لحظة ولادةالباب: مقالات الكتاب
رقية نبيل عبيد الرياض |
بعد عصر أحد الأيام، وبينما يتسلل ضوء الشمس على استحياءٍ من شقوق النافذة القذرة، ووسط صخب أشقائه السبع من خلفه، وأمه وهي تصيح في أصغرهم، وتُعمل يدها في عشر أعمالٍ على الأقل من مهام المنزل الخرب، جلس الرجل منكبًا على أوراقه الباهتة والملطخة في كل سطرٍ منها ببقع الحبر، وبكلماتٍ سوداء لا نهاية لها، محشودةٌ بخطٍ صغيرٍ مائلٍ وتملأ الهوامش حوافها، مستحضرًا ذكرياتً عديدة كثيرة لطفولته، عن كدحه في التنظيف والمسح والتوصيل، وألف عملٍ تافه، آخر لقاء أجرٍ زهيدٍ في آخر اليوم يعود به لأسرته سادًا جوعهم بالقلة القليلة التي انتفخت في جيبه، شاعرًا بأنه يراهم جميعًا، يرى صفوف الأطفال الذين اسودّت وجوههم بالفحم والأوساخ، يرى القِدر الكبير الذي يفوح برائحةٍ شنيعة لحساءٍ يبدو وكأنه حساء أحذية، مستحضرًا لندن بأكملها في ذهنه بضبابها بأغنيائها في قصورهم، وفقرائها في أزقتهم وحواريهم، مستحضرًا كل هذا خطّ الشاب البريطاني تشارلز ديكنز روايته التي ستصبح مادّة عشرات الأعمال التلفزيونية على مداد عقودٍ، وستدرج في مناهج جيلٍ سيأتي بعد ديكنز بمائة عام، وستبكي عليها أعين ولدت بعد عصورٍ من جلسته تلك.
عام 1837م. خرجت رواية أوليفر تويست إلى النور.
في غرفتها الصغيرة، وبرأسٍ لازالت آثار البرد تُعمل فيه سكاكينها، جلست الشابة الشجاعة الصغيرة التي شاركت في تطبيب جنود الحرب العالمية الأولى في سريرها، وحولها أوراق في كل مكان، كانت تحاول ترتيب أفكارها المنبعثة بلا هوادة من ذهنها، كدخان عادمٍ يستحيل إيقافه، أرادت أن تفهم تسلسل الأحداث، ونظرت بغموضٍ يشوبه الفضول؛ لذلك الاسم الذي ولد لتوه على الورق، أحبت صاحبها المخترع كثيرًا، وضحكت مرارًا وهي تحدد له أوصافه، قصير القامة قليلًا، ممتلئٌ قليلًا، رأسه بيضاوي.. أصلع؟ لا لا لا داعي، والشارب آه، أجل، الشارب طويلٌ جدًا ومبروم من الطرفين، وكثيفٌ جدًا أيضًا، تخيلت أصابعه الرقيقة البيضاء وهي تبرم الشارب مرةً بعد مرة، ومحققها البلجيكي غريب الأطوار يُعمل عقله؟ لا، تبدو كلمة العقل مبتذلة جدًا، خلايا العقل، نعم خلايا رمادية صغيرة ومثيرة جدًا، بدأت تكتب، لكنه ليس هو من سيحكي، بل صديقه العزيز أو من سيكون كذلك على أية حال، صديقٌ مخلص ويعتمد عليه على شيء من السذاجة كحال الأوفياء في جميع العصور، هستنغز هكذا سيكون اسمه، وببطءٍ وبأريحيةٍ تامة وُلد المحقق البليجيكي هركيول بوارو، فيما بعد ستلف الكاتبة المبتدئة الشابة أجاثا كريستي دور النشر لمدة ثلاث سنوات حتى تقبل إحداها أخيرًا نشر روايتها الأولى القضية الغامضة في سياتلز عام 1920، وهكذا وُلدت أجاثا كريستي، أعظم كاتبة روايات بوليسية في أوانها، وما بعد أوانها، وللأبد حسبما أظن.
