في الحاجة إلى الفن في زمن الجائحة «بين الواقعي والافتراضي»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 11:15:14

نبيل موميد

أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية، مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي - أغادير – المغرب

ترجمة: نبيل موميد

بقلم: ناتاشا بولوني

حرمتنا الأزمة الصحية من اللِّقاء المباشر بالفن؛ فكان الإنسان على موعد مع إبداعات وابتكارات حاولت سد هذا الفراغ ولو نسبيًا.

هل ندرك حقيقة ما الذي ينقصنا عندما تُغلَق المسارح، والمتاحف، ودور السينما... عندما تُلغَى الحفلات والمعارض؟ هل نحن مقتنعون بافتقارنا إلى شيء ما؟ من اللافت أن مختلف الخطابات السياسية ضربت صفحًا – بشكل أو بآخر- عن استحضار هذا الجانب من حياتنا المشتركة خلال هذه الجائحة، رغم أن الفن لا يرتبط فقط بإشباع حاجاتنا الجمالية فقط، بل إنه يدخل في صلب اهتمامات صُنَّاع القرار براجماتِيِّي الاهتمام كذلك؛ حيث يساهم في توفير فرص للعمل، وإنتاج الثروة. وعلى هذا الأساس تتحول الثقافة إلى صناعة؛ فعندما نقوم بزيارة متحف، أو مَعْلَم أثري... بكل ما يحمله من لافتات إرشادية وتوضيحية، وأنشطة ترفيهية موجَّهة للأطفال فإن الأمر يتعلق بالنشاط السياحي أكثر مما يرتبط بالفعل الثقافي.

وهنا يكمن الفخ؛ ذلك أن الصِّناعة قابلة للعصرنة ولأَنْ تتكيف مع ظروف الإنتاج المستجدة. وهكذا، إذا كانت دور السينما قد أقفلت أبوابها، فإن نيتفليكس وأمازون [على سبيل المثال لا الحصر] تنتجان أعمالاً أصلية بمُكْنة أي واحد أن يراها بمفرده في المكان الذي يختاره. أما المسرح فيتم تصويره [كأنه فيلم سينمائي]، وكذلك الحفلات الغنائية. بل إن زيارة المتاحف أصبحت متاحة بفضل غوغل آرت (Google Arts)... وإذا كان الأمر يتعلق بتغيير الأفكار، فلا ريب أنهم سيجدون وسيلة لذلك.

يكاد يجمع الكل على أن الانتقال نحو الافتراضي يحرمنا من بعد أساسي في حياتنا؛ وأقصد بذلك متعة التقاسم مع الآخر، باعتبار أن الثقافة وسيلة للـ"العيش المشترك"؛ سواء أتعلق الأمر بأفلام الأبطال الخارقين الذين نشاهدهم في دور السينما ونحن نلتهم الفُشَار، أم بمهرجان فنون الشارع المحلي الصغير... فالثقافة لا تعترف بالمَيْز ولا بالتراتبية.

تجربة فردية وجماعية

من ناحية أخرى، إذا كان من المفروض أن تُشاهَد المسرحية أو الحفل الغنائي بشكل مباشر [لنتذكر هنا عبارة العرض الحي] وجهًا لوجه مع الفنانين، وإذا كانت مشاهدة الفيلم تتم أساسًا من خلال شاشة ضخمة داخل قاعة مظالمة، دون أية مقاطعة من قبيل التوجه صوب المطبخ لإحضار مشروب ما أو فتح الباب لخروج الكلب [أي عندما نشاهد افتراضيًا أو عن بعد]، فإن ذلك لا يجد تفسيره فقط في أنه يُمكِّن من تمتين الروابط بين أفراد جماعة يؤمنون يوما بعد آخر أن ما قد يجعلهم ينسجون علاقات فيما بينهم هو الاستهلاك والاستهلاك فقط. فعندما نحصر الفن والثقافة في تصور يعتبرهما مجرد أدوات لسياسة اجتماعية معينة (مجرد ذرائع)، فإنما نُدخِلُهما، بذلك، في دائرة العدم.

يعتبر العرض الحي المباشر تجربة فردية وجماعية في ذات الوقت، تكتسب ماديتها من خلال الاهتزازات، والمشاعر المشتركة في تلك اللحظات بين الجمهور؛ وهنا بيت القصيد، فهذا البعد الجسدي (الاقتراب الجسدي بين الأفراد) هو الذي يحيلنا إلى إنسانيتنا المشتركة، ويتيح بالتالي للفنان أن يدفعنا إلى الإحساس بتلك الرؤية الخاصة التي عبَّر عنها من خلال النوتات، والكلمات، والأضواء. بل إن طبيعة العرض في حد ذاتها تتأسس على تشييد معيش متفرد في جوهره، عبارة عن لقاء بين المشاهدين والفنانين الذين لا يمكن بحال أن يعيدوا حفلاً بعينه بنفس الطريقة.

