لماذا تولستوي عبقري؟! لماذا "الحـرب والـسلام" تحفة خالدة؟ الباب: مقالات الكتاب
رقية نبيل عبيد الرياض |
تطلب الأمر مني مرور عدة أسابيع قبل أن أنتهي من الملحمة التاريخية المذهلة التي تقع في أكثر من ألفي صفحة "الحرب والسلام"، وهي المرة الأولى أيضًا التي أقرأ فيها كتاب فقط لأني ذهلت من حياة صاحبه، إن تولستوي الذي يطالعنا في الصور عجوزًا متجهمًا ذو لحية بيضاء طويلة، في هيئة تكاد تحاكي الحكماء كما تخيلناهم منذ طفولتنا، هذا المؤلف قد عاش حياة عادية، فهو من أسرة ثرية وطبقة مخملية وتزوج بالسيدة التي أحب ومضت سنون عمره معها في وئام، لكن فكره هو الذي لطالما أوقعه في المتاعب، سبب تعجبي من حياته هو أنني علمتُ أنه قد أفرد كتابًا للدفاع عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الكنيسة توقع فيه النقائص وغضب تولستوي من اتهام رجل صالح بكل هذه المثالب، لقد عاش تولستوي دومًا في خلاف مع الكنيسة، وبغض للطبقات الراقية وفي نقمة على رخاء العيش الذي خصته به الحياة.
رواية الحرب والسلام هي ملحمة تاريخية من تأليف الأديب الروسي العملاق ليو تولستوي، يقص فيها بمنتهى الهدوء والإطالة الحروب التي خاضتها روسيا ضد نابليون فرنسا عام 1805 والمعارك التي تتالت تترا إثر ذلك، وكيف هُجرت موسكو العظيمة وكيف أحرقها أهلها غيظًا حتى لا يتمتع بها المحتلون الفرنسيون، ووسط كل هذا تنمو براعم الحكاية وتزدهر الشخصيات التي ولدت في خضم هذي المعمعة، الأمير أندريه بولونسكي ووالده العجوز المثقف الذي يثمن العلم والعمل ويحرص أشد الحرص على تثقيف ابنته ماري كما ابنه بالضبط، لكنه مع ذلك قاس متحجر القلب لا يتورع عن صب جامّ غضبه على ابنته ويمعن في إهانتها تعجرفًا وخرفًا وبرغم هذا ترافقه ماري في كل وقت وتأبى الانفصال عنه قط وتذر الزواج وكل سعادة لأجله وحينما يصير الأمير العجوز في النزع الأخير يبتهل إليها لتصفح عنه "قال بين دموعه شكرًا صفحًا ، شكرًا صفحًا".
الأمير أندريه برغم عدم تحمله أباه فإنه يكاد يكون نسخة عنه، وتجده يمقت حفلات الارستقراطيين من أبناء بلده ويتزوج بإحداهن ثم يبغضها لا لذنب لها إلا لأنها إليهم تنتمي ومثلهم تفكر، ويتركها حبلى عند أبيه وأخته حتى حينما يعود لها أخيرًا بعد نجاته بأعجوبة من معركة مع جيوش الفرنسيين يجدها في مخاضها وتنظر له نظرة واحدة هيأ إليه أنها نظرة لوم وعتاب وما يكاد يخرج من عندها حتى يسمع بكاء المولود الجديد وتغادرها روحها.
إن تولستوي يضع دائمًا كل المعاناة في طريق أندريه، فهو دائمًا فريسة عذاب من نوع ما، حتى عندما يستفيق للعالم ويقع في عشق ناتاشا الشقية المرحة تتركه وهو خطيبها من أجل رجل آخر لم يردها قط، وتثوب ناتاشا لرشدها لكن الحبل بينهما ينقطع ويظل أندريه ضحية التفكير فيها حتى يقع مصابًا للمرة الثانية في معركة أخرى وحينما يبصر وسط آلامه الرجل الذي أراد الانتقام منه وقد بتروا له قدمه في الحرب تغادره فورًا رغبة الانتقام الوحشية التي تحرق صدره ويحن لمحبوبته ناتاشا ويجمع بينهما القدر وهو في الرمق الأخير وتظل ناتاشا بجواره تبكيه وترعاه وتسأله الصفح حتى تفارقه روحه.