بعدما أتمّ كتابة نصف القصة، قطب جبينه في غير ارتياحٍ، ونظر بعينٍ بعيدةٍ عن الرضا لبطله الذي وُلد لتوه، كان يعلم جيدًا أنه متأثرٌ بأستاذه، وقهقه ساخرًا تأثر؟ قد تكون كلمة رسمه حرفيًا هي الأدق، قدراته التي لطالما أذهلته على الملاحظة والاستنتاج، وقفته الصارمة، وعينه المتأملة، والطريقة التي يفك بها غموض الالتباس ويشرحها له بتأنٍ وهدوء، لكأنما يفك طلاسم مسألةٍ رياضيةٍ لطفلٍ في المدرسة، أحَب هذا، وأثار حنقه على حد سواء، ومن غير أن يقصد، كان قد أفرغ هذا كله على الورق، فكانت النتيجة هي أنه لم يستسغ بطله كثيرًا، وقدّر أنه سينهيه في مرحلةٍما، يتخلص منه بأي طريقةٍ، لكنه أحب صديق البطل دكتور واطسون كما أسماه، هو الآخر مأخوذ من رجلٍ يعرفه حق المعرفة، لكنه رجلٌ يحبه، وصديقٌ مخلص؛ لذا تبوأت هذه الشخصية المختلقة في قلبه مكانةً أكبر، ولأن في القصة حوارًا عن الخيط القرمزي للجرائم، والذي يتوجب على المحقق العظيم فك ملابسات خيوطه، عنون الرواية بدراسة باللون القرمزي، وفي فجرٍ طازجٍ جديد من عام 1886 انتهى السير آرثر كونان دويل من روايته التي سيخرج من رحمها المحقق العظيم شارلوك هولمز، بطلٌ سيقع في حبه آلاف القراء، وسيبكون صارخين حينما ينفذ آرثر وعده لنفسه ويقتله، لكن بعد إلحاحٍ وصراخٍ وهتافٍ فاجأه تمامًا، وبدا أنه يصدر عن أرجاء البلد كافة، قرر أن يحييه مجددًا بحيلةٍ بسيطة.
فيما بعد ستكون روايته إلهامًا للكثير؛ لينجبوا بدورهم أعمالًا عظيمة، ليس أولهم أجاثا، ولن يكون آخرهم غوشو أوياما مخترع المحقق كونان، وبالرغم من أنه ليس رواية، لكني لا أتردد قط في إدراجه من ضمن الأعمال الجميلة.
في ليلةٍ عاصفةٍ من شتاء عام 1986، مكث الكاتب المخضرم في قصره بولاية مين، كانت تجوب عقله المشغول على الدوام نتف ذكريات، أصداء من الماضي، راحت تلف الغرفة المظلمة الآن كأطياف أشباح، وبينما رجّ هزيم الرعد الصمت الكائن، ارتجف ستيفن قليلًا وهو يفكر، يا لها من أجواءٍ مرعبةٍ موحية،وابتسم في نشوةٍ، وللحظةٍ أطلّ وجهٌلطالما أرعبه صغيرًا بين وسائد الأرائك المخملية أمامه، حدق في الوجه مشدوهًا، لم يكن مسخًا بأي حالٍ من الأحوال، بل بالعكس، كان شيئًا من المفترض أنه خلق ليضحك الأطفال؛ ليبهج؛ ليمتع، لكن لسببٍما بدت التفاصيل في وجهه أكثر من مخيفة، معوجّة، وشائهة بطريقةٍ مرعبة، واقشعر جلد كينج، كان الوجه لمهرجٍ وجهه ملطخٌ بالأصباغ، وعلى شفتيه شدت ابتسامةٍ عريضةٍ غير آدمية، وفكر أنها تبدو كدماءٍ لا أحمر شفاه، وشيئًا فشيئًا تجسدت تفاصيل الوجه؛ لتبدو أكثر وضوحًا، العينان فضيتان لامعتان، الشعر يبرز كقرنين على جانبي الرأس، أزرق؟ لا برتقالي نعم، والحِلة فضفاضة مريعة تتوسطها كريات برتقالية منتفشة، المخلوق الذي لا يوجد أي مسوغٍ لشره، لا يقتل ليأكل، بل ليستمتع، نعم تلاحقت أنفاس ستيفين الآن، كان يفكر في الخوف غير المبرر، الخوف الذي لا يوجد منطقٌ وراءه، الخوف الطفولي الساذج، الخوف الذي لا يفهمه الكبار، بينما قادر على إشعال الشيب في رؤوس الصغار، الحادية عشر والثانية عشر، رباه.. كم كانت تلك أيامًا ممتعةً في طفولته، ونهض ببطءٍ محدقًا في ولاية مين التي يعشقها، والتي نشأ فيها من النافذة الطويلة، ووسط ستارة المطر جاءه الإلهام صاعقًا حتى أنه لهث، الشيء المخلوق بلا تسمية، المهرج المميت، الشر الخالص.
