لويس سِبّولْفِيدا الثائر المهووس بالكلماتالباب: مقالات الكتاب
نبيل موميد أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية، مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي - أغادير – المغرب |
ترجمة: نبيل موميد
وُلد "لويس سبولفيدا" في سنة 1949 بمدينة "أوفال" بالشيلي. انخرط مبكرًا في مسيرة النضال في الشبيبة الشيوعية، ثم بعد ذلك في الحزب الاشتراكي، قبل أن يَزج به نظام "بينوشي" الديكتاتوري في السجن سنة 1973؛ وقد استعاد "سبولفيدا" هذه الفترة المظلمة القاتمة من حياته في كتابه جنون بينوشيه الصادر سنة 2003. وبعد صراعات مريرة مع النظام الحاكم، سيغادر ليمضي فترة متنقلاً بين عدة مناطق بأمريكا الجنوبية. وقد مكنته مشاركته في بعثة لليونسكو للبحث في آثار الاستعمار الإسباني والبرتغالي للسكان الأصليين/الهنود الحمر، من فهم الإنسان الأمريكي الجنوبي متعدد الثقافات بصفة خاصة، والإنسانية ككل بصفة عامة؛ وهو ما تجلَّى واضحًا في نِتاجه الأدبي، قبل أن يهاجر إلى ألمانيا ممارسًا مهنة الصحافة، ومناضلاً في منظمة "السَّلام الأخضر"، لينتقل بعدها إلى الاستقرار في إسبانيا.
تنوعت كتاباته بين الرواية، والمقالة الصحفية، والقصة القصيرة، والقصة الموجهة للأطفال. ومن أهم ما عُرف به عالميا: رواية عالم أقاصي الأرض (أنظر ترجمتنا لفصلها الأول في الملحق)، والرواية القصيرة خط ساخن (نقلها إلى العربية "محمود عبدالغني" سنة 2008)، والرواية القصيرة قطار باتاغونيا السريع (نقلها إلى العربية "إلياس فركوح" سنة 2008)، والرواية القصيرة مذكرات قاتل عاطفي (نقلها إلى العربية "إسكندر حبش" سنة 2002)... ملتزمًا فيها بأكملها تقريبًا بنفس الأسلوب الذي يجمع البساطة، بالبحث شبه البوليسي، بهاجس الارتحال الدائم، بالالتزام بالقضايا الإيكولوجية، بالتشويق.
تأثر "سبولفيدا" في حياته بمجموعة من الأدباء العالميين؛ حيث أشار في حوار من حواراته المنشورة إلى أنه أصبح كاتبًا من خلال القراءة، ولاسيما قراءة العظماء من أمثال "جول فيرن"، و"جاك لندن"، و"إرنيست هيمنجواي"، و"روبرت لويس ستيفنسون"... مؤكِّدًا أن الفضل يعود أساسًا إلى جده الذي كان مولعًا بالقراءة، فنقل شرارتها، بالتالي، إليه، وبفضله تعرَّف على الكاتب الشيلي "فرانسيسكو كولوانا" (1910-2002) الذي ترك عليه وعلى أعماله عظيم الأثر. وبالنظر إلى ممارسته للأدب الملتزم، فهو يجاهد من خلال أعماله الإبداعية إلى أن يصل قراؤه إلى نفس الخلاصات التي تتوصل إليها شخصياته الحكائية، دون أن يكون ذلك بمثابة مصادرة لحرياتهم أو فرض وجهة نظر الكاتب عليهم، بل هي مناسبة بالنسبة إليهم لاكتشاف ثقافات جديدة، وعلاقات بمعايير مخصوصة، ودفعهم ـــ بالتالي ـــ إلى إعادة التفكير في شرطهم الإنساني. لكل هذه الأسباب، ولغيرها، تُرجمت أعماله إلى عدد كبير من اللغات فاق الـ 40 لغة.
