الأخوات برونتي.. حكاية كفاح وحياةالباب: مقالات الكتاب
رقية نبيل عبيد الرياض |
في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، استقر القسيس الكاثوليكي المخلص "باتريك برونتي" راعيًا جديدًا لكنيسة قرية "هاورث"، قرية تقع في أحضان الريف البريطاني الساحر، وتحديدًا في مقاطعة "يوركشاير"، حينما يطالع امرؤ هذه الكلمات فأول ما يتبدى لذهنه هو المساحات الخضراء الشاسعة المشرقة على مدار العام وحقول البنفسج مترامية الأطراف والقرية المتوادّ أهلها، والكنيسة البيضاء المزين سياجها بالورود، صورة عن الريف القروي الذي لطالما أوقعتنا "أجاثا كريستي" في غرامه في رواياتها الخالدة، لكن تلك البقعة التي عاشت فيها بطلات حكايتنا كانت أبعد ما تكون عن الإشراق والدفء، حيث عشن تحت ظلال كنيسة عملاقة باردة، وفوق سفح لا تشرق الشمس في سمائه إلا قليلاً وسط بقعة صغيرة تحدها مقبرة الكنيسة من الأمام وسبخات المستنقعات من جهة أخرى، في جوٍّ ممطر ضبابيّ، هكذا عاشت الأخوات شارلوت وإميلي وآن برونتي، أو كما أطلق عليهن في عالم الأدب لاحقًا "الأخوات برونتي".
تزوج باتريك بوالدتهم ماريا حيث أنجبت له ستة من الأبناء، خمس بنات وأخ لهن، ماريا، إليزابيث، شارلوت، باتريك، إميلي ثم الصغرى آن، بعدها توفيت الأم في عمر مبكر لا يتعدى الثمان والثلاثين عامًا، تاركة أطفالها الستة من بعدها ليربيهم الأب وحده!
سافرت شقيقة الأم الخالة "إليزابيث برانويل" وحلت ضيفة دائمة في منزل الشقيقات وأخيهن حتى تساعد باتريك في رعايتهم، لكن النصيب الأكبر من التربية كان على عاتق الأب الذي أصر على تعليم بناته وابنه تعليميًا مسيحيًا خالصًا، وفرض عليهم التحرر من ماديات الحياة، فمنع دخول اللحم لبيتهم وأي متاع عدّه من زينة الحياة الدنيا! فكانت النتيجة مزيد من القسوة وشظف العيش يضاف إلى رصيد هؤلاء الأطفال، وأدخل ابنيته الكبراوتين ماريا وإليزابيث مدرسة داخلية خاصة بتعليم بنات رجال الدين، شديدة الفقر ورقة الحال بالطبع في كوان بريدج، تلك المدرسة الرهيبة التي وصفت شارلوت برونتي مدرسيها وجفائهم والفناء ووحشته وأطباق الطعام الهزيلة والفظاعة في التعامل مع المرض والقسوة في ترصد أي خطأ والعقوبات التي ينلنها التلميذات في روايتها الشهيرة "جين آير"، إن الآلاف أبكتهم هذه الفصول القليلة من روايتها، وأدماهم موت "هيلين بيرنز" الشخصية المختلقة على يد شارلوت، والتي كانت طفلة غاية في الرقة والرزانة والتعقل، الطفلة التي احتوت جين الغريبة وتحدثت إليها بلغة ما سمعتها يومًا على لسان الكبار، لغة مليئة بالرقة والعطف والحنوّ، هيلين التي كانت تسعل مرارًا، والتي ازداد مرضها ذات ليلة ومنع الجميع من رؤيتها، لكن الصغيرة جين تتسلل بشجاعة لتمسك بالكف الصغيرة الباردة المرتجفة وترافقها للمرة الأخيرة قبل أن تلفظ هيلين روحها عند بزوغ الصباح.
والأمر الذي يهيج المشاعر حقًا هو أن تلك قصة شقيقة شارلوت الكبرى في الحقيقة وليست ماريا فقط بل إليزابيث أيضًا حيث توفيتا كلتاهما بسبب نظام المدرسة القاسي المجحف وسط البرد والجوع والحرمان الشديد الذي عانتا منه كلتاهما هناك!
وبعد وفاة الشقيقتين الكبرواتين أصبحت تشارلوت فجأة هي والدة الأطفال الثلاث المتبقيين، ولم تدخر جهدًا في رعياتهم ومحاولة حمايتهم من المشهد القاسي داخل الدار والموحش خارجها.
وفي عتم تلك الوحشة نهضت مخيلات الشقيقات الثلاث لترحل بهن إلى عوالم خرافية تثلج صدورهن، بشخصيات وهمية، وقلوب مشبوبة بالعاطفة وقصص حب لم يجرؤن على التصريح بها على الورق في حينها لكنها كانت كافية لتنتشلهن من غمر اليأس والقسوة التي عشن فيها.
