المُحاورة حيلة وخير وسيلة لإنقاذ أنوار الفطرة وبصيرة الذهن الإنسانيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-10-01 20:07:02

د. محمد كَزو

المغرب

على مرِّ العصور كانت المُحاورات وسيلة فعّالة لتحقيق مآرب معيّنة وأهداف خفيّة؛ ولعل أشهرها على الإطلاق مُحاورة أفلاطون (427-347 ق.م)، في دفاعه عن أستاذه سقراط (469-399 ق.م)، بنشر فكره تكريمًا له على موته المفجع بشرب السم أمام أنظاره وأنظار بعض تلاميذه، لاتّهامه بالهرطقة وإفساد أخلاق الشباب الأثيني؛ كُتب أفلاطون كلها تقريبًا هي محاورات تشرح فِكر سقراط وتُبسّطه للناس أولاً، وخوفه من المصير نفسه الذي آل إليه أستاذه ثانيًا. وهناك مُحاورة جاليليو (1564-1642م) بين النظام الفلكي البطليمي والنظام الكوبرنيكي، التي كانت هي الأخرى طريقة لإظهار مركزية الشمس والانتصار للمذهب الأخير، القائل بأن الأرض عبارة عن كوكب يدور حول الشمس الثابتة مخالفًا ما جاء في الكتاب المقدس، وهي مُحاورة مَثَل بسببها جاليليو، وهو في آخر أيام حياته مصابًا بالعمى، أمام المحكمة التي أدانته بالسجن المؤبد ثم الإقامة الجبرية حتى وفاته.

ويضاف إلى هذه المُحاورات مُحاورة ديكارت (1596-1650م) موضوع مقالنا -هو كتاب من الحجم الصغير، يضم 134 صفحة: مقدمة المترجم 70 صفحة، ومتن ديكارت حوالي 40 صفحة فقط، والباقي للهوامش والتعريف بحياة الكاتب- التي من خلالها حاول بسط جُلّ أفكاره انطلاقًا من قصة خياليّة لثلاثة أصدقاء يوجدون في مكان ريفي هادئ. ديكارت كان على علم بكل ما يحصل لجاليليو مع الكنيسة في روما؛ وإدانته بسبب أفكاره العلمية الحداثية وخاف من نفس المصير، فكتب يشرح فلسفته في هذه «المُحاورة» التي لم تكتمل، ربما لضيق الوقت وربما لانشغاله مع الملكة كريستينا (1626-1689م) في السويد آخر أيامه كما يُقال. فما هي أهداف هذه «المُحاورة»؟ وما هو دور الشخصيات التي اعتمد عليها ديكارت؟ كيف سيصل للنور الداخلي لكل إنسان؟ وما المنهج الكفيل بتحقيق ذلك؟

