«ألبرت حوراني»: مؤرّخ راصد، ومُنظّر ناقدالباب: مقالات الكتاب
د. ناصر أحمد سنه مصر |
من المؤرخين المتميزين.. فكريًا، ومنهجيًا. ويراه البعض "مستشرقًا غربيًا" لا "مؤرخًا عربيًا" اهتم بتاريخ العرب، وحضارتهم. وبين هذا وذاك.. تتمايز "رؤيته التأريخية" بتجاوزها دور المؤرّخ الراصد، إلى دور المُنظـّر الناقد.
"ألبرت حبيب حوراني" (1915-1993) مؤرخ إنكليزي. ولد في مدينة "مانشستر" البريطانية، من أصل لبناني، هاجر أبواه من "مرجعيون" جنوب لبنان: "لقد ولدت هنا، وتلقيت تعليمًا إنجليزيًا كالإنجليز تمامًا... رغم أنني لم أفقد صلتي بعائلتي. فلم يزل لنا بيت في مرجعيون. ولم أزل أحتفظ بود كبير للبنان، وللعرب. أنا شخصيًا لا أحب تعبير الاستشراق. وأعتبر نفسي مؤرخًا اجتماعيًا، وفكريًا يستخدم المقاييس الغربية في دراساته". لم يتم إدراج "ألبرت" في مدرسة ابتدائية عامة، لأنه "أجنبي". ففتح أبوه مدرسة صغيرة ليدرس فيها ابنه مع أطفال العائلات المهاجرة. فتعلم حتى الرابعة عشر من عمره. ثم التحق بجامعة أكسفورد، لدراسة الفلسفة، والعلوم السياسية والاقتصادية، وتخرج فيها (1936). وسافر إلى لبنان، ودرس ـ (1937-1939)ـ التاريخ، والعلوم السياسية في الجامعة الأمريكية ببيروت.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية.. عاد إلى بريطانيا ليعمل "بالمعهد الملكي للشؤون الخارجية" التابع لوزارة الخارجية البريطانية. وكان يعمل فيه، أيضًا، المستشرق "هاملتون جب"، والمؤرخ "أرنولد توينبي"، فتواصل معهما. وتأثر بالجِدة العلمية للأول، ومنهج الثاني في تفسير التاريخ. كما عمل "حوراني" أستاذًا لتاريخ الشرق الأوسط الحديث في كلية "سانت أنطوني" بجامعة أكسفورد حتى تقاعده (1979). ودرس على يديه العديد من الطلبة الأوروبيين، والعرب. ومن أشهرهم المؤرخ الفرنسي "أندريه ريمون"، والمؤرخان المصريان "مجدي وهبه"، و"محمود المنزلاوي"، والباحث الفلسطيني "وليد الخالدي"، والمؤرخ العراقي "سيّار الجميل". كما أشرف على تكوين أجيال من المستشرقين الأوروبيين، والباحثين العرب في مجال الدراسات العربية والإسلامية.
كما كان "حوراني" "زميلًا فخريًا وشرفيًا" في كليتي "سانت انتوني"، و"ماجدلين". وقام بالتدريس، كأستاذ زائر، في جامعات "شيكاغو"، و"بنسلفانيا"، و"هارفارد"، والجامعة الأمريكية ببيروت. وتميز منهجه التدريسي بعرض الأحداث التاريخية، وشرح الخلفيات، وتحليل الأفكار والمواقف، واستخلاص العبر والنتائج. وكـُلف (عام 1939) بإنجاز تحقيقات في المشرق العربي. ثم عهد إليه (1943) تحليل الأخبار، والتقارير بمكتب استعلامات وزير الدولة البريطاني للشرق الأوسط، المقيم في القاهرة. وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945)، انضم إلى المكتب العربي في القدس. وبعد عام انتقل إلى المكتب العربي في لندن حتى 1948.
