستينيات القرن العشرين. ورواية نديم أسلم (Nadeem Aslam) الكئيبة والعنيفة التي تتخذ عنوان "خرائط لعشاق تائهين" (2004) تستكشف التوترات الموجودة بين العائلات الآسيوية البريطانية. ففي الوقت الذي يحاول المجتمع في "صحراء الوحدة" جاهدًا لأن يفهم لغز  اختفاء العاشقين غير المتزوجين جوجنو وتشانده، نجد ربَّة العائلة (كوكب) تحاول أن تتوافق مع بلد ما زالت أجنبية وعدائية بالنسبة لها، ومع أطفال أكثر غرابةً وبُغضًا. ومحاولتها للحفاظ على التقوى بالمفهوم الإسلامي قد تكون انعكاسًا للصورة النمطية عن المهاجرين الأسيويين، ولكن الجيل الأصغر في هذه الرواية يتبنى أحيانًا أصوليَّةً أكثر حدَّة. وبهذا المعنى، نجد في رواية نديم أسلم صدى لمجموعة من النصوص التي تستكشف صعود الإسلام الراديكالي بين الشباب الآسيويين البريطانيين. فالقصة التي نشرها قريشي في عام 1997 بعنوان "ولدي المتطرف"، التي يصاب فيها مهاجر باكستاني علماني تمامًا بالرعب عند تحوُّلِ ابنه إلى الأصولية، تبدو الآن استشرافًا للأحداث الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر والسابع من يوليو. وتستكشف رواية قريشي الثانية "الألبوم الأسود" (1995) مسارًا  مشابهًا؛ فأحداثها تركز إلى حد كبير على تصوير غضب الشباب الموجه ضد بريطانيا البيضاء بوجه عام، وضد رواية سلمان رشدي "آيات شيطانية" على وجه الخصوص. ويفشل المجتمع الذي تصوره رواية مونيكا علي في روايتها "شارع بريك لين" في تحقيق التجانس والترابط في أعقاب كلٍ من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وصراعات هذا المجتمع ذاته السياسية الداخلية. وفي لحظة حياة يبدو أنها انعكاس للفن، تعطَّل تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي في عام 2006 عندما تظاهر بعض المقيمين ضد الحبكة المعادية للمسلمين والمعادية للبنجلادشيين. وفي رواية محسن حميد (Mohsin Hamid) "الأصولي المتردد" (2007)، نجد أنَّ الشخصية التي يشير إليها العنوان تستجيب للتعصب الذي انتشر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالانضمام لمنظمة إسلامية ناشطة سياسيًّا في باكستان. لقد تأكد أنَّ الذوبان الثقافي قضية جوهرية ثابتة في النصوص التي يكتبها الآسيويون البريطانيون، ولكن مصطلحاته الأساسية تغيَّرتْ في أعقاب العنف العالمي الحديث؛ ويستكشف هؤلاء الكتّابُ الأسباب التي أدت إلى ظهور النشاط السياسي الشبابي ونتائجه المحتملة على نسيج المواطنين البريطانيين بوجه عام.