كانت «مُحاورة» ديكارت مراوغة وتحايلاً للهروب من سطوة الكنيسة وقهر الرقابة؛ لذلك فعلاقته بالدّين كانت استراتيجية، فهو لم يعنِه الشأن الديني1 بقدر ما اهتمّ بالرياضيات والفيزياء في طرح أفكاره الفلسفية اعتمادًا على شخصيات وهمية؛ ودليل هذا التحايل سكوته عن الإدلاء برأيه علنًا حول إدانة الكنيسة لجاليليو طيلة حياته، يقول في بداية كتابه الأشْهَر والعمدة في الفلسفة حسب المتخصصين «تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى» مستعطفًا رجال الدين ومحاولاً ذر الرماد في العيون: "حضرات السادة: يدفعني إلى تقديم هذا الكتاب إليكم سبب وجيه جدًا، ويقيني أنكم ستجدون حين تقفون على القصد منه سببًا وجيهًا كذلك لتشملوه برعايتكم (...) لقد كان رأيي دائمًا أن مسألة الله والنفس أهم المسائل التي من شأنها أن تبرهن بأدلة الفلسفة خيرًا مما تبرهن بأدلة اللاهوت: ذلك أنه وإن كان يكفينا نحن معشر المؤمنين أن نعتقد بطريق الإيمان بأن هنالك إلهًا وبأن النفس الإنسانية لا تفنى بفناء الجسد، فيبقى أنه لا يبدو في الإمكان أن تقدر على إقناع الكافرين بحقيقة دين من الأديان، بل ربما بفضيلة من الفضائل الأخلاقية، إن لم نثبت لهم أولاً هذين الأمرين بالعقل الطبيعي"2، فآخر كلمة هنا هي تقريبًا العنوان نفسه «للمُحاورة» بالكامل حيث نلاحظ "محاورة ديكارت البحث عن الحقيقة بواسطة النور الطبيعي"، فالعقل الطبيعي والنور الطبيعي وجهان لعملة واحدة، فالطبيعة كانت ديدن مُفَكّري وعلماء القرن السابع عشر للتحرر من سطوة الكنيسة؛ وإعادة الكلمة للإنسان نفسه في تحديد مصيره، فكأنما كانت مرحلة تأسيسية لما حدث فيما بعد من نجاحات سحبت البساط مِنْ تحت الكنيسة وإرجاعه للطبيعة أي للنور الداخلي لكل إنسان على حدة؛ ثم يضيف ديكارت في نفس النسق "فلا شك عندي أنكم إذا تعطّفتم فشملتم هذا الكتاب بعنايتكم، وتفضلتم أولاً بتصحيحه (لأني لا أزعم أنه خال من الغلط، ويمنعني من ذلك شعوري بقصوري بل بجهلي) ثم بإضافة ما ينقصه إليه، وإتمام ما لم يتم منه، والتكرم بإيراد شرح أوفى إذا اقتضى الأمر ذلك، أو تنبيهي على الأقل إلى ما قد يكون فيه من عيوب حتى أعمل على إصلاحها"3؛ بل وأعطى الحكم لرجال الدين في قبول أفكاره من عدمها وزاد من نبرة خضوعه ومهادنته قائلاً: "وسوف يحمل الحق جميع العلماء وأولي الألباب على قبول حكمكم والانضواء تحت لوائكم، أما الكفار (...) فسينزعون من نفوسهم روح المعارضة، أو لعلهم يدافعون هم أنفسهم عن تلك الحجج حين يرونها مقبولة لدى جميع أولي الألباب في عداد البراهين، مخافة أن يظهروا بأنهم لا يفهمونها (...)، فالحكم الآن لكم فيما نجني من ثمرات هذا الاعتقاد متى توطدت أركانه لكم أنتم الذين ترون الفوضى الناشئة من الشك فيه. ولكن لن يجمل بي في هذا المقام أن أطيل الكلام في التوصية بقضية الله وقضية الدين لدى من كانوا دائما أمتن دعائها"4.

لكنّ السؤال الأهم هنا هو: لماذا استمر ديكارت في مراوغة الكنسية ورجال الدين في العقد الأخير من حياته، وقد كتب أغلب أفكار فلسلفته؟5، فقد نشر «التأملات» صيف 1641م في هولاندا، واتهم بالإلحاد في مارس 1642م، أي بعد حوالي 7 أشهر تقريبًا، و«مبادئ الفلسفة» سنة 1644م، و«المحاورة» ظهرت أول مرة بعد موته بخمسة عقود سنة 1701م. الجواب السهل هو أن أسلوب ديكارت كان تعليميًا بامتياز ويريد أن يُتمَّ مشروعه دون معيقات من الكنسية تارة ومن الخصوم تارة أخرى، فهو مهووس بتبسيط الأفكار ليفهمها الجميع، كما أن كتاباته الفلسفية تدل بوضوح أنه أراد تجاوز طريقة التعليم القديمة وإعطاء بدائل لها، أكثر عقلانية وبداهة.