البطل الثاني الرئيسي في الحكاية هو بيار، الرجل الضخم الطيب والذي تنازعه دومًا أفكاره عن العالم والله والدين والدنيا، والذي كان الصديق المقرب والمفضل لأندريه، يرث بيار ثروة والده الراحل الكونت شديد الثراء ولقبه لتبتدئ رحلة تملق كل السادة له، ولأنه ساذج وطيب يقع في زيجة أحالت حياته جحيمًا بهيلين الفاتنة الغانية والخائنة والتي كان العالم يتساقط تحت قدميها بينما لا يرى فيها بيار سوى الشر مجسدًا، وحينما يقع بيار أسيرًا ويذوق المعاناة الحقة ويقابل أطيافًا من الشعب لا علاقة لها بالثراء والمصالح يلقى أخيرًا تلك الراحة في الضمير والنفس التي لطالما أجهد في البحث عنها، يعود بيار بعدئذ للعالم وقد صار إنسانًا جديدًا يحسن التفكير والحكم على الأشخاص ولا يتلجلج في كلماته ولا ينخدع بالمظاهر، يعود ليجد هيلين قد ماتت وليفهم كيف أنه طوال عمره كان عاشقًا لناتاشا الصغيرة التي قد شبت وكبرت لتجمع القصة بينهما آخرًا، وناتاشا التي بدأت بها الحكاية طفلة في الثانية عشرة، صاخبة ومرحة وعذبة وتأسر قلب كل من يراها تصير في آخرها أمًا رؤوم تحب زوجها وتعشق أطفالها الأربعة وقد ذوت منها ناتاشا الصبية اليانعة.
نيكولا رستوف شقيق ناتاشا الأكبر هو أحد أبطال الحكاية الرئيسيين، يتقلب نيكولا بين أخطائه ومحاسنه ويقع في غرام ابنة عمه سونيا التي توفي والدها وآوتها أسرة روستوف إحسانًا وهي الزيجة التي رفضتها والدته الكونتيسة ورجت نيكولا لكي يجد زيجة ثرية تصلح من أوضاع العائلة المتردية الأمر الذي بغضه من كل قلبه، وتجمع الصدفة بينه وبين ماري بولونسكي الأميرة التي توفي والدها حديثًا والتي ظنت أن الحب والزواج من أبعد الأمور عنها هي الدميمة الراهبة لكنها تقع في غرام نيكولا إثر ما رأته منه من شهامة وتضحية وبالمثل يفاجأ نيكولا بنفسه مرتاحًا وسعيدًا كل السعادة وهو بجوارها، ويقطع عهده مع سونيا لتنتهي أحداث الحكاية باجتماعهما معًا، ويكتشف نيكولا كلٌّ يوم كنوزًا جديدة في زوجته، وينجح في سداد ديون عائلته دون أن يمس بثروتها ثم ينميها بفضل دهائه وعدله الذي نما وتضاعف مائة مرة تحت إشراف صلاح ماري وتقواها.
*وفيما يلي بعض العبقرية التي تجلت لي بين صفحات هذا الكتاب:
* إن تولستوي قد ولد بعد انتهاء كل هذه الحروب أي أنه يتحدث عن عصر قبيل هذا الذي ترعرع فيه فكيف تأتى له مناقشة كل هذه التفاصيل الحربية بكل براعة ودقة ونقل الآراء المتباينة والتطلعات والآمال والأحزاب التي تكونت ويتبع كل منها قائد روسي ما بعينه كيف نقلها بهذي الدقة؟ يعني لكأنه كان حاضرًا، واحدًا من الجند الذين خاضوا غمار الحرب وعبروا الغابات وسط لعلعة رصاصاتها، بل واشترك في الثرثرات والأحاديث الدائرة وسجلها حتى آخر حرف منها ثم نقلها إلينا بمنتهى الأمانة، إن تولستوي عبقري ولا شك! تخيل أن تصيغ من التاريخ حكاية شديدة الترتيب والدقة، أي صفاء ذهن تمتع به هذا الرجل حتى يوثق معارك بالعشرات وقعت كل أحداثها وانتهت قبل مولده وبهذا الاصطفاف المدهش؟! وتتداخل خيوط حكاية أبطاله بمنتهى البراعة ورحى المعارك الدائرة، إن الحكاية في الحرب والسلام خيال لكن الحرب حقيقة وقعت ورغم هذا فهي بعيدة كل البعد عن أن تبدو محشورة قسرًا في خيوط التاريخ المنسوجة داخل الرواية، حتى ليخيل للمرء أنها كذلك حقيقة وأن كل تلك الشخصيات قد عاشت وتنفست تحت أديم سماء روسيا في تلك الحقبة، وأنها قد عاصرت نيران الحروب التي وقعت آنذاك وشهدت نارها وأبصرت حرائق موسكو تندلع في شوارعها، مع لمسة رقيقة وتكاد تكون خفية من الدراما العذبة التي تضفي جوًا ساحرًا على الأحداث، يرافقها تمثيل حي وقوي للشخصيات حتى أنه يضطرب صدرك بالذي ترجف منه قلوبهم وتقع رغمًا عنك في عشقها وتخضلّ عينيك غير ذي مرة تأثرًا بكل ما يعترضها من مآسٍ وحادثات تعصف بهم.