وحتى اللوحة الفنية لا يمكن أن نلمس حقيقة جمالها من خلال صورتها في كتاب ما أو عبر الشاشة، بل من الضروري أن نحس بعظمتها وأن نعاين ضربات الفرشاة [عِيانًا في المعرض]. وكما أن الكِتاب لا يتلخص في القصة التي يحكيها وحسْب، فكذلك اللوحة؛ فهي ليست مجرد صورة نراها فقط، وإنما هي ريشة الرسام في استعمال مادة رسمه لينقل إلى المتلقي رؤيته المخصوصة.

وحتى لا نكون سُذَّجًا أو منافقين، فلا يمكن أن نلصق تهمة الإضرار بالشأن الثقافي بفيروس كورونا. فعالمنا يَعتبِر أن "الفضاءات الثقافية" مساحات في المتاجر الكبرى نبتاع منها كتبا استهلاكية، وألعاب فيديو وكل ما تضعه صناعة الترفيه رهن إشارة أدمغتنا المنهكة. في كتاب "سيسيل جيلبير – Cécile Guilbert" الموسوم بـ"العجلة الحرة" [وهو منتخبات من نصوص نشرتها سابقا في جريدة la Croix]، تستشهد بـ "جون لوك جودار – Jean-Luc Godard" الذي قال:

"هناك ثقافة تُعتبر بمثابة قاعدة، وهناك الاستثناء وهو الفن. كل ما يحيط بنا يَلْهَجُ بالقاعدة – الحواسيب، والقمصان القصيرة، والتلفزة... - بينما لا يفوه أحد بالاستثناء؛ لأنه لا يُقال، بل: يُكتَب (مثلما نجد مع كل من فلوبير، ودوستويفسكي)، ويُؤلَّف (مثلما نجد مع كل من غيرشوين، وموزارت)، ويُرسَم (مثلما نجد مع كل من سيزان، وفيرمير)، ويُسجَّل (مثلما نجد مع كل من أنطونيوني، وفيغو). أو أنه يُعَاش، وسيكون بالتالي فن العيش. إن من أساسيات القاعدة أن تبحث عن وأْد الاستثناء".

في عالمنا هذا الذي أصبح كل شيء فيه يُنعت بوصف الثقافة، وهو ما يعني أن "ثقافة الجماهير" - بمفهوم المؤرخ "كريستوفر لاش – Christopher Lasch" – قد دقت المسمار الأخير في نعْش الأشكال الأصلية للثقافة الشعبية، (في هذا العالم)، وانطلاقًا من هذه الفترة، وجد الفن نفسه في وضعية تتجاذبه فيها الأشكال الصناعية للترفيه، والتفكير في خدمة القضايا النبيلة والأكثر "شمولية"، فضلاً عن إعادة تأهيل الجماهير الأكثر اضطرابًا. هل يمتلك فيروس كورونا قوة وفاعلية من أجل تدمير كل أشكال الإحساس الجمالي أكثر من هذا اليَمِّ المُتلاطم من الأصوات الرافضة حتى للجمال والأخلاق الحميدة المشكلة لقناعات العصر؟

لا شك أن ما يضاعف الإحساس بالأسى، بل بالدُّوَار، هو التدمير المنهجي عبر مختلف الوسائل الإيديولوجية والتكنولوجية لإمكانية استقبال العمل الفني، واختبار ذلك الإحساس الذي يجعلنا نشارك في تذوقه بوصفنا مساهمين في سيرورة تشكُّله. فإذا كان من شيء آخر يمكن أن نطلق عليه مسمى "ثقافة" - دون أن يكون منتميًا إلى العادات اليومية الاعتيادية، أو إلى الترفيه أو إلى الجانب المظهري – فلن يكون سوى طريقة لتعويدنا على التجربة الجمالية، وجعلنا ننفتح على وسائلها التعبيرية المختلفة. وعلى هذا الأساس، تكون دمقرطة الثقافة؛ بوصفها برنامجًا سياسيًا تتبناه كل حكومة منذ أن وُجدت وزارة وصية على القطاع، بمثابة فشل تراجيدي.

ورغم كل ما أسلفناه، إلا أن المعجزة، لحسن الحظ، في طور التحقق؛ ذلك أن الإنسان هو الإنسان، وأن الحاجة الجمالية أمر واقع وحيوي بالنسبة إليه، مثله مثل باقي متطلبات الحياة المادية. ويبقى السؤال، رغم كل ما قلناه، مُلِحًّا: ما السبيل للدفاع عن الثقافة بمعناها الحقيقي، وضمان استمراريتها في زمن الوباء؟

المصدر:

Natacha Polony, Inexprimable exception, Revue Marianne, 2021.

https://www.marianne.net/culture/culture-les-nombres-contre-lart


عدد القراء: 3943

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-