يشرح ديكارت في مقدمة الكتاب أن هدف «المُحاورة» هو تعلم المنهج الديكارتي؛ البداهة والوضوح، التحليل ثم التركيب. وكل هذا منبعه الشك ولا شيء غيره، أي تعليق إصدار الحكم في انتظار معرفة الحقيقة فيقول: "هذا ما أقترح تعليمه في هذا الكتاب، أردت أن أُخرج إلى النور الثروات الحقيقية لنفوسنا"6. فالإنسان المثقف –حسب ديكارت في «المُحاورة»- ليس هو الذي قرأ كل الكتب أو عرف بتفصيل ما تعلَّمه في المدارس أو درس الآداب فقط، بل هناك ما هو أهم في الحياة، إذا استخدم العقل وحده وتعلم منه يقول: "أتصور إنسانًا ذا موهبة بسيطة، لكن تفكيره لم يفسد بأية آراء خاطئة ويظل عقله مثل ما منحته له الطبيعة"7. فالإنسان يأتي للحياة جاهلاً، ويزيد من جهله حواسه التي تخدعه، والأفكار الملقاة؛ ولكن نستطيع السيطرة على الأفكار الخاطئة بالعقل وحده، أو بالاعتماد على طبيعة الإنسان الطّيبة أو بدروس مِنَ الحكماء والعقلاء؛ بهدف الانعتاق من كل ما هو خاطئ وبداية التأسيس لعلم صلب يمكِّنه الرقي بالفكر إلى أعلى الدرجات. فالمعارف التي لا تتجاوز حدود العقل البشري سهلة الإدراك ولا تحتاج لقوة أو فن عظيمين؛ بل البدء بالأشياء البسيطة حتى الوصول للمُركّبة، فالسر يكمن في استخدام المنهج بالطريقة الأفضل، يقول مؤكدًا: "لقد بذلت عنايتي في أن أجعل هذه الحقائق نافعة لكل البشر، ولهذا الهدف لم أستطع أن أجد أسلوبًا أكثر مناسبة من هذه الحوارات"8؛ فهي أحسن الوسائل لشرح فكر معيّن بدل الاعتماد على المدرسة القديمة والفكر القديم، أي أن الأشياء البسيطة الواضحة قليلة جدًا، ولكن استخدام المنهج هو الكفيل بتنقية الصعبة منها وفهمها ربحًا للوقت والمجهود كذلك؛ وهو أسهل الطرق بدل الخوض في غمار التيه والشرود.

يُعِدُّ ديكارت الفكر في المطلق وفي كِتابه «المحاورة» على وجه الخصوص، الحقيقة الأولى التي يتمّ الانطلاق منها لمعرفة باقي الحقائق، إذا ما تم صقله بالشك باعتباره هو الحاضر المستمر للوصول إلى كل يقين، وهذه بكل بساطة هي الوظيفة المعرفية التي يؤديها.

بعد هذه المقدمة يبدأ ديكارت «المُحاورة» بالشخصيات التي اعتمد عليها وهي:

إيدوكس: يمثل الحس السليم ونور العقل الفطري، ويملك الحكم الصائب والقادر على الاستنتاج بفضل حسن استعماله لنوره الطبيعي. (تقمص ديكارت دوره بقوة في الكتاب).

بوليندر: يمثل الرجل المستقيم المثقف الذي لم يتعلم في المدارس ولا من الكتب بل من الحواس فقط، فهو الرجل العامي العادي.

إبيستمون: يمثل المتعلم والباحث المدرسي المشبع إلى حد كبير بما تعلّمه في المدرسة على يد أساتذته، وما قرأه في الكتب القديمة، إضافة إلى ثقافته العامة (الأفكار الملقاة).

يـبدأ الحوار ببوليندر الرجل المستقيم الذي لم يتعلّم في المدارس ولا من الكتب، ثم بإبيستمون المتعلّم والباحث المدرسي المشبع إلى حد كبير بما تعلّمه في المدرسة، وأخيرًا بإيدوكس الحس السّليم ونور العقل الفطري، فهذا التسلسل في حد ذاته ليس اعتباطيًا، بمعنى آخر أنّ ديكارت أعطى الأسبقية لعامة الناس فالنّخبة التي تحتكر المعرفة وتفرض سطوتها، وأخيرًا لأصحاب الحكم الصّائب؛ ليؤكّد بذلك أن الشخص عندما يعرف الحقيقة، ويصل مرتبة الإنسان الحق يتعالى بفكره، ويترك المجال لباقي الفئات لكي تسلك الطريق نفسه، وبهذا تتحرّر أكبر فئة ممكنة من العقول.