وله "مرافعة تاريخية" أمام "لجنة التحقيق الأنجلوـ أمريكية" التي وصلت فلسطين عام (1946) واستمعت إلى الطرفين العربي، والصهيوني. وقابلت اللجنة وفدًا مكونًا من "جمال الحسيني"، و"عوني عبدالهادي"، و"أحمد الشقيري"، و"ألبرت حوراني". واستلمت ملفًا من ألف صفحة باللغة الانجليزية. وكان "حوراني" الفارس المغوار في حديثه أمام تلك اللجنة: "تحدث بلغة الأستاذ الجامعي محللًا، ومعللًا، ومناقشًا، ومفندًا، وتكلم بالمنطق العربي، والعقل البريطاني، وحاورته اللجنة طويلًا فصمد لها، وأجاب عن تساؤلاتها، ولم تستطع أن تجد في مرونته وموضوعيته وايجابياته ذرة من التسليم بالأمر الواقع". فمن خلال تجاربه العلمية والعملية في المنطقة العربية اكتشف أفكارًا، وكون رؤى نقحت أصالة بحثه، ومهارة مقارباته التأريخية. وكان يحتفظ بذكريات خصبة عمن عمل معهم أو التقى بهم. وتنبأ "حوراني" بتحولات عالمية مع نهايات القرن العشرين. وتوقع حدوث هزات كبرى في العالم، وخصوصًا ما يتعلق بأفول العالم الاشتراكي، ومتغيرات الاقتصاد العالمي، وتفاقم ازمات الاقليات، وحدوث متغيرات جذرية شرق أوسطية، وقد كان.
"الفكر العربي في عصر النهضة"
تأثر "حوارني" بالمنهجية العلمية الغربية. وظهر ذلك جليًا في إنتاجه المعرفي، وعلاقته بثقافته الأم، وصلته بمصير أمته. واستفاد من الإمكانات المادية والفرص المتاحة لخدمة تراثه، والتعريف بحضارته. فطوال حياته الفكرية والأكاديمية اهتم بالعالم العربي، ووطنه الأم. وجاءت مؤلفاته تُخاطب أساسًا غير العرب للتعريف بتراث العرب والمسلمين وثقافتهم، وتاريخهم، وإسهاماتهم في الحضارة الإنسانية. فمنذ عام 1936، ولقائه الأول بالمؤرخ "فيليب حتي"، ساهم عبر جهد فكري وبحثي وأكاديمي في إعطاء القراء الأنغلوساكسون صورة مختلفة عما شاع عن تراث الوطن العربي، وفكره النهضوي. واعتبر "حوراني" نفسه "رجل نهضة، وتلميذًا لرهط من المفكرين المتنورين". أولئك الذين نهضوا مطلع القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بجهد فكري كبير. وأبان عن ذلك الانتماء في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة.. 1798ـ 1939". وأصدره باللغة الإنجليزية عام 1962، وفي طبعات أخرى مُعدّلة، ومُنقحة أعوام (1967، 1970، 1983). وترجمه إلى العربية "كريم عزقول"، عن دار النهار ببيروت (1972). ورفعًا للالتباس بخصوص العنوان، قال: (مرة أخرى لا أوافق على عنوان كتابي بالعربية، وهذا خطأ من المترجم، أما ما قصدته تحديدًا بالعنوان الإنجليزي فهو "الفكر العربي في العصر الليبرالي في أوروبا").
وهذا الكتاب من أبرز ما كتبه "حوراني"، ويحتوي علي توليفة تُلقي الأضواء علي مشروع فكري: "إن غايتي من تأليفه ليس تدوين تاريخ عام، بأفكار متعددة، عبّر عنها العرب أو كتبت بلغة عربية خلال القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. كنت أُعنى بالفكر السياسي والاجتماعي في سياق أوجده التطور الأوروبي، تأثيرًا وسلطة، في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا. وفي ظل النظام العالمي الحديث المنبثق من الثورة الصناعية، وانتشار أفكار جديدة تتناول كيفية حياة المجتمعات". كما يتناول الانطباعات العربية الإسلامية الأولى حول أوروبا، قبل أن ينتقل إلى الحديث عن "الجيل الأول من مفكري الحداثة".
