شيء من غزةالباب: مقالات الكتاب
نبيل موميد أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية، مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي - أغادير – المغرب |
هل من المفروض على الكاتب أن يكون ملتزمًا بقضايا عصره، وأزمات راهنه؟ هل من اللازم أن ينخرط المبدع عضويًا في واقعه المجتمعي؟
يبدو أن الإجابة ستكون بالإيجاب في ظل هذا الواقع المأزوم الذي تمر منه الأمة العربية الإسلامية بفعل تداعيات العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة.
لن يكون بإمكان المبدعين أن يلتمسوا لأنفسهم أي عذر للتَّواري خلف قِلاعهم العاجية، ووراء مواضيع إبداعهم الباذخة.. لا، لا يمكن أن نوافق بودلير هذه المرة فيما ذهب إليه؛ فحتى إن كانت طيور القطرس (Albatros) - كناية على المبدع المتحصن في برجه الماسي - لا تستطيع النزول إلى الأرض والمشي بسبب أجنحتها الطويلة التي تعيقها، فواجب عليها اليوم أن تضم جناحيها إلى جنباتها وأن تمشي وسط الناس، أن تتأمل ملامحهم، وأن تبحث فيها عن ملامح قديمة عدَّها القوم المتقدمون – الغربيون - بادت واندثرت وسط قوم فتحوا في يوم من الأيام بلادًا يُقال إن اسمها كان إيبيريا. أن يتنقلوا وسط تضاريسها (تضاريس الوجه أقصد) التي كانت – قديمًا جدًا - تحمل بذور العزة، وبشارات الكرامة، وفسائل تفوح بالمجد والسلطان... أن تستمع إلى نبضهم... نعم نبض كلامهم، صراخهم، استغاثاتهم التي حُفِرَت أوشاما عميقة في جلودهم.. لا بل في أوردتهم. صرخات تصم الآذان بدون أدنى جواب...
على المبدعين أن يدخلوا مستشفيات غزة... أقصد ما تبقى منها... أن يحدقوا بعيون الجاحظ – مذهولة بارزة – في أطفال حلَّقوا بأجنحة سماوية صوب الأبدية... وكأنه مشهد دانتيٌّ في عوالم مسيحية، أو لوحة بِيُونوروتية سيمونية تبحث في خلق آدم؛ في مصير بني آدم من العُرْب المشارقة.
على المبدعين أن يزيلوا من على أعينهم منظارًا من أصل إفرنجي، يقال إن عدساته جلُّونية، ويُقال إن لياليه لم تعد مقدَّسة بل إن عيونه تأكد انحطاطها، يعاني من قصر نظر خطير، يجعل الأبيض أسود ويحيل الأسود أبيض... منظار لو وضعته لوجدت نفسك إسرائيليًا حتى النخاع... أكثر من الإسرائيلي الصهيوني المخلص نفسِه.
على المبدع أن يتأمل قلمه وأن يبحث عن علة خرسه، أن يرى أسباب تسطح ريشته، أن يتساءل عن أسباب جفاف مجاريه، وأن يؤمن – إيمانًا صادقًا – أن الحقيقة ليست أبعد من هذه الحروف، وأن الرسالة عنوانها وحيد لا يحتاج ساعي بريد ولا طابعًا مختومًا..
لنكن رحماء بالمبدعين.. فماذا عساهم أن يقدموا في ظروف تحتاج إلى الفعل بمعناه السوسيولوجي، وإلى الفاعل بمراده الردعي وليس بمقصوده النحوي؟ ماذا عساهم يقدمون في ظل صورة ملونة بأحمر قان؟ هل يزيدون حمرتها بسواد محابرهم؟
هل من أذن مصيخة؟ ربما نفهم بعضنا البعض، بيد أن المتقدمين يفضلون المنظار الهرتزلي في تأمل الأوضاع والتعامل معها. إنسان ذو بعد واحد؟ ربما.. لا، بل من المؤكد أنهم كذلك مع الاعتذار لـ ماركوز. إيمانهم عميق أن المسلمين من طينة جاهلية، وأن اليهود أنبياء مبشرون بالجنة.. أما الحقيقة العيانية فهي مجرد وهم لا يجب الانتباه له...
سجِّل
أنا عربي (...)
على رأسي عقال فوق كوفية (...)
حذار.. حذار.. من جوعي
ومن غضبي!
عذرًا يا محمود فكلامك مُتجاوز...
عذرًا يا جموع العرب والعجم، فأنا لم أعد عربيًا، ولا داعي لتسجيل أي شيء..
أنا مجرد مشاهد أتابع ما يجري على شاشات التلفاز، أراقب نهم القنوات الإخبارية للمآسي، وتضورها دماءً.
عذرًا فلم يعد يفت في عضدنا شيء، حتى الآتي:
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ
مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
عذرًا يا نازك، فقد قلت ما لم يقله معاصرونا، استشرفت نكبة قبل النكبة، ولم يدر بخلدك أن هناك أوجع من الكوليرا، وأذل من الوجع.
انتصف ليل الأسى،
وما بعده سوى الفجر،
ومجد بحجم السماء
في بقاع لا مكان للخوف فيها..
تبحث كيعقوب
عن مختفٍ لم تقنط أبدا من مجيئه.
فلنرتقب..
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- مدخل إلى الأدب القوطي
- «أُورْهان باموق» والفن الرِّوائي بين السّذاجة والحساسية
- كامو وسارتر الصَّديقان اللَّدودان
- مكتبة «مونْتِينْيْ» المُتكلِّمة
- «يفغيني زامياتين»... لن يحدث لكم شيء
- حول مفهوم الفاشية بين المجالين المسيحي والإسلامي
- لا يتعلق الأمر بتأويل العالم بل بتغييره.. (أطروحات حول فويرباخ)
- لويس سِبّولْفِيدا الثائر المهووس بالكلمات
- ديداكتيك اللغات الأجنبية.. لسانيات المتون والمعالجة الآلية للغات
- الروائية «أميلي نوتومب»: «أرجو أن ينجح هذا الكتاب في إضحاك أبي»
- في الحاجة إلى الفن في زمن الجائحة «بين الواقعي والافتراضي»
- شيء من غزة
اكتب تعليقك