مباشرة بعد الترحيب بالصديقين ودعوتهما لقضاء أيامًا إضافية معه في هذا المكان الطبيعي الخلاب، يـبدأ إيـدوكس في نحت وشرح أفكاره بأولّ خطوة فيقول: لبوليندر "وأجعلك قادرًا على أن تجد بنفسك كل الحقائق الأخرى"9، أي أنّ المعرفة تُبنى على الإنسان ذاته وليس على شيء آخر، من الإنسان يبدأ كلّ شيء أي الأنا، فهو المرْكز والمكانة التي كان يفتقدها على مدى قرون عديدة؛ ويضيف موجها كلامه لإبيستمون صاحب الأفكار المدرسية البحثة "إلا أنك يا إبيستمون لا تقطع حديثنا إلا بأقل ما هو ممكن، لأن أهدافه ستجبرنا في الغالب على إبعادنا عن موضوعنا"10، فإبيستمون الذي تعلم في المدرسة سَيَتبيّن له أنّ كلّ ما تعلّمه من تراث يحاول إيدوكس أن يهدمه، ولن يقبل في البداية هذا الأمر كما العديد من أمثاله، لذلك نجده طوال «المحاورة» يعترض ويسأل ويتحدّى.

ويُكمل ديكارت على لسان إيدوكس في دراسة مسائل كالنّفس العاقلة، الله، خداع الحواس، الطبيعة، وهذه المواضيع سيُعالجها بمنهج لكي يميّز الحقيقة ولن يكون هذا المنهج إلا الشّك ولا شيء غيره11، ويذكر ديكارت هنا مثاله الشهير الموجود أصلاً في كتابه «مقال عن المنهج» عن فنّان ما رسم لوحة سيئة النِّسَب والأبعاد، فأحسن شيء إذا أراد شخص آخر أن يصلحها أن يمحو كل الخطوط والمقاسات ويبدأ من جديد، أهون وأفضل من أن يضيِّع وقته في إصلاحها، فكذلك المعرفة الخاطئة المكتسبة تستوجب مسح الطاولة وإعادة ترتيبها من جديد، يقول إيدوكس: "وأنا أقارنها (المعارف الخاطئة) بصرح ما سيّء البناء، أساساته ليست قوية بالقدر الكافي، ولا أعرف دواء أفضل من القيام بهدمه كاملاً لكي أقوم ببناء صرح جديد (...)، لكن وقتما نكون منشغلين بهدم ذلك الصرح، سنستطيع في الوقت نفسه وضع الأسس التي ينبغي استخدامها في مشروعنا، وإعداد أفضل المواد وأكثرها صلابة لتثبيتها"12، بعدما بدأ ديكارت في هدم معارف إبيستمون سيفعل نفس الشيء مع بوليندر، لكي يهدم الأساسات القديمة ويبدأ في بناء معرفة صلبة لكلا الطرفين يقول إيدوكس: "وأن تتركني أتحاور قليلاً مع بوليندر، لكي أهدم أولا كل المعارف التي اكتسبها حتى يومنا هذا"13.

