التوظيف الدلالي للريح في الشِّعر العربي القديمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 09:31:30

د. غانم حميد

الجزائر

الريح خلْق من مخلوقات الله العظيمة، لا تُرى بالعين المُجردة، ولكن تُعرف بأثرها في الكائنات. فنرى الأشجار تهتز أغصانها، وتهتز أوراقها، بل إنها تدفعنا في سيرنا إلى الأمام أو تضرب صدورنا لتردنا إلى الوراء. قال الحق ـ تعالى: (إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ)1

الريح لفظ مؤنث، يدل على ذلك تصريفها بصيغة المفردة المؤنثة الغائبة في آيات القرآن الكريم التي وردت فيها، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر، الآية: (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ)2

والآية: (وَأَمَّا عَادٞ فَأُهۡلِكُواْ بِرِيحٖ صَرۡصَرٍ عَاتِيَةٖ)3

والشواهد منه هذا القبيل كثيرة.

وربما فرّق بعض الدارسين المُحدثين للإعجاز البياني في القرآن الكريم بين لفظ "الريح" بصيغة المفرد، و"الرياح" بصيغة الجمع، أن "الريح" تَرد دائما في سياق العذاب والهلاك، وأن "الرياح" ترد في سياق الرحمة. ربما كان ذلك من باب الغالب باستقراء الآيات  القرآنية، لكن ليس بالمطلق، فقد وردت "الريح" موصوفة بصفة مفردة "نعت" دالة على الرحمة تارة، وعلى الهلاك تارة أخرى، كقوله تعالى: (هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ)4

وقد وردت منعوتة بجملة اسمية، دالة على العذاب، في قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوۡهُ عَارِضٗا مُّسۡتَقۡبِلَ أَوۡدِيَتِهِمۡ قَالُواْ هَٰذَا عَارِضٞ مُّمۡطِرُنَاۚ بَلۡ هُوَ مَا ٱسۡتَعۡجَلۡتُم بِهِۦۖ رِيحٞ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٞ)5

كما أعقب لفظ "الريح" جملة فعلية في محل نصب حال، دالة على الرحمة في الآية: (فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ)6

وعلى الرغم من أن العرب لم تكن أمة بحرية متمرسة بركوب السفن، وتوجيه الأشرعة حسب ما يناسب الوجهة المقصودة، فإنهم في الصحراء خَبروا الريح، وكان لهم علم بالجهات التي تهبّ منها، فأطلقوا تسمية على كل نوع، وذكروا ما يتصف به من نفع أو ضرر على الإنسان والحيوان والنبات، ثم امتد ذلك إلى الأدب، فتضمن الشعر القديم توسلا بالريح، أو خطابًا يقحمها في نقل الشوق والحنين إلى المحبوب.

 وأبسط تعريف للريح ماورد في معجم المعاني بأنها الهواء إذا تحرك.

ومن معانيها أيضًا الرائحة التي نشمها سواء أكانت طيبة كالعطر ونحو ذلك أو كريهة.

قال تعالى: (وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ)7

قال النابغة الذبياني:

وهبّتِ الريح من تلقاء ذي أُرُلٍ

                تُزجي مع الليل من صُرّادها صَرِما

وقال الأخطل في مدح بني أمية:

هم الذين يبارون الريح إذا

                 إذا قلّ الطعام على العافين أو قَتروا

غير أن مصادر اللغة والأدب تضمنت مُسميات للريح تبعا لجهاتها. نقتصر على ذكر أشهرها:

الصَّبا: تهب من المشرق إلى المغرب. وهي ذات نسيم عليل. يكون هبوب هذه الريح في الليل أو ساعات الصباح المبكرة. وفي الحديث النبوي الشريف: "نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكتْ عاد بالدَّبور"

ولعل سر النُّصرة بالصبا في الحديث الشريف ما يبعثه هبوبها المنعش في الروح القتالية للمسلمين من رفع للمعنويات، وبشائر بالنصر، على غرار الغيث الذي نزل قبل غزوة بدر تثبيتا للمؤمنين.

