في حب سيدة الغموض أجاثا كريستيالباب: مقالات الكتاب
رقية نبيل عبيد الرياض |
حاذر من الشوارب السوداء الطويلة، حاذر من العينين الخضراوين اللتين تلمعان كقطة ضارية، حاذر من الخلايا الرمادية التي تعمل بأقصى كفاءة داخل الرأس البيضاوي الأصلع، حاذر من المحقق العظيم ذائع الصيت هريكيول بوارو!
حينما وُلد لأول مرة لم يكن ذلك على يد رجل ماكر عظيم الأهمية جاب أقاصي البلاد وعرف خفاياها وتفاصيلها المهمة الغامضة، لا، لقد كانت اليدان اللتان كتبتا هذا الاسم للمرة الأولى هي يدا أنثى رقيقة ناعمة ورأسها يدور من أثر نوبة البرد الأخيرة التي كانت تعاني منها، ووسط أكوام المناديل والورق المبعثرة فوق سريرها أخذت تتأمل الاسم المطبوع والكلمات التي ولدت لتوها، الحبر الطازج الذي يسيل مشكلًا واحدة من أعظم الشخصيات الروائية في عصرها وكل الأزمنة التي ستأتي لاحقة تترا، لكن الشابة أجاثا كريستي لم تكن تعرف هذا بعد، لقد كانت تزجي وقتها بما يسليها فحسب.
هناك عوامل عدة ساهمت في تكوين هذا اللفيف الذكي الذي يوجد في رواياتها، وهي أنها عملت على تطبيب جنود الحرب العالمية الأولى واطلعت على أنواع كثيرة من السموم التي تقتل أو تسقط ضحاياها مرضى خلال عملها كمساعدة صيدلية في مستشفى كلية جامعة لندن خلال الحرب العالمية الثانية، ثم إنها قابلت مئات الوجوه وراقبت ما تفعله الظروف في أحدهم وكيف يتصرف البشر تحت خط النار والدخان والرصاص الذي لا يرحم، أجاثا مرضت بعدئذ وأرادت والدتها ما يسليها عن إعيائها فاقترحت عليها أن تكتب قصة، فردت عليها الشابة بعينين بريئين متسعتين وصوت مندهش " لكني لا أعرف كيف يا أماه"! هكذا قالت كاتبة الروايات البوليسية التي أدرجتها موسوعة غينيس كالروائية الأفضل مبيعًا على الإطلاق حيث باعت رواياتها حينها نحو ملياري نسخة!
ما يميز روايات أجاثا كريستي ليس العقدة الملتفة أو اللغز شديد الذكاء أو القاتل الذي تضعه أمامك في آخر الحكاية من حيث لا تتوقع، ليس هؤلاء فقط على الأقل، بل إن هنالك عنصر إضافي أكسب كلماتها حيوية وسحرًا غمرت قلوب عشاقها وهي الرومانسية والدرامية بين شخصياتها وتنوع الشخصيات أولًا وكثرتها وغموضها، وتعدد الأحداث التي تقع لكل واحد منهم فرادى، ثم كيف تربطها ببراعة في النهاية ويتضح مدى علاقتها بالقضية الرئيسية محور الرواية.