ولم يكن نشاط "سبولفيدا" مقتصرًا على الأدب وحسب، بل إنه شارك بشكل واسع في مجال إغناء الثقافة البصرية، من خلال إخراجه لأربعة أفلام على رأسها فيلم لا مكان، الذي نال بفضله جائزة الجمهور في مهرجان مارسيليا سنة 2002، كما كتب خمسة سيناريوهات. ولم يكتف "سبولفيدا" بهذا فقط، بل إنه أنتج، وصوَّر، ومثَّل كذلك، حتى إنه يُذكِّرنا بمواطنه "أليخاندرو جودوروفسكي"/عملاق التجريب الموسوعي.
في الـ 16 من أبريل 2020، أسلم "لويس سبولفيدا" الروح بمدينة "أوفييدو" الإسبانية متأثرا بتداعيات إصابته بفيروس كورونا (كوفيد-19) عن سن تناهز السبعين سنة؛ قضى سحابتها في النضال دفاعًا عن القضايا التي يؤمن بها، مرتحلا من مكان إلى آخر لا يكاد القلم يفارق يُمناه ولا الكراسة يُسراه، لاعتقاده الراسخ في قوة الكلمة ودورها المحوري في النضال.
ملحق: نموذج من كتابات الرَّاحل:
رواية عالم أقاصي الأرض لـ "لويس سبولفيدا"
(الفصل الأول)(1)
"نادوني إسماعيل... نادوني إسماعيل"(2)، لم أتوقف عن ترديد هذه الجملة وأنا انتظر في مطار هامبورغ، حتى إنني شعرت بقوة غريبة تجعل من تذكرتي الهزيلة ثقيلة، ثقيلة كلما دنا وقت إقلاع الطائرة.
ولجت قاعة المغادرة بعد أن اجتزت حاجز المراقبة الأول، ممسكًا بحقيبة سفري التي اكتفيت فيها بـآلة تصوير فوتوغرافي، ومذكرة، وكتاب لـ"بروس شاتوين" بعنوان: في باتاغونيا(3). لشدَّ ما كرهت أولئك الذين يُسَطِّرون أو يُدوِّنون ملاحظاتهم داخل صفحات الكتب، بيْد أن الأمر بالنسبة إلى هذا الكِتَاب يختلف؛ فقد ازدحمت فيه الكلمات المسطَّرة وعلامات التعجب، وذلك على مدى ثلاث قراءات، وأنوي أن أتبعها بقراءة رابعة خلال رحلتي من هامبورغ إلى سانتياغو [عاصمة] الشِّيلي.
لطالما كنت راغبًا في العودة إلى الشيلي. نعم، أرغب في ذلك بشدة، غير أنني بمجرد ما كنت أعزم على السفر حتى ينال مني الخوف(4)، إلى درجة أن حنيني الجارف إلى لقاء أخي وأصدقائي هناك أصبح بمثابة وعد يَضعُف إيماني به يوما بعد آخر من كثرة ما رددته.
لقد صرفت سنوات طوال في التِّجْوَال بدون هدف محدد، وأحيانًا كانت رغبة التوقف تنصحني بالانزواء في قرية صيادين صغيرة في كْريت، أو إِيرَابِتْرَا، أو في قرية فيافيثْيوسا الأسْتورْياسِية المُسالمة(5). وفي يوم، وقع كتاب "شاتوين" بين يديّ؛ وها هو ذا يعيدني إلى عالم ظننت أني نسيته غير أنه في انتظاري على الدوام: عالم أقاصي الأرض(6).
عندما قرأت كتاب "شاتوين" للمرة الأولى، سيطر علي حنين العودة، لكن باتاغونيا كانت أبعد من مجرد رغبات؛ فالمسافات تغدو مؤلمة إذا اشتبكت بالذكريات.
مطار هامبورغ، كان المسافرون يدخلون ويخرجون من المتجر المعفاة بضائعه من الرسوم الجمركية، يجلسون أمام البار، بعضهم كان يبدو عصبيًا، ينظرون في ساعاتهم وكأنهم يرتابون في دقة دستة من الساعات الإلكترونية [المبثوثة في أرجاء المطار]. يقترب الوقت الموعود حثيثًا؛ حيث ستفتح الأبواب، وحيث ستنقلنا حافلة ناحية الطائرة بعد مراقبة تذاكر المغادرة.