وبعض مواد الكتاب كانت محاضرات ألقيت في جامعات عربية وبريطانية. وقد أرخ "حوراني" لأربعة مراحل: مرحلة ما بين (1830-1870م)، وحملت توجَّه واع نحو أوروبا الحديثة، وصناعاتها، وقوانينها، ومؤسساتها العامة التي تمثل "طريقة حياة" يُمكن اتِّباعها، ولا تُمثل تهديدًا للهوية. أما المرحلة ما بين (1870-1900م)، فتميزت بـ "الاجتهاد والتجديد" للتوافق مع الحياة في العالم الحديث، وأبرز رموزها الإمام "محمد عبده". وفي المرحلة ما بين (1900-1939م) حدث افتراق بين التيارين الفكريين اللذين حاول الإمام "محمد عبده" وغيره مصالحتهما، (الأصالة الإسلامية، والحداثة العلمانية). وثم المرحلة الرابعة مع الحرب العالمية الثانية، التي أنهت مرحلة الصعود الأوروبي، وفتحت الطريق أمام الولايات المتحدة، وروسيا. ومع انتشار التعليم، ونمو المدن، وتطور الصناعة، والإعلام، وأضحى المناخ العام أكثر اتساعًا، وباتت المجتمعات أكثر تقبلًا للأفكار الخارجية. ويأتي فصل خاص للإمام "محمد عبده"، حيث يؤكد "حوراني" أن: "تفكير الإمام عبده، انطلق كالأفغاني من قضية الانحطاط الداخلي، والحاجة إلى بعث ذاتي... وتأسيس مجتمع ناهض". ويتابع مؤرخًا لـ "تلامذة عبده في مصر" من: "مصطفى عبد الرازق"، وصولًا إلى "أحمد لطفي السيد" قبل تخصيصه فصلًا لمفكري "القومية المصرية"، ودعاة "القومية العربية". ويتوقف عند "محمد رشيد رضا"، و"فرح أنطون"، و"طه حسين"، و"أدموند رباط"، و"كمال جنبلاط"...، و"الطاهر حداد" وغيرهم كثير.
"تاريخ الشعوب العربية"
أشاد المفكر "إدوارد سعيد" بكتاب "تاريخ الشعوب العربية"، فقال: "إن رشاقة أسلوبه في الكتابة، وقدرته المبدعة للولوج إلى لب الموضوع تجعلان من دراسته مادة ممتعة للقراءة.. إنه واحد من الأساتذة القلائل القادرين على رسم خطوط لوحة.. تمتد مكانًا من المغرب إلى الخليج، وزمانًا من ظهور الإسلام إلى الحرب العراقية الإيرانية.. تجميع بارع للحقائق.. من الصعب إيفاء هذا الكتاب حقه من الأهمية". وقد أمضي "حوراني" سنوات من العمل الشاق كي يصدر هذا الكتاب المتميز، وأهداه لطلبته الذين أحبهم. وطبع منه 150 ألف نسخة، وترجم إلى عشرين لغة منها العربية (ترجمه "أسعد صقر"، عن دار طلاس بدمشق 1997). ويعتبر واحدًا من أمهات المراجع في تاريخ الشعوب العربية، وثقافتها الحية. وجذب اهتمامًا كبيرًا على جانبي الأطلسي، فأثنى عليه كثيرون أمثال: كارل براون، وروبرت ايرون، وتوماس ليبمان، وليلى فواز، وسيار الجميل الخ.
وفي الكتاب يشير "لجوهر متغلل في ثقافة الشعوب العربية، وحضارتهم": "كان ذلك العالم يشكل وحدة تتجاوز حدود الزمان والمكان. وكانت اللغة العربية تفتح أبواب أعلى الوظائف والمواقع، وكان متن معرفي يتنقل خلال قرون عن طريق أساتذة معروفين. أما أماكن الحج، فكانت على الدوام القطب الثابت لكون بشري، حتى حين كانت الهيمنة السياسية تنتقل من مدينة لأخرى، هذا في الوقت الذي كان فيه الايمان بإله واحد، خالق الكون، يُعطي معنى لكل صروف الدهر".