حين قرأت أول رواية لها كنت في الحادية عشر من عمري ولم يكن بين شخصيات الرواية هركيول بوارو! لقد كانت عن طبيب يسعى طوال الرواية للإيقاع بالمرأة التي كانت سبب موت محبوبته ليقتلها وينتقم لمأساته، ويشرح الطبيب المحاضر لطلبته تفاصيل خطته كأحداث خيالية مرّ بها شخص مختلق! لكن تلامذته كان لهم رأي آخر ولم يروا ذكاء في هذا الشخص بل فقط وصفوه بالمختل! رأي طلابه لم يؤثر في الطبيب ومضى قدمًا في خطته وحينما حاصر المرأة الشريرة كما أراد وأنبأها بموتها المحقق الذي على وشك أن يقع لها، لم ير منها الندم والدموع والإحساس بالذنب كما توقع بل لقد توعدت واعترفت في وقاحة وفرت منه وصرخت لكنه تمكن منها آخرًا وألقى بجسدها من علّ ليتحطم رأسها على صخرة وينتهي من تنفيذ الخطة، يضع الطبيب الجثة في العربة ويقود وهو يتذكر فجأة أن خطته تنتهي هنا ولا مكان للتخلص من الجثة، وبينما هو في طريق ليلي مقفر يفاجئه نداء استغاثة ،لقد كانت طفلة تحتضر من جراء حادث ما، ليظهر الإنسان في الطبيب مجددًا وينسى كل شيء عن ورطته ويهرع لتقديم المساعدة، وفي غمرة انهماكه بتضميد الدماء يطلب من الوالد بجواره أن يذهب ليحضر عدة الطبيب من حقيبة عربته وفقط بعد أن ذهب الرجل بمدة تذكر الطبيب مرتاعًا المرأة الميتة في صندوق عربته! حينما عاد الرجل كان صامتًا ولم يتكلم حتى انتهى الطبيب من علاج ابنته ثم سأله بهدوء أوليس الرجل الذي يقتل حياة وينقذ أخرى في ذات اليوم بشخص مختل؟! ويغادر الطبيب وسؤالاً طلابه والرجل يترددان في ذهنه ليلقي بنفسه في النهاية من فوق سور تل شاهق الإرتفاع!
"الانتقام الرهيب"، لازلت أذكر تفاصيلها كأني قرأتها بالأمس! وعرفت فيما بعد أنها نسخة مختصرة ولم أعثر قط على الرواية الأصلية لها حتى الآن برغم قراءتي لكل الروايات الأصلية من النسخ المختصرة التي اعتدت قراءتها في مراهقتي، إن هريكيول بوارو شخصية شديدة الإمتاع وفكاهته وروحه المرحة المتنمرة الماكرة ودهائه الشديد وطيبة قلبه وولعه بالأكل وبالشوارب والنظام وغروره أو كما تسميه كريستي "محاولاته الفاشلة كي يبدو متواضعًا "، كل هذا رائع جدًا لكن الأروع هي القصة التي تنظمها أجاثا في كل رواية لها، ليس شرطًا قط لنجاح كتبها أن يكون بوارو ضمنها، يكفي أن تكون هي حاضرة، بكل سحر حكاياتها وولعها بسبر أغوار النفس البشرية وما يعتمل فيها من حب وحقد وندم وتعجب وشيطنة وخبث ومكر وطيبة وسذاجة.
أجاثا كريستي نفسها تعد لغزًا شيقًا، ففي عام 1962 اختفت ولم يرها أحد أو يعرف عنها شيئًا، واشترك الشعب البريطاني كافة في البحث عنها وتابع الكل أخبارها حتى ظهرت في أحد الفنادق بعد مرور عشرة أيام، وقيل أنها فقدت ذاكرة ما حدث خلال هذه الأيام العشر! في حين نفى البعض هذا وقالوا أنها اختفت كرد فعل لصدمة عاطفية بعد انفصالها عن زوجها ارتشي كريستي، أو لفقدان والدتها، كما أنها دأبت على كتابة روايات رومانسية تحت اسم مستعار لسنوات خلت.
إن الحديث عن أجمل وأمتع روايات أجاثا لا ينتهي قط، وأكتفي بذكر بعضًا من أشهر رواياتها مثل رواية "ثم لم يبق أحد" والتي صنفت كأفضل رواية عند جمهور كريستي وتحكي عن ثلاثة عشر شخصًا يتم دعوتهم من قبل مجهول لقضاء عطلة في جزيرة معزولة وبعد وصولهم تنقطع بهم السبل عن العالم الخارجي، ونكتشف أن في ماضي كل منهم ذنبًا أودى بحياة إنسان، ثم تتم تصفيتهم واحدًا تلو الآخر كعقاب لهم على خطاياهم!، ثيمة الرعب الشهيرة والتي صنعت منها عشرات أفلام الرعب حاليًا وأعدّ أجاثا أول من أتى بها ،حولت الرواية لمسلسل قصير استطاع محاكاة أجواء الرعب والخيال المختزنة في الصفحات بشكل رائع، هناك كذلك "البيت المشوه أو البيت المائل" والذي لن يمكنك قط تخمين القاتل فيه، و"ليل لا ينتهي" حكاية الغجر والخيانة، "جريمة في ملعب الغولف" والتي أحبها كثيرًا لأنها حيث يلتقي هيستنغز رفيق بوارو بزوجته سندريلا، "في النهاية يأتي الموت" مصر الفرعونية القديمة، وبشكل عام فقد كانت أجاثا مولعة ببلاد الشرق القصي مثل مصر والعراق وفلسطين وكتبت العديد من رواياتها هناك وهي برفقة زوجها عالم الآثار، وبالطبع "مَن الذي قتل السيد روجر أكرويد" والتي صنفت كأفضل رواية جريمة ولغز على الإطلاق.
