نجيب محفوظ واللص والكلابالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 11:33:39

رقية نبيل عبيد

الرياض

غالبًا ما تظهر أفكارنا مختلفة حين نحاول ترجمتها إلى كلمات على الورق، غالبًا ما تكون قصص الحياة ذات طابع مغاير لماهيتها إذما ترجمتها موهبة أدبية لرواية ببضع مائة من الصفحات، وإن كُتب للرواية أن تقع بين يدي السينما وأهلها وصناعها فلابد لها أن تخلع ثوبها مجددًا لتُصب في قوالب جديدة بها نكهات درامية وألوان موسيقية ومنعطفات قصصية أخرى!

 من يدٍ إلى يد، وكل يد تعالجها بما ترتئيه.

هكذا حينما سمع الأديب العبقري نجيب محفوظ بالقصة الحزينة القصيرة للص والقاتل (محمود سليمان أمين) انبثقت الخيالات تتفجر في خلايا الإلهام منه، وأهرق القلم فورًا مئات الصور والأماكن والشخصيات التي ما كانت لكن أوجدتها اليراعة الأدبية لضرورة الحبكة والدراما الروائية، وهكذا خُلقت نور، الغانية الجميلة الضائعة والغارقة حتى أذنيها في حب البطل الخارج عن العدالة، وهكذا كان رؤوف الشاب الجامعي اللامع الذي ملأ رأس اللص الفتي بحكايا عن البطولة والشجاعة وظلم المجتمع والإخلاص لقضايا الفقراء ومقت الأثرياء الذين ما انفكوا ينهبون جيوب "الغلابة" فقط ليجده البطل قد صار واحدًا منهم ، ثريًا بكرش عظيم وغانيات كثر ومساعدين أكثر ومكاتب مكيفة فاخرة وضمير منعدم زلق .

اللص والكلاب رائعة نجيب محفوظ الخالدة، الرواية التي يذكرها الناس دائمًا بعد الثلاثية، وعلى عكس روايات محفوظ فهذه الرواية تتناول قصة واحدة وحياة واحدة ومأساة واحدة لا يشارك البطل فيها أحد ، "سعيد مهران" لص محترف يتسلق الجدران كقط ماهر درج في الشوارع والأزقة، ويبصر المسروقات حتى في ظلام الليل الدامس، سعيد يقع في غرام نبوية، ويعرض عن نور التي لطالما قابلته في مقهى المعلم ولطالما سعت إلى حبه دون جدوى، نبوية كانت عفيفة وحالمة وذات قدّ جميل ووجه أرق، نبوية هي من تزوجته وهي من أنجبت له حبة قلبه سناء، ونبوية هي من باعته لأجل تابعه وصبيه عليش!

"قال لها سأبلغ عنه الشرطة ونخلص من شره، فسكت اللسان ولم يجب، سكت اللسان الذي لطالما قال أحبك وتعهد بكل آيات الإخلاص والعرفان"، هكذا تخيل سعيد مهران المشهد بينهما قبل أن يسلموه لقبضة السجن، مئات من المرات يذكر وجهيهما ويفور صدره برغبة الانتقام، حينما تُفتح له أبواب الحرية أخيرًا يتجه رأسًا لمنزل عليش الذي تحول من تابع تافه لسيد يسكن منزلًا بطابقين بفضل مسروقاته التي استحوذ عليها، أراد أن يملأ عينيه بمنظر الخائنيْن، وأراد قبل كل شيء أن يحتضن ولو لدقيقة طفلته الصغيرة، لكن الطفلة تنفر ويتمزق قلبه، ويحضّر عليش جمعًا لمقابلته برفقتهم ويدرك سعيد كم أنه خائف من غضبة انتقامه. وتضيق به الأرض إلا من بيت شيخه القديم الذي طالما كان مفتوحًا لمريديه، وتتدافع الأحلام والذكريات تتسابق في ذهنه المكدود فيما يسترخي تحت أفياء النخيل، يحاول سعيد محاولة واهية لإيجاد رزق بالحلال، لكن النظرات المحملقة والازدراء الظاهر سرعان ما يردانه لمهنته الأولى، سارق بيوت!