قال ابن زيدون:

ويا نسيم الصبا بلّغْ تحيتنا

مَن لو على البُعد حيّا كان يُحيينا

وقال أمير الشعراء:

سلام مِن صبا بردى أرقُّ

                          ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ

ومن رقيق الغزل الذي خاطب الشاعر فيه الريح في معرض النّسيب قول عنترة:

ريـحَ الحجاز  بِحقّ مَن أنشاكِ

                      رُدّي السلام وحَيِّي مَن حيّاكِ

ياريـحُ  لـــولا أنّ فـيكِ بقـيـةً

                      مِن طيب عبلةَ متُّ قبل لقاكِ

كيف السُّلُوُّ وما سمعتُ حمائما

                    ينـدبن إلا كـنـتُ أول بـاكــي

يا عبلُ ما أخشى الحِمام وإنما

                    أخشى على عينيكِ حين بُكاكِ

ومنه اشتق للموسيقى مقام سمي بالصّبا، لما فيه من رقة وسلاسة.

الَّدّبور: ريح تأتي من المغرب.

النكباء: وهي الريح بين الريحين. ورد في اللسان: "كل ريح. وقيل كل ريح من الرياح الأربع انحرفت ووقعت بين ريحين، وهي تُهلك المال، وتحبس القَطْر، وقد نَكَبَت، تنكب، نكوبا. وقال أبو زيد: "النكباء التي لا يُختلَف فيها. هي التي تهب بين الصبا والشمال"8

نسج الجنوبُ مع الشمال رسومها...وصبًا مزمزمةُ الرَّباب عجول9

ومن قبله قال امرؤ القيس الجاهلي:

فتوضحَ فالمقراة لم يعفُ رسمها

                         لِما نسجتْها من جنوب وَشمْأل

فذكر أثر ريح الجنوب والشمال في الرسم.

وقال البوصيري:

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

                 وأومض البرق في الظلماء من إضمِ

الجنوب: وهي للأمطار والأنواء.

الشمال: ريح باردة تهب من جهة القطب الشمالي. تقل برودتها عند خط الاستواء. 

ولأمير الشعراء قصيدة تتغنى بحب الوطن من خلال حوار دار بين الريح وحمامتين، يقول فيها:

عُصفورَتانِ في الحِجا    زِ حـَلَّـتـا عَلى فَـنَـن

في خـامـِلٍ مِنَ الرِيـا    ضِ لا نَـدٍ وَلا حَسَن

بَينـاهُـمـا تَـنـتَـجِـيـــا     نِ سَحَراً عَلى الغُصُن

مَــرَّ عَـلى أَيـكِـهِـــمـا     ريحٌ سَرى مِنَ اليَمَن

حَـيّـا  وَقـــالَ  دُرَّتــا    نِ في وِعـاءٍ مُمتَهَن

لَقَد رَأَيتُ حَـولَ صَـن     عاءَ وَفي ظِـلِّ  عَدَن

خَـمـائِـــلاً  كَأَنَّــهــا     بَقـِيّـَةٌ مِن ذي يَـزَن

الحَـبُّ  فيـها  سـُكَّـرٌ     وَالماءُ  شُـهـدٌ  وَلَبـَن

لَم يَرَهـا الطَـيرُ وَلَـم       يَسـمَع بِها إِلّا اِفتَـتَن

هَـيّـا اِركَـباني  نَأتِـها       في ساعَةٍ مِنَ الزَمَن

قـالَـت لَهُ إِحــداهُـمـا        وَالطَيرُ مِنهُنَّ الفَطِن

يا ريحُ أَنتَ اِبنُ السَبي      لِ ما عَرَفتَ ما السَكَن

هَب جَنَّةَ الخُلدِ اليَمَن       لا شَيءَ يَعدِلُ الوَطَن

ومن الأمثال العامية القريبة من الفصحى في المشرق العربي: "يا جبل. ما يهزك ريح" كناية عن الثبات ورباطة الجأش، وتحدي الصعاب.

ولا نـختم حديثنا عن الريح دون أن نشير إلى التوظيف الأسطوري العجائبي للريح حيث تروي كتب الأساطير وحكايات ألف ليلة وما ورد في الآداب العالمية القديمة عن بساط الريح " كوسيلة نقل تطوي الآفاق طيّا. كذلك قام الموسيقار الراحل فريد الأطرش بجولة في الوطن العربي من خلال أغنية "بساط الريح".

 

الهوامش:

1 - البقرة، الآية: 164.

2 - آل عمران، الآية: 117.

3 - الحاقة، الآية: 6.

4 - يونس، الآية: 22.

5 - الأحقاف، الآية: 24.

6 - ص، الآية: 36.

7 - سورة يوسف، الآية: 94.

8 - لسان العرب، ابن منظور، ج1، ص 771 .

9 - ديوان جرير، تحقيق د نعمان محمد أمين طه، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط 3، د.ت، ص 95.


عدد القراء: 846

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-