في رواية صاحب الظل الطويل التي كتبتها جين ويبستر في العام 1912، كانت بطلة الرواية جودي الرقيقة الحالمة والتي شغفت بالروايات والكتابة، تتساءل بدهشة عن شخصية إيميلي برونتي، قالت "إن إميلي فتاة رقيقة وخجول عاشت في عزلة ومنأى ولم تر من البشر إلا قليلاً، فأنى لها أن تخترع تلك الشخصية الغامضة الغضوب لبطل روايتها مرتفعات ويذرينغ هيثكليف؟!! " .
كانت رواية مرتفعات ويذرينغ هي أول رواية تُكتب وتُنشر للأخوات الثلاث، كتبتها "إيميلي برونتي" وتحكي الرواية عن الحب العميق المتملك الذي ينجو برغم الزمن وشدة الاختلاف بين كاثرين سليلة الأسرة الغنية، وهيثكليف الشريد الذي آواه السيد الثري إيرنشاو والد كاثرين.
حب كاثرين وهيثكليف كان في غير محله، لكنه لم يأبه للمنطق وانتهى بأن دمر العاشقين وكل ما حولهما، هذه رواية عن الحب، والذي ما جرؤت سيدات هذه العصر في حينها التحدث عنه قط، وهي رواية عن الانتقام والغضب والحقد الدفين الذي لطالما أضمره هيثكليف في قلبه على من سلبه معشوقته، رواية بكل المقاييس شاذة عن عصرها وغريبة في وسطها، وحينما نشرتها إيميلي بالطبع كان ذلك تحت اسم مستعار لرجل، لأنه مامن أحد سوف يقبل نشر رواية كتبتها امرأة، فكان الاسم المسجل على غلاف الرواية هو إيليس بيل.
حينما أبصرت الرواية النور، توقع معاصروها أن الكاتب من ورائها هو في حقيقة الأمر امرأة، لكنهم توقعوها امرأة عصرية عركت الحياة وخبرتها وسافرت حتى أقاصي البلدان وبحارها، ولم يدر بخلد أحدهم أنها في الحقيقة فتاة خجول قروية بسيطة لم تغادر جدران منزلها إلا إلى المدرس الداخلية الفقيرة، لذا لا أجد تعبيرًا يصف دهشتي أبلغ من تساؤل جودي " كيف لإميلي أن يتفتق عن ذهنها الشخصية العميقة الغامضة المعقدة هيثكليف"؟!
إن شهرة الأخوات برونتي تأتي من أن لكل واحدة منهن بصمة مميزة في عالم الأدب، أبرزهن وأكثرهن شهرة على الإطلاق هي شارلوت برونتي كبراهن، صاحبة الرواية الرائعة "جين آير" إحدى الروايات التي تركت أثرًا عميقًا في جدار طفولتي أنا وشقيقاتي، هذا الأثر الذي عظم حينما قرأت عن حكاية الأخوات برونتي فيما بعد، وبرغم حجم الخيال والتعقيد وقصص الحب المتشابكة والشخصيات العديدة في رواياتهن، إلا أنني أرى أن القصة الحقيقية لحياتهن أكثر درامية وحزنًا مما تفتق عنه خيالهن مجتمعًا!
الشقيقة الصغرى آن برونتي كان لها روايتان استقت كلاهما من واقع عاشته وخبرات مرت بها، فكانت روايتها الأولى "أغنيس غراي " عن حياة المربيات في ذلك العصر، تلك المهنة التي اجبرن على امتهانها وكرهنها كلهن، بينما كانت روايتها الثانية "نزيل قاعة ويلدفن" هي ما أكسبتها مكانة أدبية، حيث اشتهرت الرواية وحققت نجاحًا ساحقًا وأصداء واسعة لصاحبتها.
وكما تشابهت مصائر شقيقتيهما الكبراوتين ومات كلاهما بمرض السل، فكذلك قضت إيميلي وآن نحبهما بسببه، فماتتا تباعًا وبعد وقت وجيز من نشر رواياتهما، ودون أن يؤثر ذلك بشيء ملموس في واقعهم أو ينقلهما لحياة أفضل من تلك التي عانتا فيها، توفيتا وتوفي قبلهما شقيقهما باتريك، تاركين الوحشة والوحدة والكآبة تغمر شارلوت، بلا مؤنس أو حياة ترضاها لنفسها.
