الاستهلاك بين الاقتصاد والأدبالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-09-30 06:07:52

د. غانم حميد

الجزائر

تمعنتُ في مصطلح الاستهلاك فرأيتُ أنه مصطلح مُحدَث في علم الاقتصاد الذي غمر دنيانا وآخرتنا، فلم يدع للروح إلا حشرجة تئن تحت ضغوط معيشة غارقة في الضنك. وحسبُنا من مادة الاستهلاك دلالة أن جذرها اللغوي (هلك) وزيادة الألف والسين والتاء تفيد الطلب، فكان مدلول الاستهلاك هو طلب الهلاك، ولا سيما حين يحمّل المرء ما يطيق، فيورده موارد التهلكة، ولعل الترياق الناجع لهذه العلة المستحكمة يعبّر عنه قول الشاعر:

وإذا  غــلا شيء  عليّ تركتُه

                         فيكون أرخصَ ما يكون إذا غلا

غير أن الأخذ بهذه القاعدة السلوكية ليس من الميسور على كثير من الناس، إلا من رزقه الله بصيرة نافذة، فوقف بالمرصاد أمام شهوات النفس وأعني بها هاهنا ما كان مباحًا منها، فإن الانسياق المفرط للرغبة في المباحات مجاز لما وراء ذلك من المحاذير والمحظورات، ولو لم يكن منها إلا تحميل النفس فوق طاقتها والتعويل على تلبية الرغبات باللجوء إلى الدَّين لكفى. لذا فالخير كل الخير في كبح جماح النفس، يقول البوصيري رحمه الله:

والنفس كالصبي إن تُهمِلْه شبَّ على

                     حُبّ الرضاع، وإن تفطمْه ينفطمِ

ما أحوجنا في مثل هذه الأيام العصيبة حيث شحت الأقوات، وضاقت بالكثير سبل العيش أن نتمثل قول الشاعر في البيت السابق حيث يترجم فلسفة الاستهلاك في أسمى معانيها، وذاك أن سلوك الفرد الواعي الذي يملك زمام نفسه كفيل بإلجامها إن نازعته إلى أن اقتناء كل ما يشتهي وفي هذا الطبع مهلكة للمرء وإن كان ذا سعة وجِدَة، فكيف بمن كان قليل ذات اليد، وفي ذلك من تضييق الحال وإعسار المعيشة على من دون ذلك من المعوزين والمساكين ومن لا عائل لهم من المسؤولية التي تبلغ درجة الإثم في حق إخوانه من المسلمين؟

 ما زلتُ أحفظ ثلاث حِكم مبدوءة بميم نافية، تعدل ثقلها ذهبًا: (ما كُلّ ما يُعرَف ما يُقال ـــ ما كُلّ ما  يقال يُصدّق ـــ ما كُلّ ما يُشتهى يُشترَى) والحكمة الثالثة هي ما يعنينا في هذا الشأن، شهوة يتحكم بها سلطان البطن على قوة الإرادة، فينقاد المرء لكل ما يُعْرَض من سِلَع، ويحمل نفسه على شرائه وإن لم يكن ذلك مندرجًا ضمن قصده من التبضع، فربما خرج من بيته لبعض حاجات ضرورية محدودة، تستجيب لذات يده فإذا به يتيه عن القصد، ويبعد النجعة، ويُقبل على شراء ما هو ضروري، وما استهواه عرضًا، وما صرفه إليه إقبال الناس عليه، وتأثير الدعاية الإعلامية فيه من مأكولات ومشروبات، يتّسم أغلبها بالغلاء الفاحش.

آفتنا أننا رغم كل مظاهر التمدن ما زلنا لا نحسن ترتيب الأولويات في الإنفاق، كما لا نعي أيضا تناسب ميزانياتنا العائلية مع مصروفاتنا اليومية لئلا تتجاوز قدراتنا المالية، ولذلك فأكثرنا يعيش على (العرض) وهو في معنى الجاه كما يتردد عند العامة.

وقديما ألمع الشاعر الجاهلي عنترة إلى هذا المعنى في قوله:

وإذا  شربتُ  فإنني  مستهلكٌ

                          مالي، وعِرضي وافر لم يُكْلَمِ

إن الشاعر وهو يعاقر الخمرة لا يتلف إلا ماله، ولا يصدر عنه في تلك الحال ما يذهب بمروءته أو يخدش عرضه، ذلك أن الواو في الشطر الثاني من البيت (وعرضي وافر) للحال وليست للعطف، بمعنى :( وافرَ العِرض) عند تأويلها بالمفرد.  

 هذا الذي يحيا على (العرض) في حكم الفقه هو مَدين مليء على اعتبار أنه ينتظر راتبًا أو معاشًا، ولكنه طبع قبيح، لأن التعويل على الاستدانة مدْخل إلى إذلال الرجال، فلا ينبغي أن يلجأ إليها العاقل إلا لضرورة قاهرة. وحسبنا منها شرًا أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ كان يستعيذ منه، في جملة من المنغّصات: (وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).

ولكن المؤسف حقا هو أننا لا نميز بين ما هو ضروري وما هو كمالي. على الرغم من أن ديننا الحنيف أرشدنا إلى أن حاجاتنا على ثلاثة مستويات: ضروريات وحاجيات وتحسينيات.

 ولله درّ أبي الطيب حين يقول:

ذِكرُ الفتى عُمْره الثاني، وحاجته  

                      ما قاته، وفضول العيش أشغال

ففي هذا البيت نقف على حِكم ثلاث، تعد قواعد للسلوك الإنساني التواق إلى المعالي، إذ يرى في الحكمة الأولى أن ما يستحق الاحتفاء به واستفراغ الوُسع له هو تلك الأعمال الجليلة التي تخلّد ذكر الإنسان وتبقى بعد رحيله عن الفانية بمثابة عمر ثان، هي آثار المرء التي خلّفها فعل الخير، والإحسان إلى الناس، وإتيان كل أمر محمود، ومثل هذه النظرة لها سند من كتاب الله تعالى:( إنّا نحنُ نُحيي الموتى ونكتبُ ما قَدَّموا وآثارهم وكلَّ شيء أحصيناه في إمام مُبين) يس . الاية 13

ويأتي دون ذلك الحاجات التي يقصرها الشاعر على ما يقوت الإنسان مما لابد للعيش منه دون الاسترسال  في تحصيل الملاذّ والمباهج، إذ كلُّ ذلك صرفٌ عن الهمّة العالية. أما من خرج من هذه الدائرة فهو فضول العيش مما يدخل في نطاق الكماليات والتحسينيات فهو أشغال كما قال الشاعر الحكيم. والقصد من الأشغال إضاعة العمر في طلب ما لا طائل من ورائه في المعاش والمعاد. ورحم الله أبا الفتح البستي إذ يقول في قصيدته الشهيرة:

زيـادَةُ المَـرء فـي دُنياهُ نقصانُ 

                    وربْحُـــهُ غَيرَ محض الخَير خُسـرانُ

يا خادمَ الجسم كم تشقـى بِخدمته

                    أتطلب  الربح فيمـا فيـه  خسران؟

أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها

                    فأنـت بالنفس  لا بالجسـم إنسـان


عدد القراء: 2087

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-