قراءة في رائعة تولستوي الشهيرة «آنا كارنينا»..الباب: مقالات الكتاب
رقية نبيل عبيد الرياض |
الكتاب: "آنا كارنينا"
المؤلف: ليو تولستوي
المترجم: إدوارد أبو حمرا
الناشر: دار الكتب العلمية
عدد الصفحات: 439 صفحة
إنه من أندى متع الدنيا وأوقرها في القلب لهي متعة القراءة عن أناس عاشوا في أزمنة تليدة غابرة، قبل مائة أو مائتي عام! حينما تتنفس معهم وتجوب طرقاتهم وتفترش بيوتهم وتطوف محالّهم وأسواقهم، بل وأكثر فأنت تسبر أغوارهم وتَنفذ إلى أرواحهم وتقرأ أفكارهم، وإذا بك فجأة في أرض أخرى وصخب هؤلاء القوم يضج في أذنيك وتنظر نساء علية القوم وهن يرفلن في فساتينهن وتقترب تصغي لثرثراتهن وأحدث الشائعات التي تُنُوقلت على ألسنتهن!
هذا هو أكثر ما أعجبني في رائعة العملاق الروسي ليو تولستوي الحرب والسلام وكذلك كنت أيضًا في روايته الأشهر آنا كارنينا، ولعل أعظم فضول كان عندي يومًا لهي فجوات الدنيا التي لا يحكيها لنا التاريخ، آلاف القرون المنسية، مئات الأعوام المندثرة ،أمم عاشت وانقضت ودفن ذكرها وما وصل إلينا شيء من خبرها، ومثل روايات تولستوي تأتي إلينا هذه الفجوة الزمنية التي تنقلنا للماضي هذه البوابة المسحورة التي ستطوف بنا دنيا بعض من تلك الأقوام ويزداد عجبنا حينما تدرك أن هؤلاء أناس مثلك، يحلمون كما تحلم ويفكرون في المستقبل البعيد ويتأملون آمالاً كبرى ويفتح العمر الطويل لم يزل ذراعيه مرحبًا بهم، هذا المستقبل الذي هو بالنسبة لنا الآن قرن غابر من الزمان مضى وولى ولا يتبادر إلى أذهاننا عن أناسه إلا أنهم كهول قد اشتعل الشيب في رؤوسهم.
ولا يزال تولستوي يصر على وجود الحب الفوري الخالص الظاهر، الحب الذي يسلب لب المرء من أول لحظة وهو في الوقت ذاته متمكن قوي طاهر ويمكنه أن يدوم في قلب صاحبه حتى آخر العمر، لا لست مع هذه المدرسة الأفلاطونية بل أنا مع من يؤمن أن الحب بذرة وليس نظرة والبذرة لابد أن ترتوي وتنهل من صبرك وعطفك وحنوّك ولابد لها أن تعهد اليد التي ترعى وتألف القلب الذي من خلفها يتوارى حتى تينع أبديةً وودّا.
ولكن بحسب الحب الأفلاطوني فقد وقع شابين مرموقين ذو حظوة ومكانة في المجتمع على حب كاترين، كاثرين أثيرة أبويها والحسناء اليانعة الشابة الغضة التي مني كثير من الشباب أنفسهم برقتها وجمالها الغض اليانع، كاثرين البريئة العذبة بِكْر العواطف والفؤاد، هذان الشابان هما ليفين وفرونسكي لكن شتان بين شخصيهما، ففي حين كان فرونسكي صورة حية للوسيم العابث اللاهي حلو الكلام لطيف المعشر، فعلى النقيض تمامًا كان ليفين، ليفين رجل في مقتبل العمر حاد الملامح وخشن الطباع بعض الشيء لا يجد في الحفلات والصخب واللمعان بهجة أو أنس بل إن كل راحته وسروره يكمن في الريف الذي يعشقه والضياع التي يملكها ونعاجه التي يفضل البقاء بجوارها أكثر من أي حفلة تعج بالموسيقى الهادرة والثرثرة والألوان البراقة، وهكذا حينما خلبت كاثرين حبه كان من الطبيعي ألا توافق والدتها فقد سلبها فرونسكي الحيوي اللبق الشهم بصورته اللامعة الجذابة فأين هو من ليفين المكتئب الذي يكره مصاحبة الإنس؟
ليفين بطبيعة الحال هو ذاته بيار في الحرب والسلام أي أنه شابٌ لا يفقه في المجاملات شيئًا ولا يقول إلا بما يعتمل في قلبه وينطق بأول ما يتبادر إلى ذهنه، هؤلاء هم أبطال تولستوي لأنه ببساطة هكذا كان هو نفسه وهذا ما أحبه فتولستوي مولود في الطبقة المخملية وأمضى طوال حياته تقريبًا ينأى عنها ويسرد مثالبها ويتخلص من عاداتها!