* روستوف والتساؤلات التي دارت بخلده عن جدوى الحرب وعبثيتها وإلى أين آلت كل تضحيات رفاقه حينما تم التصالح بين الإمبراطورين العظيمين بونابارت وألكسندر إمبراطور روسيا وهو تساؤل قض مضاجع الملايين عبر الزمن إثر كل حرب فاشلة وهم الذي قد رأوا أغلى أناسيهم وأحباءهم قد راحوا فداء لها، ثم يصطلح القادة فجأة أو يعود كل شيء إلى سابق عهده القديم قبيل الحرب أو يعلن القادة ببرود خسارتهم في حرب ما دخلوها إلا انتصارًا لكبريائهم.
* وصف الحياة الدقيق لكل مجرياتها حتى لكأنك صرت على حين غرة في العام 1805 فصاعدًا، وهذه التفصيلات هي قلب الرواية وروحها، حتى إني لأجرؤ أنه لم يكن ليكون ثمة معنى أو حياة في تحفته الخالدة تلك لولا هذه التفصيلات، إنه يصف بدقة الحفلات واصطخاباتها وبسطها الحمراء واحتشاد الفضوليين خارج قصور الأغنياء المضاءة والمزدانة للترحيب بكبار زائريها، وحفيف الثياب الحريرية وتصفيفات الشعور وأسمائها والمجوهرات التي احتلت بها ثريات ذلك العصر وثياب الرجال العسكرية والمدنية ونوع الموسيقى والأغاني الرائجة وشكل الشتاء وشكل الصيف وتعاقب الفصول بوداعة وعفوية حتى لتخال الزمن نهرًا ينثال طبيعيًا بين صفحات الرواية، إن ما أكتبه هنا لا يفي معشار من جمال الحرب والسلام وبديع الحياة فيها، إنه حينما يتحدث عن الصيد فإنه يفرد له فصولًا طويلة ليصف كل أجوائه وخيوله ونوع الكلاب التي استخدمت وحركات الرجال والخدم ومدربي الكلاب ونوع الصيد وحتى ورق الغابة والتوت المتساقط من أشجارها تحت حوافر الخيول، إنك ترى كيف عاش هؤلاء القوم وكيف قضوا ليلاتهم وكيف فكر ذووهم وكيف اختاروا زيجاتهم وكيف كان متدينوهم وفاسقوهم، وتطالعك تباعًا عشرات الأسماء التي لا تلبث أن تسقط من ذاكرتك مرغمًا إما لصعوبتها الروسية أو لاختفاء أبطالها بالرغم من كونهم قد كانوا شديدي الحياة منذ بضع صفحات، وتبقى فقط شخوص الأبطال هي الماثلة في ذهنك، بيار والأمير أندريه وأخته ووالده العجوز العنيد، نيكولا والشقيقات روستوف وأولهن صغراهن وأبدعهن ناتاشا بتطلعها للحياة وإشراقتها والتماعة عينيها السوداوين وشغفها بالحب وصبابة قلبها بل وحتى صوتها المرهف العذب الذي لن تذكرها مرغمًا إلا في صحبة نغمه، لأنك في هذه الرواية أنت تشم وتتذوق وتسمع ويضطرب قلبك في صدرك خافقًا بالرغم منك !وهو حينما يتحدث عن الحروب فإنك ستسمع بلا مواربة صوت المدافع يدك أذنيك وستزكم رائحة البارود أنفك وستبصر بسالة الجند وتخاذلهم أمامك وسترى تصرف القادة المحنكين إثر احتدام المعارك بل وإنك حتى -وهذا هو الرهيب- سترى الموت جاثمًا وحيًا بكل تفاصيله، سترى ما قبله وأثناءه وكيف ماتوا ثم لماذا هزم ذاك الفريق أو انتصر، نعم ستقرأ تحليلًا وافيًا كما رآه مؤلف هذه الكلمات، إنها رواية ووثيقة تاريخية وقصصًا معقدة ومتشابكة في آن واحد، كما يجب بالرواية الحقة أن تكون وكما هي الحياة كما كانت أبدًا وكما استمرت وتستمر.