شَكَّ ديكارت في كلّ الأشياء وفي كل المعارف التي تسرّبت للذهن الإنساني دون تمحيص وغربلة، لكنه لم يكن شكّا مطلقًا كما يَعترفُ في العديد من المناسبات في كتاباته، بل كان شكًّا منهجيًا فقط، يستطيع من خلاله تمييز الصالح من الأفكار والطالح منها، ولكن لحظة الشّك هاته هل يضمن الإنسان أنه يستطيع الاستمرار فيها؟ وحتى إن استمر لحظتها، هل يستطيع إكمال شكّه في لحظات تليها؟ فاعترف أنه لا يستطيع، وأن هناك من يضمن هذه الاستمرارية إنه الله، يقول على لسان إيدوكس "إنه حقيقي أن تستطيع الشّك بحق في كل الأشياء التي لم تصل إليك معرفتها إلا عبر نجدة الحواس، لكن هل تستطيع أن تتشكّك في شكّك، وتظل غير متأكد من أنك تشك أو لا تشك؟"14، هذا الكلام يثير بوليندر ويريد مزيدًا من الوضوح بقوله: "الهدف الذي وضعته لهذا الحوار هو أن نتحرّر من شكوكنا"15، ويسترسل إيدوكس في الشرح والتفسير "أنت موجود، وتعرف أنك موجود، لأنك تعرف أنك تشك، ولكنك أنت الذي تشك في كل شيء ولا تستطيع أن تشكك في نفسك من أنت؟"16، سؤال سهل جدًا لأن الجواب البديهي والتلقائي هو: أنا إنسان، ولكن بالنسبة لديكارت إنسان هي إجابة غير دقيقة؛ وحتى لو أجاب إبيستمون كما تعلّم في المدارس بأنّ الإنسان حيوان عاقل جواب أكثر غموضًا من الجواب الأول، لأننا بالضرورة يلزمنا أن نشرح معنى الإنسان؟ ومعنى الحيوان؟ ومعنى العاقل؟ وتزيد الأمور تعقيدًا بدل وضوحها فـ"كل هذه الأسئلة الجميلة ستـنتهي بمحض لغو لن يوضّح شيئًا وسيتركنا في جهلنا الأول"17، أي جهل المعارف المدرسية التي طالما حاول ديكارت تغيـيرها لأنها لا تحقّق المراد منها سيما في ثورة الحداثة آنذاك وارهاصاتها الأولى، ومع ذلك فهو يفعل هذا بكل احترام وأدب لكي لا يثير حفيظة كل المتربّصين به، فيعترف بالمناهج السابقة كجزء من التراكم المعرفي الإنساني ولا يجب إنكار مكانتها، يقول ديكارت على لسان إيدوكس: "فأنا لم أضع، ولن أضع، في ذهني أن أستنكر منهج التعليم المستخدم في المدراس، لأن القليل الذي أعلمه كان بفضله، وأنه بمعونته تعرفت الشك في كل ما تعلمته"18. يستمر الحوار الشيق بين الأصدقاء مركِّزًا على ضرورة الدِّقة في الحديث، وبالكلمات المناسبة البعيدة تمامًا عن التركيب والصعوبة في أي موضوع كان، وتفادي كل ما هو غير واضح؛ والإجابة في حدود السؤال فقط لأن الزيادة قد تصبح مضيعة للوقت، ليصلوا في النهاية بمساعدة إيدوكس أن الإنسان هو كائن يشك ويفكر بغض النظر عن الأعضاء المكوِّنة لآلة الجسد الإنساني. 

حقق ديكارت هدفه من «المُحاورة»، عندما يطرح إيدوكس السؤال على إبيستمون "هل تجد في منطقه (يتحدث عن بوليندر) شيئًا ما مختلاً أو ليس مترتبًا على ما سبقه؟ أكنت تعتقد أنّ شخصًا ما أمّيًا، وبدون دراسات يفكر بهذه الدّقة وكان شديد الاتساق مع نفسه؟"19، لنقل بمعنى آخر أن التفكير الطبيعي المتسلسل والواضح الذي بدأ بالشك؛ وانتهى لمعرفة حقيقة الإنسان هو تفكير سليم ومنهج مضبوط يضع الشخص كيفما كان على سكّة المعرفة الصحيحة، وهذا واضح جدًا عندما أكمل ديكارت مناقشة المواضع الأخرى بنفس المنهج الشكي، والوصول لنفس النتائج المبهرة، على الأقل أنها تزيل غموضًا هائلاً كان جاثمًا على الفكر الإنساني من قبل؛ فيستحيل على الإنسان أن يتعلّم بطريقة أخرى غير ذاته، وتجربته الخاصة، فلا فائدة من شرح اللون الأبيض إلى كفيف ما، بينما لكي نعرفه ينبغي فقط فتح عيوننا ورؤية الأبيض، وبالطريقة نفسها لمعرفة ما معنى الشّك والفكر، سيكفي بكل بساطة أن نشك ونفكر، أي ممارسة الشك والتفكير 20.

