نيقولا زيادة: شيخ المؤرخين العربالباب: مقالات الكتاب
د. ناصر أحمد سنه مصر |
"حارس التاريخ".. مؤرخ، ومُعلم، ومُترجم . عاش قرابة قرن من الزمن، كرّس أغلب سنوات عمره لكتابة التاريخ، بأسلوب أدبي رصين ماتع. ونقل "روح الأدب" إلى التاريخ؛ فأصبح التاريخ معه أكثر سلاسة وجذبًا وإبهارًا. كما نجح في أخذ التاريخ بعيدًا عن ساحات "التدافع والتعارك" إلى فضاء الشهود والتحضر والحضارة التي تـُعنى بالإنسان، والزمان، والمكان، والمهن إلخ.
مع كثرة المؤرخين، والمهتمين بقراءة أخباره، واستنطاق أحداثه، وفهم مجرياته، وتأمل دوراته، وحفظ عادياته.. يبقي "نيقولا زيادة" نسيج وحده. ولد "نيقولا زيادة" (2 ديسمبر 1907- 27 يوليو 2006) في حي "باب المصلّى" بمنطقة الميدان في دمشق. والتحق بمدرسة "الفرير". وتنتمي أسرته لمدينة "الناصرة" بفلسطين. عمِل والده موظفًا بقسم الهندسة في الإدارة العامة لسكة حديد الحجاز، بدمشق. وتم تجنيده في الجيش العثماني، وأثناء مكوثه في أحد مراكز تجميع الجنود، مرض وتوفي. فعاد "نيقولا" إلى "الناصرة"، وما لبث أن قـُـتل "خاله" في انفجار قنبلة ألقتها طائرة بريطانية. فاضطرت أمه للعمل، وانتقلوا إلى "جنين". وعوّض "نيقولا" عدم انتسابه لمدرسة نظامية، بمطالعة كتب مُستعارة من جاره. وفي عام 1919 افتتحت مدرسة حكومية فالتحق بها. وبعد عامين.. استكمل تعليمه في "دار المعلمين" في القدس. وتعاقب على التدريس في "الدار" مدرسين كُثر، تخرجوا في جامعات أمريكية، وفي "دار الفنون" بإستانبول، وفي الجامعة الأمريكية ببيروت، وفي مدرسة القضاء الشرعي بالقاهرة. فمنهم تعلم "نيقولا" الكثير، وخاصة حب العلم، وعشق المعرفة، وأخلاقيات المتعلم، والباحث العلمي.
"نيقولا".. مُعلمًا
عمِل لأسابيع في مدرسة "الناصرة". وانتقل ـ لعام واحد ـ مدرسًا في "ترشيحا" (قضاء عكا). ثم درّس (1925-1935) في مدرسة ثانوية بعكا. ورغم ميله للرياضيات تم تكليفه بتدريس التاريخ، والجغرافيا، فأعجبه الأمر، وصار "مؤرخًا تحت التدريب". فتعرّف على بعثات تنقيب الآثار في "عكا"، و"بيسان"، وزار المناطق الأثرية في فلسطين. واختير (عام 1935) لبعثة في جامعة لندن. فأمضي ما يقرب من أربع سنوات، منها ستة أشهر في جامعة زيورخ بألمانيا. ففرضت عليه تعلم لغتين أوروبيتين بخلاف الإنجليزية، فاختار الألمانية، والفرنسية القديمة، وحصل على البكالوريوس (1939). وعاد إلى فلسطين قبل بدء الحرب العالمية الثانية بأسابيع. وقام ما بين (1939-1947) بتدريس التاريخ القديم، وتاريخ العرب في الكلية العربية (القدس). وصدر أول كتبه: "روّاد الشرق العربي في العصور الوسطى"(1943).