والذكريات المتعلقة بوطن الإقامة والوطن الأم وأوضاع ما قبل الاستعمار وما قبل الاستقلال والحياة قبل المجيء إلى إنجلترا والمبادئ الأساسية الخاصة بالثقافة والدين والسياسة غير الغربيين- هذه الذكريات أرض خصبة لرواياتَ التعددية الثقافية البريطانية؛ ففي الكتابة الآسيوية البريطانية، تميل نصوص الذاكرة والنصوص التي تتناول الذكريات لأن تتخذ شكلين. في أحدهما، ينظر الكتّاب للوراء إلى فترات سياسية محددة في تاريخ شبه القارة الهندية. فعلى سبيل المثال، ترسم رواية أ. سيفاناندان (A. Sivanandan) "عندما تموت الذاكرة" (1997) موجات من العنف المجتمعي الذي تعرضت له أقليات التاميل في سريلانكا قبل الاستقلال وبعده. رواية "العار" لسلمان رشدي  ورواية  "قضية تفجير المانجو" (2008) لمحمد حنيف (Mohammed Hanif) تتأملان أطراف السلطة السياسية في باكستان بعد الاستقلال بطريقة ما بعد حداثية متميزة وأسلوب هجائي لاذع. أما بالنسبة للشكل الثاني الذي تتخذه الذكريات، تنظر الشخصيات المنفية نظرة حنين للماضي في أوطانها الأم في شبه القارة الهندية، كما في رواية "ذكريات المطر" (1992) للكاتبة سونيترا جوبتا (Sunetra Gupta). وفي روايتي "شعب مرجانية" (1994) و"الساعة الرملية" (1998) للكاتب روميش جونيسيكيرا (Romesh Gunesekera)، فيظل حنين الشخصيات إلى سريلانكا غير خالصٍ بسبب العنف المجتمعي المتواصل وكذلك بسبب فجوات وأخطاء واختلاقات الذاكرة نفسها. وترى الناقدة ناستا أن النثر الذي يكتبه جونيسيكيرا يوحي بـ"أدب شتات لم تعد فيه العودة ممكنة، ولم تعد فلاتر الذاكرة المتشظّية مسارًا رائقًا أو احتفاليًا يوصل إلى "الوطن الأم المتخيَّل"(ص: 213). لم تعد تقدم طريقًا آمنًا أو سارّا إلى أرض الوطن الخيالية) (213). وكما يؤكد العديد من الأدباء والمنظِّرين الثقافيين، إنّ العودة إلى الوطن الأم — سواء أكانت عودة من خلال الذاكرة أم عودة في الواقع — لم تعد خيارًا بسيطا ممكنًا. ويرى ستيوارت هُول (Stuart Hall) أنّ "الهجرة رحلة في اتجاه واحد. فلا يوجد "وطن" للرجوع إليه. ولم يكن هناك وطن قط" (ص: 115).

كما أنه لا أحد من أبناء المهاجرين ولا من هؤلاء الذين عانوا الأمرَّين كي يهاجروا ويستقروا في المملكة المتحدة يرغب بالضرورة في العودة. ربما اكتشف بطل رواية الكاتبة ماركاندايا أنه "رجل اللامكان"، ولكنّ الجيل الثاني والجيل الثالث، بزعامة حنيف قريشي، ينظرون إلى أنفسهم بشكل مطرد على أنهم بريطانيون، ويتحدُّون ويوسّعون مفهوم الهوية البريطانية ذاتها في حياتهم وأعمالهم. في الواقع، يضع قريشي وكونزرو الآن أعمالَهما الروائية بشكل واضح خارج نطاق الجاليات العرقية وقضايا الاختلاف؛ فهما ليسا من "روائيي اللامكان"، ويسعيان الآن إلى استكشاف بريطانيا المعاصرة بشكل أوسع. ولذلك ربما نجد عما قريب أن "الرواية الآسيوية البريطانية" لا تدل على الأدب الذي يتناول الهوية العرقية/ الثقافية، أو حتى يتناول المملكة المتحدة بالضرورة.  نظرًا لأن الكاتب منهم تلو الآخر يحقق مكانة مرموقة، فإن المجال الجديد نسبيًّا يَعِدُ بجماهير ومجالات بحث أوسع في العقود المقبلة. ولكن هذا لا يعني أنَّ السرد المتعلق بوصول المهاجرين إلى مهجرهم صار من الماضي؛ فما زال العديد من الكتاب يتحدثون عن القادمين الجدد وهم كثيرون، وعن تصميمهم على البقاء والنجاح.  فتتناول رواية "جُحْر" (2004) للروائي مانزو إسلام (Manzu Islam) حياة مهاجر غير شرعي في لندن المعاصرة. فحتى عندما تقترب منه الشرطة وتحيط به، يقول إن إنجلترا "ليست صعبة بمثل ما كانت من قبل؛ فعلى الأقل، تعلَّمْنا كيف ندافع عن أنفسنا ونرفع صوتنا ونطالب بحقوقنا [ ...] كان علينا أن نفعل ذلك لأنَّ إنجلترا هي الوطن الوحيد الذي لنا [...] سنفعل أي شيء من أجل البقاء أحياءً؛ وسنبقي أحياءً"(ص: 291).

 

الهوامش:

Mallot, J. Edward. "Postcolonial Fiction of the British South Asian Diaspora". The Encyclopedia of Twentieth-Century Fiction". Vol. 1: Twentieth-Century British and Irish Fiction. Ed. Brian W. Shaffer. West Sussex: Blackwell Publishing Ltd, 2011. Pp. 298- 303.


عدد القراء: 2533

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-