يقترح ديكارت المنهج التالي: (الشك + التفكير + الوجود = شيء مفكِّر)، وبه تتمّ دراسة كافة المسائل الغامضة أي فكرة التعميم، وإلا أصبح المنهج غير صالح، يقول إيدوكس بلسان ديكارت: "أردت فقط عرض المنهج الذي استخدَمتُه، فإن حكمنا عليه بأنه سيئ رفضناه، وإذا ما كان على العكس جيدًا ونافعًا، فثمة آخرون سيستخدمونه أيضًا"21، وبهذا الاستنتاج يكون ديكارت قد حقق هدفه الواضح، والمُعلن من «المُحاورة» على الأقل أمام عامة الناس، أما ما أخفاه فكان عندما أحس أنه يُؤَلِّفُ بطريقة غير مسموح بها، فكتب بقناع المراوغة، حيث مرّر الكثير بغطاء يبدو وكأنه دفاع عن الدين، ولكن هو العكس، فاستخدم بكل ثقة وبكل جرأة عقله، وكأنما قد كُلِّف رسميًا من طرف الكنيسة للدفاع عنها ضد الكافرين. ويظهر نجاح ديكارت الباهر أمام أصدقائه عندما ساعد بوليندر على اكتشاف الحقيقة بنفسه دونما الحاجة لأيّة وسائط، وأيضًا بإقناع إبيستمون بأنّ ما تعلّمه في المدارس ليس دائمًا صحيحًا ولا يلبّي حاجات الإنسان الفكرية، فيجب استخدام العقل وبه يتمّ تمحيص كل شيء غامض وغير واضح؛ هذا النجاح يصفه إبيستمون بدقّة بالغة، وبتعبير ممتع فيقول: "تبدو لي على شاكلة هؤلاء القافزين الذين يقعون دائمًا على أقدامهم، إذ تعود دائمًا إلى مبدئك"22، بمعنى أنك تعود دومًا إلى الكوجيطو وإلى الشك، أي الأنا والعقل؛ فيُجيب إيدوكس بإحساس المُنتصر والمُنتشي بتحقيق مراده "السر كله يكمن في البدء بالحقائق الأولى وبالأكثر بساطة والارتقاء بعد ذلك ببطء وعلى درجات حتى الحقائق الأكثر بعدًا والأكثر تركيبًا"23، وهنا ينتهي الحوار عندما سيدفع ديكارت ببوليندر للحديث عن ما تعلّمه طيلة المناقشة، أي أنه سيبدأ بالتركيب بعد التحليل الطويل؛ وهذا بالضبط هو المنهج الديكارتي الذي يتَّسِمُ بالوضوح، والتقدم خطوة خطوة نحو المعرفة الحقّة بواسطة النور الطبيعي. إلى هنا انتهت «المحاورة» التي لم يستكملها ديكارت، أو أن باقي الصفحات لم يُعثر عليها، إلا أنّ هذا النص القصير شكلاً والغني مضمونًا، أعطى فكرة واضحة عن الطريق التي خطّها ديكارت منذ بداية مشروعه الفلسفي والرياضي حتى وفاته. قلتُ سابقًا أنّ كِتاب «المحاورة» كان آخر أيام حياته24، لأن أغلب الأفكار والأمثلة الموجودة فيه قد ذكرها في كتبه السابقة بالتفصيل وبالشرح الكافي والوافي، وهذا الرسم من إنجازي يوضّح ذلك.

 

الهوامش:

1 - ليس بالمعنى العَقَدي فهو تعلّم في مدرسة اليسوعيين تعليمه الابتدائي كاملاً، وأغلب أصدقائه من رجال الدين وخصوصًا صديقه الأب مرسن (1588-1648م) منذ الطفولة، ودائمًا ما يتحدث عن الدين وعن الله وعن الإيمان بإيجابية تامة، ولم يصرح طيلة حياته عكس هذا الموقف، إلا أن الحيلة دفعته مرغمًا لمهادنة الكنيسة أملاً في استكمال مشروعه الفكري الفلسفي والعلمي وهو ما كان.

2 - تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، تصدير مصطفى لبيب، المركز القومي للترجمة، العدد 1297، الطبعة الأولى2009، ص 39.