وهكذا ولدت رواية الشيء لكاتب الرعب الأعظم ستيفن كينج، إن الفيلم لا يشبه الرواية في شيء، الرواية التي تحتوي على كمٍ هائلٍمن الذكريات، وتفاصيل شوارع قرية ديري، والمشاعر المختلطة التي تعصف في صدور الأولاد السبعة الصغار.
في بقعةٍ مشمسةٍ جميلة جدًا من العالم، تحديدًا في جزيرة الأمير إداورد بكندا، وتحت ظلال شجرة صفصاف وارفة الفروع، في يومٍ ربيعي، وبينما تتهادى أصوات البحيرة الغافية بكسلٍ تحت نور الشمس إلى أذنيها، جلست لوسي على مقعدها الأبيض الهزاز أمام باب المنزل الريفي الضخم، أغمضت عينيها قليلًا، واستراح القلم بين أصابعها، كان من شأن أي عابرٍ أن يخالها نائمةً لولا تلك الابتسامة الصغيرة التي افتر عنها ثغرها، كانت تحلم، تحلم بطفلةٍ جميلة جدًا بشعرٍ أحمر ناري كطباعها، وتملك أعذب وأحلى لسانٍ في العالم، يستطيع الثرثرة لساعاتٍ دون ملل، وحديثه مسكر تمامًا كعناقيد العنب وقت قطافها، رفعت أصابعًا نحيلةً رشيقة، وبقلمٍ وهميٍ كتبت الاسم في الهواء آن شيرلي، وحرصت على مد الألف في آن؛ لتظهر النون مدغمة جميلة، ضحكت بصوتٍ عالٍ على هذه الفكرة، وبانثيالٍ خفيفٍكقطرات المطر، ولدت رواية آن في المرتفعات الخضراء في عام 1908، ولاحقًا ستقول عنها كاتبتها الجميلة لوسي مونتغمري"ظننت في البداية أن هذه الرواية ستعجب الفتيات المراهقات، ولكن المسنين وأبناء المدارس والمعاهد، والقادة الكبار في المناطق الأسترالية، والصبايا في الهند، والرهبان في الأديرة النائية، ورؤساء الوزراء في بريطانيا، والأشخاص ذوي الشعر الأحمر في مختلف أنحاء العالم، كاتبوني جميعهم، وحدثوني عن إعجابهم برواية آن وما تلاها من مجموعات".