كنت أفكر في أنه بعد غياب أربع وعشرين سنة، ها أنا ذا أعود إلى عالم أقاصي الأرض.
الهوامش:
1 - هذه ترجمة للفصل الأول من رواية:
Le Monde du bout du monde, Luis Sepulveda, Traduction Française : François Maspero, Edition Métailié, 1993, pp : 13-14.
وقد صدرت الرواية لأول مرة بالإسبانية الشِّيلية سنة 1989.
2 - لا شك أن هذه الافتتاحية تذكر كل قارئ نَهِم للآداب العالمية برواية "هرمان ملفل" (1819-1891) الشهيرة موبي ديك، التي تعتبر واحدة من أهم الملحمات في تاريخ الإنسانية؛ لجمعها "بين الكفاح والأسفار البحرية واقتحام البحر والصراع مع الحيتان، وبين الرؤية الميتافيزيقية للحياة والكون ومصير الإنسان، وبين الواقعية والرمزية" (تنظر الدراسة الهامة حول أدب البحر لـ "أحمد محمد عطية"، دار المعارف، مصر، والاقتباس من الصفحة 180). فالراوي في هذه الملحمة الخالدة يحمل أيضا "إسماعيل"، ولم يكتف "سبولفيدا" بتحميل روايته هذه بإشارات تحيل على موبي ديك؛ بل إن الأمر طال مجمل إنتاجه الإبداعي.
للإشارة فرواية موبي ديك نقلها "إحسان عباس" إلى اللغة العربية.
3 - "بروس شاتوين Bruce Chatwin" (1940-1989)، كاتب إنجليزي اشتهر أساسًا بكتابة النصوص الرِّحلية، من أشهرها تلك التي استشهد بها "سبولفيدا"، والتي أصدرها سنة 1977؛ حيث يحكي فيها بشكل مثير ما شاهده وعاشه في رحلته إلى باتاغونيا؛ باعتبارها من أقاصي مناطق العالم (توجد في الشِّيلي).
للإشارة، كتب "سبولفيدا" أيضا رواية قصيرة بعنوان قطار باتاغونيا السريع، نقلها "إلياس فركوح" إلى اللغة العربية.
4 - من الواضح أن سبب الخوف يرجع أساسًا إلى طبيعة المشكلات السياسية للكاتب مع نظام الحكم في الشِّيلي، والتي كانت دافعًا له من أجل ترك وطنه وأحبَّتِه ويهيم في الأرض.
5 - كريت Crète جزيرة يونانية، وإيرابترا Ierapetraمنطقة ساحلية في اليونان، وفيافيثيوسا Villaviciosaبلدية في منطقة أستورياس Asturies الإسبانية.
6 - كناية عن منطقة باتاغونيا في الشِّيلي.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- مدخل إلى الأدب القوطي
- «أُورْهان باموق» والفن الرِّوائي بين السّذاجة والحساسية
- كامو وسارتر الصَّديقان اللَّدودان
- مكتبة «مونْتِينْيْ» المُتكلِّمة
- «يفغيني زامياتين»... لن يحدث لكم شيء
- حول مفهوم الفاشية بين المجالين المسيحي والإسلامي
- لا يتعلق الأمر بتأويل العالم بل بتغييره.. (أطروحات حول فويرباخ)
- لويس سِبّولْفِيدا الثائر المهووس بالكلمات
- ديداكتيك اللغات الأجنبية.. لسانيات المتون والمعالجة الآلية للغات
- الروائية «أميلي نوتومب»: «أرجو أن ينجح هذا الكتاب في إضحاك أبي»
- في الحاجة إلى الفن في زمن الجائحة «بين الواقعي والافتراضي»
- شيء من غزة
اكتب تعليقك