نعود لكاترين التي ردت ليفين كاسف البال خائبًا ليغادر موسكو ويستوحش أهلها أكثر من ذي قبل، وأخذت تمني نفسها بالآخر الذي لم يخفِ إعجابه وولهه بها وكانت أكيدة من أنه سوف يتقدم لخطبتها قريبًا، وقد كان هذا صحيحًا.. حتى قبل وصولها، الغانية الدعجاء سوداء الشعر، المرأة الثلاثينية التي قد تبدو أقل جمالًا منها لكن فيها شيء آسر، فيها فتنة طاغية وسريرة متوقدة خلابة، وعينين ترمقان مَنْ أمامها مِن تحت ستارة من الأهداب السوداء الكثيفة فتبدوان وكأنهما تنفذان إلى أعماق قلبه وتستشفان روحه.. نعم إنها الساحرة آنا كارنينا!
آنا هي شقيقة لأمير يقيم في موسكو وقد قدمت من بطرسبرغ على إثر رسالة رجاها فيها أخوها أن تهب لنجدته فقد اقترف خطيئة وزوجته عليه غضبى ولأنه يعرف شقيقته ومدى ما تحدثه من أثر فيمن حولها فقد أبرق لتساعده وبالفعل حضرت الفاتنة موسكو وأقنعت المرأة المتكدرة التي تكفكف عبراتها بعدم جدوى نقض البيت المملوء بالحب والأولاد وهكذا عادت المياه إلى مجاريها لكن ليس قبل أن تلتقي بفرونسكي وتسلب لبه أمام عيني كاترين الذاهلتين الدامعتين ليُمضي الحفل كاملًا معها وينسى كل شيء عن وجود كاترين وهي التي كانت تنتظر هذا الحفل على أحرّ من جمرٍ ليعلن فيه عن حبه لها!
وهكذا تمرض كاترين ويعتريها الشحوب ويعصف السقم بجسدها الذابل فيما يرتحل فرونسكي خلف آنّا إلى بطرسبرغ وقد نسي كل شيء إلاها وبان له كل الكون عديم الجدوى لا قيمة له إلا منها، وآنّا كانت زوج كارنين رجل مرموق وسياسي بارع ظاهر القسوة لكنه طيب القلب عذب الروح لمَن يعرفه حقًا، ولم تكن آنا ممن يعرفونه فهي لا تفقه شيئًا سوى حب الحفلات والمغنى والشيء الوحيد الطاهر فيها هو أمومتها ومحبتها البالغة لطفلهما الوحيد، وهكذا تتردى آنا وتقع في المحظور، إن تولستوي بارع في سرد مكنون أنفس أبطاله دونك فإذا بك تمامًا معهم ويقض مضجعك قلقهم ويؤرقك ما يؤرقهم، وهكذا نراقب آنا وهي تحاول التبرير لنفسها ثم تلومها وتنهرها ثم تبكي ثم تسر ثم تذكر زوجها فتغتم مرة أخرى ،والوساوس داخلها تكاد تنهش لحمها وتأكلها حية!
إن تولستوي يصف حالة امرأة لا تملك من أمرها شيئًا امرأة أسلمت الزمام لأهواء نفسها ورغباتها، امرأة كانت في كنف زوج محب عادل وإن افتقد البريق الزاهي إلا أنه لم يخلُ من حصافة ورقي وعذوبة، غير أن آنا لم تحفل بكل ذلك ومضت تتردى شوطًا بعد شوط، وترمي بصفح زوجها وتحذيراته عرض الحائط، وتضحي بابنها في سبيل حبها المشؤوم هذا، تضحي بقلبها بل وحتى بنفسها!
وليفين عاد لكاترين وتزوجا ونعما بالحبور والهناء وصفاء العيش في كنف الريف الذي لطالما عشقه، ولأن آنّا ساحرة فاتنة فحتى ليفين هذا الرجل الراكز الهادئ قد خلبت لبه لما التقاها ذات مرة، وأشفق عليها من أحاديث الناس وأقاويلهم وهنا يُبرز تولستوي دور التربية السليمة والنشأة المستقيمة التي يترعرع فيها الفتى وهكذا كان ليفين لذلك فإن تأثره بفتنة آنا لم تدم سوى لحظات سرعان ما ذابت وانزوت فور أن رأى زوجه وفور مقدم وليده الأول إلى الحياة، في حين خسر فرونسكي بحبه لها جهارًا وبهجرانها بيت زوجها كل شيء، وكان ذروة ما خسره هو مكانته الاجتماعية واحترام القوم له ونظرتهم التي يصعّدونها فيه سخرية واشمئزازًا كلما قابلوه .