3 - المصدر نفسه، ص 45.

4 - المصدر نفسه، ص 46.

5 - يوجد رسمان في آخر المقال يشرحان هذا الاستنتاج. رغم أن الانتقادات طالت ديكارت في هذه النقطة بالذات لماذا كان خائفًا طيلة حياته من الكنسية ولم يقدر على مواجهتها ولو مرة في حياته؟

6 - محاورة ديكارت، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم مجدي عبد الحافظ، المركز القومي للترجمة، العدد 1106، الطبعة الأولى 2007، ص 73.

7 - المصدر نفسه، ص 75.

8 - المصدر نفسه، ص 75.

9 - المصدر نفسه، ص 80.

10 - المصدر نفسه، ص 81.

11 - المصدر نفسه، ص 81-82.

12 - المصدر نفسه، ص 85.

13 - المصدر نفسه،ص 84.

14 - المصدر نفسه، ص 89. 15 - المصدر نفسه، ص 89.

16 - المصدر نفسه، ص 90.

17 - المصدر نفسه، ص 91.

18 - المصدر نفسه، ص 92.

19 - المصدر نفسه، ص 100.

20 -  المصدر نفسه، ص 104 - 105 بتصرف.

21 - المصدر نفسه، ص 107.

22 - المصدر نفسه، ص 108.

23 - المصدر نفسه، ص 108.

24 - هنا لابد من الإشارة إلى وجود تواريخ مختلفة عن وقت كتابة هذا العمل، إلا أن دوره التعليمي الواضح، واكتمال المشروع الفلسفي المتضمن لبعض الموضوعات المتأخرة في مؤلفاته أو تعرّضت لها، وأيضا تميزه بنضجه الشديد والدقة في التأليف؛ دليل على أن الكِتاب جاء متأخرًا وليس في مرحلة الشباب كما تقول بعض الآراء. وأنا أيضًا أميل لهذا الطرح؛ فديكارت أراد أن يكافئ ملكة السويد بعمل تعليمي منهجي مبسط ومركّز لتعليمها، فقام بكتابة هذه الأوراق التي لم تكتمل...


عدد القراء: 7306

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 6

  • بواسطة العربي فاريك من العراق
    بتاريخ 2021-01-23 14:16:28

    استمتعت بالقراءة، خبايا وأسرار كشفت في العمل. بالتوفيق

  • بواسطة محمد كزو من المغرب
    بتاريخ 2020-10-18 09:31:07

    شكرا لكم على المرور العطر، وعلى الكلمات الجميلة التي أرسلت في التعاليق.. وأتمنى أن نلتقي في مقالات ودراسات قادمة بحول الله وقوته.

  • بواسطة عواطف التارمستي من الأردن
    بتاريخ 2020-10-08 20:45:51

    مقال يستشفي خبايا المحاورة الفلسفية وابعادها الفكرية لدى المتحاورين، وقد حوى المقال تلخيصا لافكار فلسفية بطريقة ممنهجة. سعدت بالقراءة.

  • بواسطة شمس خير الدين من تونس
    بتاريخ 2020-10-08 19:20:51

    أسلوب ممتع وماتع. حلّقت بنا أيها الكاتب في سماء القرن السابع عشر منطلق الحداثة بكل تجلياتها. دمت متألقا بأسلوبك السلس، البسيط، والمشوق. نحن في انتظار مقالات أخرى تحياتي

  • بواسطة أحمد محمود خيري من المغرب
    بتاريخ 2020-10-07 13:18:10

    تحية وتقدير مقال مسترسل بشكل جيد من المقدمة وحتى الخاتمة، وما يزيده رونقا الصور من عين المكان، لي سؤال هل توجد ايضا أخرى تظهر جوانب حياة الفيلسوف؟

  • بواسطة سعد الدين نجي من
    بتاريخ 2020-10-07 11:38:45

    مقال يستجلي حقيقة المحاورات الهادفة وكيفية التنقل بين الشخصيات بسلاسة وابداع بغية تحقيق هدف واحد وهو نور الفطرة السليم كل السداد والتوفيق

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-