ثم سافر (1947) إلى جامعة لندن لإعداد الدكتوراه. وانتقل إهتمامه من التاريخ القديم إلى التاريخ الإسلامي. وأعتني بقراءة كتب العرب القديمة، لا في التاريخ فحسب، بل في الجغرافيا، والأدب وغيرهما. وحصل (1950) على شهادة الدكتوراه بأطروحته: "سوريا في العصر المملوكي الأول". كما كتب عددًا من المقالات التاريخية في "المقتطف"، و"الثقافة" وغيرهما. وبعد إحتلال فلسطين (1948) نزح إلى لبنان، ونال جنسيتها، والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت. فتدرج في السلك الوظيفي حتى عُيّن استاذاً للتاريخ عام 1958، وظل يُدرس فيها حتى عام 1973. كما قام بالتدريس في الجامعة الأردنية ما بين (1976 - 1978). وبعد بلوغه الخامسة والخمسين تقاعد من الجامعة الأمريكية، وأشرف في جامعة القديس يوسف، وكلية اللاهوت للشرق الأدنى ببيروت، على طلاب الدراسات العليا في التاريخ العربي حتى عام 1992. وكانت أقرب الألقاب إلى قلبه: "المعلم". بينما فضل أخرون تلقيبه بالشيخ "نيقولا". حيث ان أغلب أحاديثه لا تخلو من استشهاد بآية قرآنية أو حديث نبوي. وكثيرًا ما ذكر في كتاباته أنه "مسيحي الديانة، مسلم الهوية"، ينتمي إلى الإطار العام للحضارة العربية الإسلامية. ويلتزم ـ بأصالةـ بقضايا وجوده، وعمقه الحضاري والإنساني.
"شيخ" المؤرخين العرب
لـه نظراته العميقة للتاريخ. فدراسته تفيد على طريق نهضة الأمم والمجتمعات، وقيام /نمو /انهيار الحضارات. ودعا إلى كتابة تاريخ حَري بالقراءة.. الحاضرة، والمستقبلة. لذا من الضرورة اطلاع المؤرخ على المجرى العام للتاريخ، وقوانينه، وسُننه. فلا يحشر نفسه ـ بدعوي التخصص ـ في فترة تاريخية بعينها. بل يضع "فترته" تلك في سياقها التاريخي العام. وحذر من "تحيز" المؤرخ؛ لأن ذلك يشوه التفسير التاريخي (الحيادي). كما يجب أن تبقي إحدي عينيه على الماضي والأخرى على المستقبل. وليعلم أن التاريخ ليس معارك فقط؛ فـ"المؤرخ الصحيح يجب أن يتعرّف إلى جو المعركة الخارجي كي يفهم الأمر على علاّته". مع ضرورة العناية "بالوثيقة على إختلاف أنواعها، والآثار"، فهما أساس في المنهجية التاريخية، ومصدر هام لإستقراء التأريخ. وأن يكون فاهماً لتاثير جغرافيا المكان، والزمان، والإنسان.
وصك "نقولا" مُصطلح "الجيولوجية الإجتماعية". ليشير ـ بدقةـ إلى أن إنجازات شعب ما (مهما كان نوعها) لا تذهب بددًا لمجرد تراجعه، أو هزيمته، أو احتلاله. فالكثير من الإنجازات تظل في المجتمع، وتنتقل إجتماعيًّا كما تنتقل شعيرات النبات من طبقة من الأرض إلى أخرى. فالتاريخ لا يعرف أن شيئًا ما يجُبُّ ما قبله، ولأن انتصار السيف والمدفع لا يمحو تاريخ الإنسان، والجغرافيا. ودعا الدارس للحضارة الإسلامية لفهم خصوصيتها، مقارنة بالحضارات الأخرى. وأن تكون "آلياته" في دراستها مختلفة. نظرًا لظهور الإسلام في فترة زمنية وجيزة، واتساع دولته، فضمت شعوبًا متنوعة الأعراق والحضارات؛ ومن ثم فحضارته تحمل قدرًا من التميز عن الحضارات الأخرى. ونصح بالنظر إلى الدور الهام للعرب والمسلمين في مسيرة الحضارة الإنسانية.