ومن رحم هذي الظلمات ولدت روايتها "جين آير" التي ستخلد اسمها ومأساتها وشقيقاتها عبر العصور، وقد اختارت تشارلوت لبطلة قصتها ألا تكون جميلة الجميلات، أو الثرية الهانئة، أو المرأة الحذقة الماهرة ،بل اختارتها أقرب لها، قلبًا وقالبًا، امرأة عادية على قدر بسيط من الجمال، تحمل شغفًا وفضولًا للحياة في عينيها الزرقاوتين، وتملك عنادًا وإصرارًا عظيمين في قلبها، وفي فصولها عاشت بنا شارلوت أجواء المدرسة الرهيبة التي احتملتها وهي بعد طفلة، وأبكتنا على شقيقتيها في شخص هيلين بيرنز، وتسافر جين آير، وتعمل مربية لطفلةِ ثريٍّ غامض، لتقع في غرامه بعفوية وصدق ونقاء لا مثيل لهم، "هل ترين، هناك شخص جاب هذا العالم وجرب كل الخطايا والآثام، وصادق كل صنوف البشر، وفعل كل ما يمكن للخيال أن يتصوره يُفعل في هذه الحياة ، ثم عاد يومًا لموطنه، وإذا به أمام النقاء مجسدًا، شخص لم يلوثه العالم بعد ، فيه من الصفاء والمحبة ما لم يلقه في أرجاء هذا العالم الواسع الذي طافه، فكيف يكون شعوره برأيك يا جين؟"
هكذا صرح سيد القصر الثري "إدوارد روشيستر " لجين آير بحبه لها، وفي يوم الزفاف، وحينما ظنت جين أنها على قمة العالم، سأل القس العبارة المعهودة "إن كان هناك أحد ما يعرف سببًا لكيلا يتم هذا الزواج فلينطق به "وهنا تقدم سيدان بأوراقهما ليثبتا أن السيد الثري الذي هو على وشك الزواج بجين إنما هو متزوج بالفعل!
ويأخذ إداوارد بيد جين ليريها زوجته وسبب إخفاؤها عنها، إنها امرأة مجنونة غريبة الأطوار تمت زيجته بها وهو بعد شاب صغير لأسباب تتعلق بالثراء والمصالح، وهي سبب نقمته على العالم وبغضه لكل ما فيه، وهذا الحزن الدفين والسخرية اللاذعة التي لطالما لمستهما فيه، وهو ما يفسر أيضًا كل الأصوات الغامضة التي كانت تسمعها جين في ليل القصر، أصوات صراخ وضحك هستيري مخيف، ولما انكشف السر تهرب جين، وتبدأ حياتها في بقعة بعيدة، وتلتقي بأناس خيرين، وقس هو صورة طبق الأصل عن والد شارلوت، نواياه خيرة ومقاصده طيبة، لكنه جامد المشاعر، قاس، لا يعرف عاطفة أو حب، ويدعو جين للزواج منه "وخدمة الرب" بحسب تعبيره، وترفض جين بابتسامة هادئة، فهي تعرف نوعه، وهي تفضل رجل يحس ويشعر ويبكي عندما يتألم، لا رخام أصم تتزوج به.
وأخيرًا تسمع عن حريق كبير اندلع في القصر وعن محاولات السيد الثري إدوارد لإنقاذ زوجه التي تذهب هباء، وينهار القصر فوقه لتموت زوجته ويفقد هو بصره، فتترك كل شيء راءها وتهرع للقائه وتمسك بيده دون أن يراها فيعرفها وتنهمر دموعه، في نهاية الرواية تتزوج جين بإدوارد دون أن يكون له ثروة عظيمة أو أناس كثر يحيطون به من كل جانب، بل فقط بيت صغير مشرق وزوجة تحبه وطفل صغير يتعلق بذراعه.
إن النهاية السعيدة لجين آير لم تتكرر لشارلوت حيث رُفض حبها مرارًا، وفشلت مدرسة حاولت تأسيسها، وأخيرًا بعد زواجها وقبل أن تكتمل سعادتها توفيت وهي حبلى بجنين في أحشائها عام 1855، لتكون آخر من يرحل من بين أشقائها ولتختم برحيلها مسيرة الأخوات برونتي.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- نظرة في كلاسيكيات ديزني
- قراءة في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- ستيفين كينج و«المِيل الأخضر»
- الحرافيش.. ملحمة حياة
- قراءة في مذكرات الأمومة «حليب أسود»
- الأخوات برونتي.. حكاية كفاح وحياة
- لماذا تولستوي عبقري؟! لماذا "الحـرب والـسلام" تحفة خالدة؟
- قراءة لرواية «القلعة» للكاتب الأسكتلندي أرتشيبالد كرونين
- ثرثرة حول أعمال العملاق الياباني هاروكي موراكامي
- في حب سيدة الغموض أجاثا كريستي
- إرنسـت هيمنغواي وحياة الشجاعة والتجارب والألم
- لحظة ولادة
- قراءة في رائعة تولستوي الشهيرة «آنا كارنينا»..
- حديثٌ عن ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ ..
- التطهير العرقي لفلسطين للبروفيسور إيلان بابيه
- نجيب محفوظ واللص والكلاب
اكتب تعليقك