* التساؤلات العميقة التي تمر بوجدان شخوص الحكاية عن ماهية الحياة، عن الترحال والخوف والحب وعن جدوى العيش، عن شغف الدنيا وخضرتها وزهوتها وكل جمال فيها، وعن الموت الذي يطوي كل شيء بعده، وكيف تستمر الحياة بعد أن أكون أنا قد غادرتها؟!، وهو تساؤل تسائله أكثر من شخصية لذاتها حتى يحملك ذلك على العجب كيف فكر الإنسان وهو في القرن التاسع عشر أنه في قمة الحداثة وأن فكرة موته وعتاقة عصره تبدو شديدة الغرابة بالنسبة له، لتعلم أنك مثلهم تفكر ومثلهم تتأمل ومثلهم تتعجب وأنك لا محالة وبكل بساطة مثلهم راحل.
* إن تولستوي لا يملّ، إنه لم يترك تفصيلة إلا وأطال الوقوف عندها وتأملها من كل جوانبها ولم يذر خلجة نبضت في صدر بطل ما إلا واستعرض كل خفقة منها وبسط مكنوناتها في غاية التمهل والتأني دونك، إنه لا يمّلّ سواء في معركة أو حدث أو شعور أو حتى في وصف شخصية لن تدوم في الفصول التالية طويلًا لكنها استرعت انتباه البطل في حينها، لقد أخذ تولستوي كل وقته، لم يتعجل قط لقد كتب حتى أتخم شبعًا، ونسخت زوجه الصبور ملحمته التي تبلغ أكثر من ألفي صفحة لعدة مرات، إنهما متشابهان في طول بالهما وفي عظيم صبرهما، وبرغم ذلك لا تخلو روايته من المفاجآت فتلقى شخصية تركتها في وضع فجأة في مكان وزمان مختلفين تمامًا لتزداد الإثارة بذلك، قبل أن يعود ليسرد لك ما فاتك من مغامرته.
* تولستوي بارع في سبر غور النساء وتجده يتحدث بتفصيل مرح عن كل ما يخصهن من عاداتهن ولباسهن وزينتهن وأطوار أمزجتهن وحتى التبدل الذي تُعمله الحياة في الواحدة منهن والتي تحيل شجرتها الصبية العاشقة للحياة الممتلئة أوراقها بعصيرها إلى شجيرة خريفية متلونة بألوان هادئة وقد خبا بريقها وقلت أيكاتها، حتى أنني لا أكاد أنسى أن المتحدث رجل وأن المفكر وراء هذه الكلمات ليس بامرأة ومع ذلك فهو يصف الإنسان الذي هما كلاهما من طينته بكل شفافية وحيادية وبمنتهى العمق.
* إن الأحداث التي سوف تطالعك في الحرب والسلام واقعية كما الحياة تمامًا، على سبيل المثال العشق الذي حمله أبطال الحكاية لبطلاتها في بدايتها لن ينتهي بهم المطاف معهن، وليس مرد ذلك إلى مآس أو دراما خلاقة لكنها المسير والطرق التي تنتهجها الحياة مع كل واحد منا والتي دائمًا بلطف الله وتيسيره تضعه في مكان أفضل وخير من ذلك الذي حلم به أو تمناه ذات حين من الزمان القديم لنفسه، وهكذا أنت تشعر بوداعة وأريحية لا حدود لهما مع صيرورة أحداث الرواية وجريانها، كل شيء طبيعي للغاية وكما ينبغي به أن يكون، لا تفصيلة مغتصبة ولا صغيرة أو كبيرة ملتوية قسرًا لتناسب غيرها، وهذا الإحباط الذي قد يصيبك عند غيره من الكتاب لعدم منطقية الأحداث لن تصادفه هنا مطلقًا.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- نظرة في كلاسيكيات ديزني
- قراءة في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- ستيفين كينج و«المِيل الأخضر»
- الحرافيش.. ملحمة حياة
- قراءة في مذكرات الأمومة «حليب أسود»
- الأخوات برونتي.. حكاية كفاح وحياة
- لماذا تولستوي عبقري؟! لماذا "الحـرب والـسلام" تحفة خالدة؟
- قراءة لرواية «القلعة» للكاتب الأسكتلندي أرتشيبالد كرونين
- ثرثرة حول أعمال العملاق الياباني هاروكي موراكامي
- في حب سيدة الغموض أجاثا كريستي
- إرنسـت هيمنغواي وحياة الشجاعة والتجارب والألم
- لحظة ولادة
- قراءة في رائعة تولستوي الشهيرة «آنا كارنينا»..
- حديثٌ عن ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ ..
- التطهير العرقي لفلسطين للبروفيسور إيلان بابيه
- نجيب محفوظ واللص والكلاب
اكتب تعليقك