واهتم "حوراني" كثيرًا بـ"ابن خلدون"، وعرض حياته، وأفكاره. ولعله استعان بصاحب "المقدمة" لتبرير أسلوبه الشخصي في كتابة التاريخ، ولرسم صورة للكيفية التي مزج بها "ابن خلدون" بين التاريخ، والاجتماع البشري، وبين حياته، وأفكاره. وعن طريقة "حوراني" في الكتابة يقول صديقه المؤرخ د. "نقولا زيادة": "كان ألبرت يعد نفسه إعدادًا وافيًا عندما يفكر بكتابه مقال. وعندما يتعلق الأمر بكتاب فقد يأخذ إعداده سنوات. فلقد أمضى في إعداد كتابه: "الفكر العربي في عصر النهضة" نحو أربع سنوات. أما كتابه عن "تاريخ الشعوب العربية" ففكر فيه، وأعد له، ووضعه في نحو خمسة عشر عامًا. وأثناء إعداده له نشر مقالات حول الموضوع كي يتأكد من نقاط خاصة، أملاً في أن تتضح له الأمور وتنجلي".
حياة علمية حافلة
خلال الفترة (1946- 1993) نشر "حوراني" ثمانية كتب، وحقق سبعة أخرى. كما نشر أكثر من 150 مقالًا وبحثًا علميًا، وأكثر من مئة عرض تحليلي لأبرز الكتب المرجعية. وكانت باكورة أعماله التي كتبها: "سوريا، ولبنان" (1946)، معتمدًا على معايناته الميدانية، والوثائق المتوفرة، فجاء مرجعًا أساسًا لفهم تاريخ الشام وتحولاته الاجتماعية والسياسية. ثم أتبعه بكتاب "الاقليات في العالم العربي" (1947). وبشأنه وُجهت له انتقادات من زعماء وطنيين، ومفكرين قوميين اعتبروا: "مسألة الأقليات مشكلة عابرة تجاوزها العرب، وأن كتاباته حولها لا معنى لها".
وفي عام 1961 أصدر بحثًا في بيروت حول "رؤيته للتاريخ". كما نشر: "أوروبا، والشرق الأوسط" (1980)، و"نشأة الحداثة في الشرق الأوسط" (1981). في عام 1991 أصدر كتابه "الإسلام في الفكر الأوروبي" (نشرته الدار الأهلية للنشر والتوزيع في بيروت، 1994). ويعرض فيه رؤيته حول الإسلام وعلاقته بالفكر الأوروبي في مراحل تطوره المختلفة. وكيف يتبنّى الغرب وجهة نظر بعد "علاقة حيّة"، معرفة بما يؤمن به المسلمون، وما أنجزوه تاريخيًا؟. وبخاصة بعد فترات (منذ الحروب الصليبية) دأب فيها "العقل الأوروبي" على التعامل مع العالم الإسلامي برؤية ملتبسة ومعتمة، تحمل بقايا ذلك "الشبح العنيد". وباتت الحضارة الغربية مقسّمة للعالم إلى إغريق ورومان في جانب، وبقية الأمم (البرابرة) في جانب آخر، وباتوا عاجزين ـ ولو نظريًاـ عن قبول فكرة وجود "قيم إيجابية في ثقافات أخرى"، تقع خارج محيطهم الثقافي والفكري والمعرفي.
ومن مقالات "حوراني" الهامة: "الإصلاحات العثمانية، وسياسات النبلاء" (1968)، وأعاد نشرها (1981). كما ترجمت بعض دراساته إلى العربية، ومن بين دراساته النفيسة: "الوضع الراهن لكتابة التاريخ الإسلامي، والشرق الأوسط" وترجمته المؤرخة الفلسطينية د. "خيرية قاسمية"، ومقال: "هاملتون جب: إنجازات مستشرق"، وعرّبه الباحث "سلام فوزي". واعترافًا بجهوده في تطوير الدراسات العربية في الجامعات الغربية تم تأسيس جائزة باسم "ألبرت حوراني" تقدمها سنويًا "رابطة دراسات الشرق الأوسط" لأحسن كتاب في مجال الدراسات الشرقية. والخلاصة: مُفكر ألمعي، وبحاثة منهجي، رسخ مناهج علمية ارتبطت باسمه. ونظر "حوراني" إلى الشرق بعين عربية، وفي أحيان كثيرة كان "منصفًا" يراقبه بإعجاب، وخليط من الألم، والأمل، والنقد. وشكل نتاجه العلمي ثروة معرفية تستند على قواعد موضوعية، وامانة علمية، ورؤية واسعة، وتفكير عميق في الأحداث التاريخية.
تغريد
اكتب تعليقك