تهادى القطار المتجه من مانشستر إلى لندن في مشيته، بدا للمرأة المثقلة بالهموم الجالسة فيه أنه لن يتحرك أبدًا، ثم انطلق يعدو، جلست تستمع لهدير مكائنه، وأفكارٌ عديدة وعوالم ساحرة، وخيالات بربرية، وأعداء مخيفون وأصدقاء مخلصون وقصصًا شتى تسبح في مخيلتها الواسعة، في البدء كانت النظارة، الجزء الأول والأهم الذي خلق من ملامح فتاها، نظارة دائرية عادية، لكنه طفل، هزت كتفها، وماذا في ذلك؟ كم من طفلٍ في العالم يعاني ضعف نظر؟ ثم سرحت تمامًا في أفكارها، حتى أن فمها ظل مفتوحًا لفترة، كانت ترى كيانات وقلاعًا ومخلوقات سحرية كاملة أمامها الآن، الصبي المعجزة، لا، الفتى الذي سينجو، ثم كان الشعر الأسود الثائر فوق رأسه، ثم الندبة، نعم الندبة التي سيخلفها العدو على رأسه، الأثر الذي سيظل يذكره دومًا بالميراث الثقيل الهائل الذي سيحمله،ولمعت في ذهنها على الفور صورة طليقها، كتمت ضحكتها، لقد بدا مثاليًا لدور اللورد الأسود الشرير، والذي يشبه... نعم أفعى، لطالما أثارت الأفاعي خوفها وقشعريرتها، ثم كما لو كانوا موجودين منذ الأبد، ولدت شخصياتها واحدة تلو الأخرى، فتشت في حقيبتها ملهوفةً، فكانت خيبة أملها كبرى حينما لم تجد قلم حبرٍ جافٍ معها، اعتدلت مجددًا ومكثت أربع ساعاتٍ تفكر، صار وجود الفتى فيها حقيقيًا، الفتى الذي لم يكن يعرف أنه ساحر، الفتى الذي سيلتقي بالعملاق القادم من أرضٍ قصيةٍ بعيدةٍ يعيش فيها السحرة بأمانٍ مختبئين عنَّا ويأخذه إليها، الفتى الذي سيهيم العالم أجمع بحكايته، وسيكون علامةً في أدب الفانتازيا، وسببًا لثراء مؤلفاته، وقصة جميلة تدفئ قلوب الملايين في شتى أنحاء الأرض الواسعة.
ولدت شخصية هاري بوتر في ذهن كاتبته جوان كاثلين رولنج بينما هي على متن قطارٍ كما أسلفنا، ولما لم تجد معها قلمًا، ظلت تفكر فيه حتى كان أول شيءٍ تفعله حينما عادت شقتها ليلًا هي الكتابة كالمحمومة عنه، وكعادة الأشياء العظيمة، مكثت جوان زمنًا طويلًا تبحث عن ناشرٍ، وحينما وافق أحدهم أخيرًا على مضض، اشترط عليها أن يكتب اسمها على غلاف الكتاب هكذا "ج. ك. رولنغ".
إن لحظة الولادة هي التي تهمّ أليس كذلك؟ حياة الإنسان حين بزوغها، القادم المنتظر، النقطة التي تلتقي فيها الفكرة بالواقع، المنطقة المشتركة بين اللا فعل والفعل، ولأنها اللحظة الأجمل، فمن الممتع تصور حدوثها، ولادة ملايين الأشياء الجميلة في العالم، ومن ضمنها بعض الروايات التي عشقتها وأثملتني تمامًا، لذا كان من دواعي بهجتي وحبوري الاستلقاء مفكرةً في مؤلفيها، بينما وهلة الإلهام الجليلة تنبثق في بحور مخيلاتهم، وبينما يجري القلم خاطًّا أولى حروف المعجزة التي ستولد بعد قليل.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- نظرة في كلاسيكيات ديزني
- قراءة في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- ستيفين كينج و«المِيل الأخضر»
- الحرافيش.. ملحمة حياة
- قراءة في مذكرات الأمومة «حليب أسود»
- الأخوات برونتي.. حكاية كفاح وحياة
- لماذا تولستوي عبقري؟! لماذا "الحـرب والـسلام" تحفة خالدة؟
- قراءة لرواية «القلعة» للكاتب الأسكتلندي أرتشيبالد كرونين
- ثرثرة حول أعمال العملاق الياباني هاروكي موراكامي
- في حب سيدة الغموض أجاثا كريستي
- إرنسـت هيمنغواي وحياة الشجاعة والتجارب والألم
- لحظة ولادة
- قراءة في رائعة تولستوي الشهيرة «آنا كارنينا»..
- حديثٌ عن ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ ..
- التطهير العرقي لفلسطين للبروفيسور إيلان بابيه
- نجيب محفوظ واللص والكلاب
اكتب تعليقك