ويذهب للقهوة "إياها" ليبتاع سلاحًا جديدًا وليقابل نور، وحينما يذهب في ظلمة الليل لمنزل عليش ويطلق الرصاص على الرجل بداخله دونما تمييز يختبئ في شقة نور ليدرك أن ضحيته لم يكن عليش وأنه ونبوية لا يزالا في أمان، وتمتد الأيام أمامه كئيبة متشابهة، لا يستطيع حتى تبديد الظلمة بشمعة طالما نور غائبة حتى لا يفطن أحد إلى تغيير في الشقة، وهنا يرسم محفوظ شخصية سعيد مهران، حينما يطل على "القرافة" ويتأمل الموتى في قبورهم وسكونهم ويتأمل قوة الحياة التي تدفع الأحبة لمواصلة يوم جديد بعد أن غيبوا قطعًا من قلوبهم تحت الثرى، يتأمل ذكرياته، تلك الحادثات الصغار التي منها يتشكل سعيد مهران وبسبب من تآلفها كان هو ذلك الإنسان التعس، ويعول سعيد كثيرًا على دفاع البسطاء عنه، فقد قرأوا عن الخيانة التي طعنته وانبرى كثيرًا منهم يتخذ جانبه، ويصف محفوظ كم أن هذا أنعشه، وكم أن الجرائد أو واحدة بالأخص وهي التي يملكها صديقه القديم رؤوف ظلمته واندفعت تصفه بكل ألفاظ الوحوش في حين ما كان إلا ضحية لظروف عديدة، يحاول سعيد قتل رؤوف لكن رصاصه من جديد يخطئ ويقتل بوابًا بريئًا سيء الحظ، هكذا تغيب نور ذات ليلة ولما ييقن أنها لن تعود إليه يسلم نفسه للشرطة.

لما قرأت عن اللص الحقيقي محمود أمين، وجدت آراء عدة تتحدث عن سعادته وقتها بدفاع الناس عنه وكيف أنه عد نفسه بطلًا مظلومًا وضحية أوقع بها بسبب مِن شر مَن حولها، وفهمت لماذا اختار محفوظ أن يقولب شخصية بطله هكذا، وهذا أكثر ما نفرني من الرواية، لا أحد يعلم لماذا يخطئ البشر، لكن حينما يفعلوا ينفتح دونهم طريقين، إما الإنابة وإما التردي، وحينا يؤلف الخطأ لا يرى الإنسان نفسه بذات العين التي تراه بها النفس البريئة، وما أخاله إلا عالمًا بذنب ما اقترفت يداه لكن طريق العودة مقفل ولا يملك إلا خيار المواصلة، بماذا أحس يا ترى والشرطة تقلب كل حجر بحثًا عنه، في حين تنكر هو ونجح في الإفلات لعدة مرات، ونفذ مخطط انتقامه وقتل من أراد قتلهم، واستطاع الفرار مرة ومرتين وأكثر، وحينما عثروا عليه كان ذلك في غياهب مغارة وحتى هنا لم يستسلم وقتل برصاصه عددًا منهم قبل أن يجهزوا عليه، حينها لم أتمالك نفسي من ملاحظة البيْن الشاسع بين هذا الكائن من لحم ودم وبين شخص سعيد مهران، لقد كانت محاولة بناء ذكريات منه وطفولة وحب جذلٍ أول كل هؤلاء مخلوطة مع طفولة محفوظ نفسه، أو بمشاهداته الكثيرة في الحارة المصرية القديمة، وما كانت نور إلا لإضفاء نكهة الحب اللاذع والسحر المحرم في الرواية وما كان رؤوف إلا لأن البلدان لطالما حوَتْ مئات من رؤوف، لكنهم كلهم أبعد ما يكونوا عن محمود الحقيقي، قد لا يكون أحس بسعادة لدفاع أحد عنه، قد لا يكون أحس بالذنب يأكله وإلا ما استطاع رصاصه أن يحصد مزيدًا من الأنفس البريئة، لا أدري لكن انتابني إحساس عميق بأن سعيد مهران ما هو إلا شخصية روائية قامت بسبب من مئات المقالات والآراء والانتقادات التي كتبت في محمود في حين ما كان محمود إلا إنسانًا ، لكن إنسانيته شاهت فيما يتردى .

الفيلم الذي كان من بعد الرواية أنتج عام 1962، وسعيد كان شكري سرحان، في حين أدت شادية دورًا ساحرًا وهي تمثل هيام نور به، ويعج الفيلم بالموسيقى التصويرية وتتداخل فيه المشاهد المَزيدة عن الرواية، وهو ما حملني على التفكير في المعالجات التي تتم على النصوص، مذ كانت فكرة وليدة أو قصة جرت على أرض هذا الواقع وحتى ترى النور كلمات فصورًا حية، وكيف تنسلخ الشخصيات عن حقيقتها شيئًا فشيئًا، والحادثان تزيد أو تنقص قليلًا، وكل يد تعالجها وتحقنها بما عاينتْ وخبرتْ هي من رؤى وذكريات وتجارب وحذاقة، ودائمًا دائمًا ما تكون القصة الأولى، البذرة التي كانت، الحقيقة الواقعة أعجب وأجمل وأصدق من أي تزييف أُلحق بها،أو وزِيد عليها.


عدد القراء: 744

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-