تقريبًا معظم أعمال أجاثا كريستي حولت لمسلسلات تلفازية أو أفلام سينمائية وهناك أكثر من ثلاثين فيلمًا طويلًا مبني أو مقتبس عن رواياتها، ومؤخرًا صدر فيلم عن روايتها الأشهر جريمة قتل في قطار الشرق السريع، وتعد إحدى أكثر إبداعاتها ابتكارًا ودهاءً حيث يضطر بوارو في إحدى الشتاءات المثلجة لركوب القطار المغادر من اسطنبول إلى لندن إثر برقية عاجلة أجبرته على تحويل مسار رحلته، فيوفر له صديقه صاحب شركة القطارات مقصورة مشتركة ويركب بوارو ليلاحظ في دهشة مدى تنوع الجنسيات للركاب برغم كون السفر عبر القطار شبه منعدم في هذه الفترة من العام، وتقع جريمة قتل السيد راتشيت الذي كان قد سبق وطلب معونة بوارو لحمايته ضد من افترض أنهم أشخاص مجهولون يريدون قتله، لكن بوارو رفض لسبب غريب جدًا حيث قال له "أنا لا يعجبني وجهك يا سيد راتشيت"، وتمضي أحداث القصة ليكتشف بوارو تخبطًا واضحًا بين أقوال الركاب ومحاولات تكاد تكون متعمدة لرمي أقاويل هنا وهناك من أجل تضليل بحثه عن الحقيقة، لكنه لم يستطع برهنة ذلك لأن أقوال بقية الشهود كانت دائمًا تؤيدها، وحينما تكتشف إحدى السيدات أن بوارو قد ركب هذا القطار خاصة بمحض الصدفة يسمعها بوارو تقول في استسلام ووهن "فهمت، إنه القدر"!
وهكذا يعرف بوارو بالمأساة المخيفة التي تسبب بها القتيل في الماضي حيث اختطف طفلة من أهلها وطلب فدية دُفعت له قبل أن يفرّ تاركًا جثة الطفلة البريئة خلفه، ما فعله كان سببًا في تدمير أكثر من حياة، وفي النهاية يصل بوارو لحل لغزه، نعم، كل من القطار مشترك في قتل الضحية! كلهم كان واحدًا من الذين تحطموا إثر فعلة راتشيت، وكلهم اجتمعوا ليقتلوه على متن هذا القطار وأثناء هذه الرحلة، غير أنه ما كان من المفترض أن يكون هناك بوارو! لقد جاء بمحض الصدفة وكأنه مقدر له أن يكتشف جريمتهم المشتركة، لكنه يقرر أن يحكي للبوليس قصة أخرى مختلقة عن الطريقة التي مات بها السيد راتشيت، سامحًا بإرادته أن ينجوا هؤلاء لأنه هو نفسه أقر بأن ما في ماضي الرجل من جرائم كفيل بأن يستحق هذه الميتة.