وكانت معايشات "نيقولا" للأوضاع في الوطن العربي جعلته "مؤرخًا موضوعيًا، لا تقليديًا مُتحيزًا". وأفاد من اطلاعه على ثقافات عدة متنوعة، ونهله من أدبهم وتراثهم. لذا كان أسلوبه بليغًا ماتعًا خاصة عندما يتناول خلجات النفس البشرية، وتأرّيخ العادات والتقاليد والحرف العربية. ويُعتبر "زيادة" واحدًا ـ إلى جانب "عارف العارف"، و"مصطفى مراد الدباغ"ـ من أبرز ثلاثة مؤرخين لفلسطين. وكان مؤرخًا موسوعيًّا... التاريخ "هوايته، ودراسته، ومملكته التي يعرف دهاليزها". واهتم بأغلب فترات التاريخ وحقبه، بدءًا من التاريخ القديم حتى المعاصر. وركزت عيناه على إبراز الجوانب الحضارية، وتاريخ الأفكار. فلم يكن قصة سردية؛ بل كان "عبرة تحليلية" للماضي لتجاوز الواقع، والتواصل مع المستقبل، والشهود الحضاري. واعتبر كل ما مضى تاريخًا؛ فأرخ لبائع الفول في "عكا"، ولسجادة في منزله، ولبعض الأمراض. وامتلك قدرة تأريخ ما يراه، وتحويل المشاهد/ المسموع إلى تاريخ.
ورغم نجاحاته وصف نفسه بـ "الفاشل"، لأنه فشل في كتابة القصة القصيرة. ورغم وصوله سنًا متقدمة إلا أنه كان متوقّد الذهن، مُحتفظًا بذاكرة قوية، وذكريات خصبة دونها سيرته الذاتية "أيامي.. سيرة ذاتية" (1992). وحفلت بالكثير من أخبار رجال الفكر، والأدب، والثقافة، والسياسة. فكانت ذاكرته أشبه "بأرشيف" ضخم للعرب في أهم قرن لهم. كما كان يتحدث بلباقة ليسرد الأحداث بسلاسة وكأن شريط الذكريات يعبر أمام عينيه بأدق تفاصيله. أحداث ووجوه حفرت في ذاكرته مثلما حفر في الحضارات منقّبًا عن أحوال الأمم فس صحتها ومرضها، شبابها وشيخوختها.
أهم أعمال شيخ المؤرخين العرب
كان عمره المديد مجالاً خصباً للرصد، والفكر، والتأمل التاريخي. وفي مطلع حياته، كتب العديد من المقالات، ومن ثم وصلت دراساته نحو أربعين كتابًا (منها إثنان بالمشاركة) بالعربية، وستة كتب بالإنجليزية، وترجم ستة كتب عن الإنجليزية، وكتابًا عن الألمانية (بالمشاركة مع د. سلمى الخماش). ومن أهم كتبه: "وثبة العرب" (القدس 1945)، و"العالم القديم"(جزءان - يافا 1942)، و"صور من التاريخ العربي" (القاهرة 1946)، و"شخصيات عربية تاريخية" (يافا 1946)، و"صور أوروبية" (القدس 1947)، و"عالم العصور الوسطى في أوروبا" (القدس 1947)، و"قمم من الفكر العربي الإسلامي" (بيروت 1987)، "الجغرافيا والرحلات عند العرب" (بيروت 1987)، و"شاميات.. دراسات في الحضارة والتاريخ" (بيروت 1989)، و"أفريقيات.. دراسات في المغرب العربي والسودان الغربي" (بيروت 1991)، و"لبنانيات.. تاريخ وصور" (بيروت 1992)، و"أيامي.. سيرة ذاتية) (بيروت 1992)، و"مشرقيات في صلات التجارة والفكر" (بيروت 1998)، "في سبيل البحث عن الله" (بيروت 2000)، و"المسيحية والعرب" (بيروت 2001). وقد صدرت الأعمال الكاملة له في أكثر من عشرين مجلدًا في بيروت. وله يقارب 150 مقالاً، ومحاضرة كتبها في مجلات عريقة، وألقاها في مؤتمرات عربية ودولية. كما كان عضوًا في جمعيات علمية عديدة مثل "الجمعية الأمريكية للاستشراق"، و"الجمعية الألمانية للاستشراق"، و"الجمعية العلمية العراقية".
وخلاصة القول: رجل "دهري"، مُعمر يلفحه نسيم من عبق التاريخ. ومؤرخ معني بأحوال الأمم والحضارات، باحثًا عن خباياها، مفسرًا لأسباب نشوئها، ونهوضها، وتراجعها، وزوالها. تمثل الوقائع بمعرفة ودراية، فأعطاه التاريخ حق التجوال الحر في شعابه، ومنحه سر الفتوة. فكانت حياته الطويلة تاريخ؛ حمل خلالها القلم، ولم يضعه إلا مع نهاية رحلته.
تغريد
اكتب تعليقك