وفي النهاية تنطفئ نيران العاطفة المشبوبة ويخمد أجيج الحب ولا يبقى سوى رماد العار والحسرة، وتُنشب الشجارات أنيابها بين المتحابين وتوقن آنا بالفراق الحتمي، خاصة بعدما علمت أن أم محبوبها تدبر زيجة حسنة له، زيجة نقية لا تطالها ألسنة الناس ولا تلوك فيها اسم زوجه ليل نهار! وتذهل عن نفسها آنّا وتكاد تجن وهي التي تركت ابنها حشاشة قلبها من ورائها في سبيل هذا الحب، وتغادر إلى محطة القطار وتذرع الرصيف جيئة وذهابًا وهي لا تكاد تبصر لها هدفًا، ويرمقها المسافرون بنظراتهم "مَن هذه الحسناء الفاتنة أنيقة الملبس؟! " ولا أحد يعلم ما يعتلج في جوفها من مخاوف وأرق، ودون أن تدري تنزلق آنا على قضبان القطار الحديدية وهي تلمح من بعيد قطار البضائع قادمًا من موسكو، وتغمض عينها ليتراءى لها آنا الطفلة، عذبة لاهية غافلة عن أوجاع الدنيا وآلامها، وأخذت ترمق العجلات المقتربة بسرعة وبلا هوادة
" وفي تلك اللحظة الخاطفة نفسها أصابها رعب رهيب مما أقدمت عليه ..
أين أنا؟!
وماذا أفعل؟!
ولماذا أفعله؟!
وحاولت أن تتراجع، حاولت أن تتفادى أمرًا، إلا أن شيئًا ضخمًا لا يرحم صدمها في رأسها وألقاها على ظهرها..
وشعرتْ بعقم المحاولة، شعرتْ بالنهاية فصاحتْ "ربي اغفر لي، ربي اغفر لي"
وتوهج النور الذي قرأت من خلاله أسطر الحياة ساطعًا باهرًا، توهج النور المفعم بالمتاعب والزيف والأحزان والسرور، توهج هذا النور كما لم يتوهج من قبل، وأضاء لها كل ما اكتنفه الظلام، وما لبث أن اختلج اختلاجة الموت..
وتضاءل تضاءل..
حتى خمد إلى الأبد. "
ما سبب شهرة آنّا كارنينا؟ لماذا هام بها الناس هذا الهيام على مختلف العصور؟! إن منشأ هذا ليس قصة العشق التي انتهت نهاية دامية وقذفت بصاحبتها لتتمرق أسفل عجلات القطار، ولكن لأن تولستوي بارع في الوصف مدهش في نقل دقائق النفس وخبيئاتها وولعها وصبابة عوالجها، ولا تملك إلا أن تحب آنا وتبغضها في آن واحد وتبكي معها وتشفق عليها.
لا عجب أنّا نكنّ إعجابًا شديدا لكبير الأدب الروسي ليو تولستوي! فكلماته لها تأثير ساحر طاغ وأدبه متلون حي وقصصه مدّخرة للإنسان أولًا، فالحكاية حكايته والقصة قصته والأيام التي يتقلب فيها لهي له.
ونحن.. نحن نرقب هذا الإنسان الذي يجسده لنا تولستوي شاخصًا أمامنا ننظر له عن قرب شديد، نجلس معه ونسير معه ونفكر معه ونسهر الليالي معه!
تولستوي في آخر حياته غادر منزله إلى غير رجعة، وكتب إلى زوجه التي يحبها من كل قلبه والتي نسخت له ملحمته الحرب والسلام بخط يدها في آلاف الصفحات بدعم منها وصبر جميل، كتب لها مودعًا وطالبًا الصفح، ولم يعلم أحد إلى أين ارتحل ولم رحل وماذا عمل في خواتيم عمره، لكن بقيت كتاباته تشي بالفضائل والمُثُل التي يمجدها وتفضح كراهيته لمجتمعات المخمل المليء بالنفاق والمداهنة وشرائر النفوس وتفيض حبًا للنفوس الصفية والقلوب القانعة الراضية التي لا يهزها جاه أو مال أو جمال ولا يحيد بها عن طيب خلائقها.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- نظرة في كلاسيكيات ديزني
- قراءة في رواية «قواعد العشق الأربعون»
- ستيفين كينج و«المِيل الأخضر»
- الحرافيش.. ملحمة حياة
- قراءة في مذكرات الأمومة «حليب أسود»
- الأخوات برونتي.. حكاية كفاح وحياة
- لماذا تولستوي عبقري؟! لماذا "الحـرب والـسلام" تحفة خالدة؟
- قراءة لرواية «القلعة» للكاتب الأسكتلندي أرتشيبالد كرونين
- ثرثرة حول أعمال العملاق الياباني هاروكي موراكامي
- في حب سيدة الغموض أجاثا كريستي
- إرنسـت هيمنغواي وحياة الشجاعة والتجارب والألم
- لحظة ولادة
- قراءة في رائعة تولستوي الشهيرة «آنا كارنينا»..
- حديثٌ عن ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ ..
- التطهير العرقي لفلسطين للبروفيسور إيلان بابيه
- نجيب محفوظ واللص والكلاب
اكتب تعليقك