هناك دائمًا عدالة خاصة من وجهة نظر أجاثا، وكثيرًا ما كانت نهاية قاتليها الانتحار، حيث كان الموت نهاية أفضل من السجن والفضيحة بالنسبة لها، الفيلم الذي صدر عام 2017 شارك فيه نخبة من نجوم هوليوود، وكان لهركيول بوارو مظهر جديد في شخص الممثل "كينيث براناه" فقد كان لأول مرة طويلًا وأشبه بإنسان عادي باستثناء الشاربين بالطبع، في حين أن بوارو أجاثا دائمًا قصير دون بدانة، بيضاوي الرأس أصلعه، ذو عينين خضراوين لامعتين، لكن بالمجمل الفيلم جسد القطارات القديمة الفاخرة واسطنبول الماضي بامتياز وتمكن الممثل العالمي "جوني ديب" من تجسيد كل الشر الكامن في السيد راتشيت!
كانت "الستارة" هي الفصل الأخير من حياة المحقق البلجيكي ذو الخلايا الرمادية البديعة هركيول بوارو، حيث اختارت أجاثا أن ينهي حياته عجوزًا مقعدًا برفقة صديقه القديم هيستنغز وقد وجد أخيرًا المجرم الذي يرتكب الجريمة الكاملة، الشيء الذي كان موقنًا باستحالة وجوده، لكنه فعل في آخر عمره، حيث كان المجرم يختار شخص ويهيئ له كل الأسباب التي تدعوه لقتل آخر، سواء كانت حقيقة أم كذب، ثم يراقبه يضغط الزناد بيده وهو بعيد آمن، في محاكاة لوساوس الشيطان، ويقرر بوارو أن يقتله ويغلب عليه حبه للنظام فيجعل الطلقة في منتصف الجبهة تمامًا عالمًا أنه بهذا يترك علامة دامغة تدل عليه، بعد موته، يعثر هيستنغز على رسالته التي يشرح فيها كل شيء، كيف قَتل، وكيف أَذنب، وكيف قرر أن تظل علبة الدواء بعيدة عنه حين تأتيه نوبة القلب القادمة ليرحل في هدوء.
أجاثا العجوز كتبت "الستارة" وأودعتها أحد أدراجها وطلبت نشرها بعد موتها هي شخصيًا، كأنها لم تشأ أن يرحل بطلها عنا قبلها أو أن تكون شاهدة على رحيله، لكن ناشرها العجوز توسل لتسمح له بأن يرى خاتمة أعمالها قبل أن يموت فوافقت على نشرها أثناء حياتها.
بعد رحيلها فتش الجميع أدراجها بحثًا عن كنوز أخرى مختبئة، أوراق ثمينة، مشاريع ربما غير مكتملة، وبالفعل عُثر على الكثير! أكثرهم أهمية وشهرة روايتها "الجريمة النائمة" التي تعد أحد أجمل ما كتبت أجاثا، إن الأمر يبدو وكأن كل ما تخطه كان يتحول إلى ذهب، ذهب من ورق لكنه يظلّ ذهبًا، وأود شكر دار نشر أجيال، التي بقيت نسختها المترجمة عن روايات أجاثا كريستي هي الأجمل بما لا يُقاس، في اعتناء ساحر بكل التفاصيل وبأغلفتها التي رافقت عشاق أجاثا في طفولتهم وغالبًا ما كنت تمثل بيتًا ريفيًا إنجليزيًا عذبًا تحيط به حديقة خضراء.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- نظرة في كلاسيكيات ديزني
- قراءة في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- ستيفين كينج و«المِيل الأخضر»
- الحرافيش.. ملحمة حياة
- قراءة في مذكرات الأمومة «حليب أسود»
- الأخوات برونتي.. حكاية كفاح وحياة
- لماذا تولستوي عبقري؟! لماذا "الحـرب والـسلام" تحفة خالدة؟
- قراءة لرواية «القلعة» للكاتب الأسكتلندي أرتشيبالد كرونين
- ثرثرة حول أعمال العملاق الياباني هاروكي موراكامي
- في حب سيدة الغموض أجاثا كريستي
- إرنسـت هيمنغواي وحياة الشجاعة والتجارب والألم
- لحظة ولادة
- قراءة في رائعة تولستوي الشهيرة «آنا كارنينا»..
- حديثٌ عن ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ ..
- التطهير العرقي لفلسطين للبروفيسور إيلان بابيه
- نجيب محفوظ واللص والكلاب
اكتب تعليقك