البُعد الروحي في شعرية محمد العيد آل خليفةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 16:39:06

د. غانم حميد

الجزائر

محمد العيد آل خليفة 1904 ـــ 1979 قامة شعرية فارهة تربّعت على عرش الشعر الجزائري الحديث لعقود، وإلى غاية ظهور الموجة الجديدة من الشعراء الجزائريين الشباب المُجدِّدين بعد الاستقلال، فهو وإن كان محسوبًا على التيار الكلاسيكي لم يعدم مقومات الإجادة، وتشكيل الجمالية في نصوصه على تنوع أغراضها، حيث ضمّ شعره إلى جانب شرف المعنى حسن انتقاء اللفظ، حيث الجزالة في موضعها، والرقة في موضعها، والقدرة على الانتزاع من المخيال ما يلائم الصورة، ويخرجها في أبهى حُلّة.

 وفيه يقول أمير البيان شكيب أرسلان: كلما قرأتُ شعرًا لمحمد العيد الجزائري تأخذني هِزّة طرب تملك عليّ جميع مشاعري، وأقول: إن كان في هذا العصر شاعر يصح أن يُمَثِّل البهاء زهيرًا في سلاسة نظمه، وخِفّة روحه، وَدِقّة شعوره، وجودة سبكه، واستحكام قوافيه التي يعرفها القارئ قبل أن يصل إليها، وإن التكلف لا يأتيه من بين يديه، ولا مِن خَلْفه فيكون محمدًا العيد الذي أقرأ له القصيدة المرتين والثلاث، ولا أملّ، وتظل عذوبتها في فمي. كان يُظنّ ان القطر الجزائري تأخّر عن إخوته سائر الأقطار العربية في ميدان الأدب، ولا سيما في الشعر، ولعله بعد الآن سيعوّض الفرق بل يسبق غيره بمحمد العيد"1

 وعلى الرغم من الحضور الشعري الخلاّق الرصين لمحمد العيد عبر مختلف الأحداث التي مر بها الوطن، في أفراحه وأتراحه، في انتصاراته وانكساراته إلا أنه ظل يحتفظ لنفسه بخط أصيل يسير عليه، ذلك هو البعد الروحي الذي يصدر عنه الشعر الديني. ولم يكن محمد العيد لينخرط في تلك المعارضات والمساجلات بين التيار الشعري الصوفي والتيار الشعري الإصلاحي الذي يصدر عن مرجعية جمعية العلماء المسلمين، ذلك السجال الذي كان أشبه ما يكون بشعر النقائض في عهد بني أمية، بل نأى بنفسه عن كل ذلك. غير أن ذلك الشعر ـــ كما أسلفنا ـــ يصرّح بمضامينه دون كبير عناء من المتلقي، انطلاقًا من كونه يطرق قضايا دينية، كما كان يقتبس من القرآن الكريم والسنة النبوية وسير أبطال التاريخ الإسلامي، شحذا للعزائم، وحفزًا للهمم من أجل الثبات في وجه المستعمر، ويوظف معجمًا شعريًا دينيًا، كما في قصيدته وقفة على قبور الشهداء، التي ضمّنها كثيرا من الألفاظ والمعاني القرآنية"2

رحـم الله معـشـر  الشـهـــــداء

                        وجــزاهم  عنــا  كــريم الجـــزاء

وسقى  بالنعيم  منهم  تـرابــا

                       مسـتطــابـا  مُعــطّــر  الأرجــــاء

هـذه  في  الثـرى قبـور حـوتهم

                          أم قصور تسمو على الجوزاء؟                                               

لا تَخَلْ معشرًا قضوا في سبيل

                           الله موتى، بل هم من الأحياءِ

ففي هذه المقطع نقف على ألفاظ وعبارات تؤكد هذه المرجعية الدينية، مثل: رحم الله ــ جزاهم ــ النعيم.

 كما ينقل بعض شعره خلجات نفس توّاقة إلى حياة بسيطة أقرب ما تكون إلى الفطرة، فهو ينشد العيش في بيئة لا أثام فيها ولا خطايا ولا منغّصات، يتفرغ فيها لعبادة الله ليبلغ درجات من السمو الروحي"3

ليتني كنت سائحا، موطني البيدُ

                            ولبسي  المــســوحُ  والأهـــدامُ

وطعامي  النبـات  مـن  كـل  نـوع

                            ومبيتي  الكــــهـــوف  والأكـامُ

وسميري  النجـــوم  والطير  فيها

                            وعشـــيرتي  الـوعـــول  والآرامُ

وجهـتي  للذي  هــداني  وقـصـدي

                            وصلاتي  لوجــهــه  والصيـامُ

والبراري  مثل  الفراديس  يصفـو

                             المكثُ في ظلها ويسمو المقامُ

إنها أمان مستحيلة، فحتى الطيرُ ليست من الحيوان الذي ينشط ليلا، لغلبة العَشى عليها، وفي بعض معانيها تناص مع شعراء قدامى ذكروا بأنهم اتخذوا من الوحوش صاحبًا مؤنسًا، يقول الشنفري مغاضبًا قبيلتَه:

ولي دونكم أهلون: سِيدٌ عَمَلَّسٌ

                        وأرقطُ زُهلولٌ، وعَرفاءُ جَيْأَلُ

أما المتنبي فإنه لم يبعد عن هذا المعنى كثيرًا، حين يقول:

صحبتُ في الفَلَوات الوحشَ مُنفردًا

                       حتى تعجّب مني القُور والأكمُ

وقد علّق أبو القاسم سعد الله على هذه الأماني بقوله: "إنها أمنية تذكرنا بأساطير الفلاسفة المتصوفين، وتحضر إلينا صور العشاق العذريين الذين يجدون في الخلاء والمناجاة متعة الروح الظائمة حيث يسمعون همسات الأحبة تناجيهم عن قرب تارة وعن بعد تارة أخرى، وهم مع كل همسة ومع كل طيف يزدادون شوقًا، ويتحرقون لإشراقة الوجه الحبيب"4

ومن شعره الديني الروحي ما كان ابتهالاً ومناجاة، حيث ورد هذا الموضوع في هذه قصائد ومُقَطّعات، أشهرها قصيدة ثناء وابتهال، ومنها قوله:"5

 حمدتُك باللسان وبِالجَنـانِ

                         وحمدُك غُرّة النِّعَم الحِسانِ

 وباسمك أبتدي وعليك أُثني

                         بما  أثنيتَ  في السَّبْع المثاني

 فأنت مُوفّـقي للخير فضـلا

                         وأنـت  معلّمي  قـول  البيـانِ

فألهمْـني السـداد، ولا تُزِغني

                         وجَنِّبــني  بَلِيّـــات  اللــســــــان

 وفي بعض شعره الروحي ما يجمع بين التأمل الفلسفي والحقيقة الدينية، حيث اشتملت على ألفاظ تندرج ضمن المعجم العٍرفاني مثل (الحقيقة ـ مشهود ـ غيب) من ذلك أبيات في ديوانه بعنوان (المرء في حقيقته المُجرّدة) وقد نُشِرت في العدد 159 من جريدة البصائر، في 31 مارس 1936م، إذ يقول:

المرْء ما المرْء سليل الثرى

                      لا غرو  أن يُشبه  جُلمودَه

عالجَه الرُّسْل بتأديبهم

                      فلم يُلِـن تأديبُـهم عـــــــــودُه

لا تَحْمَدِ المـرءَ لمشهوده

                      فغْيـــــبُه يُنكــــــر مشهــــــودَه

أما الشيخ البشير الإبراهيمي فهو بدوره له في التقديم الذي صدّر به ديوان محمد العيد فقرة تشير إلى هذا الجانب الروحي الخلقي من شاعرية محمد العيد الذي يُمثّل الشعر الروحي الوجداني، حيث يقول: "ومن يعرف (محمد العيد) ويعرف إيمانه وتقواه وتديّنه وتخلقه بالفضائل الإسلامية يعرف أن روح الصدق المتفشية في شعره إنما هي من آثار صدق الإيمان، وصحة التخلق، ويعلم أنه من هذه الناحية بِدْع في الشعراء"6.

إن البُعد الروحي ليس هامشًا باهتًا في الرؤية الأنطولوجية للشاعر محمد العيد بالنظر إلى الميادين الكبرى التي يستوعبها ديوانه، ولا المواضيع الجمّة المتشعّبة التي تطال حتى الإخوانيات والألغاز الأدبية والمُفاكهات أحيانا، بل هو بُعْد عميق ينداح عن مشرب زهدي درج عليه في نشأته المحافظة، المتشبّعة بأصول الثقافة الإسلامية مع مطلع القرن العشرين في وقت ضرب الليل الاستعمار أطنابه على الجزائر حتى بات الانطباع السائد آنذاك أنها جزء لا يتجزأ من فرنسا.

 ولعل الأستاذ محمد بن سمينة حين شبّهه بالشاعر المخضرم حسان بن ثابت يشير إلى جانب طاغ على سمته الشعري، وحياته العملية أيضًا، إذ لا انفصام ولا مفارقة بين هذه وتلك، قد سدّد وقارب في الوصف. 

 واللافت للنظر أنه رغم الخلاف بين النُّخب الوطنية أثناء الاستعمار إلا أن محمد العيد بقي محتفظًا بمسافة متساوية من تلك التيارات وإن كان أقرب إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث نجد في ديوانه قصائد تدور موضوعاتها حول نشاطها، من قبيل قصيدته في ختم ابن باديس تفسير القرآن سنة 1938، والتي مطلعها:

بمثلك تعتز البلاد وتفخرُ

                       وتُزهِر بالعلم المنير وتزخرُ

 

الإحالات:

1ـ ديوان محمد العيد آل خليفة، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، ص 8

2 ـ   المصدر السابق، ص 397

3 ـ المصدر السابق، ص 166

4 ـ أبو القاسم سعد الله: شاعر الجزائر محمد العيد، ص 100

5 ـ ديوان محمد العيد، ص 9

6 ـ المصدر السابق، ص 6


عدد القراء: 3440

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-