خطاب البوح في التجربة الشعرية لعبدالله الفيصل «ثورة الشك» نموذجًاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 18:08:10

د. غانم حميد

الجزائر

غالبًا ما كانت تحمل مقولة "شاعر البلاط" في طياتـها لمزًا لصدق الشعور، ونبض العاطفة لدى الشاعر الذي يخاطب ملكًا أو أميرًا لازمه طويلًا كحال المتنبي مع سيف الدولة حتى سُمّي قسط وافر من شعره "السيفيات" أو كان مرورًا قصيرًا كحال النابغة مع الغساسنة، لكن هذا الموقف النقدي يكاد يكون انطباعيًا حين لا يتعامل الدارسون عمومًا والنُقّاد خصوصًا بمنهج استقرائي استقصائي مع مجموع النتاج الشعري للشاعر. إن بيت المتنبي الذي يختم به قصيدته في وصف معركة الحدث ليجُبُّ ما قد يشوب جانبا من شعره من مَغامز. وفي البيت يقول:

ولستَ مليكًا هــازمــا لمليكه

                       ولكنك الإسلام للشرك هازم

  ولكن ماذا لو كان ابن البلاط شاعرًا بلغ من ذيوع الصيت ما يضاهي به المادحين والمتكسبين بالشعر كأن يكون أميرًا مثلًا؟ عندئذ يكون معيار الحكم أكثر واقعية، وميزان النقد أوغل في الموضوعية لتجرد السياق من الدوافع الخارجية وتبئير البعد الوجداني إحساسًا وبوحًا. من هذا النموذج النادر نقف على حالتي الأمير أبي فراس الحمداني في القرن الرابع الهجري، صاحب "الروميات" ابن عم سيف الدولة، والأمير عبدالله الفيصل في القرن العشرين الذي انقدح في ذائقتي الأدبية أن أطلق عليه "شاعر البَوْحيات" حيث أُفْرِج عن بعض بَوْحي في هذه إزاء تجليات نبض الأمير الشاعر من خلال شذرات من نُضاره الذي تُكَحّل العين به قراءة، وتُشنّف به الأذن سماعًا، ويسري في العروق التفاعل مع أسئلة الوجود ذات البعد الروحاني تستهدف كل ذي قلب مفتوح.

لم يكن يدور بخلد أبي فراس الحمداني حين جادت قريحته في الأسر برائعة "أراك عصي الدمع" أن القصيدة سَتُبعث فيها الحياة بعد عشرة قرون، وأن إحساس المتلقي بتأثير البُنى المأسورة في سياق معاناة الأمير من مكابدة اللوعة، وحمل النفس على الجَلَد، وعتاب محبوبة بعيدة الدار... كل ذلك يستحيل مع حنجرة كوكب الشرق إلى تفاعل جماهيري يتجاوز الخاص إلى العام، فيغدو التعاطي وجدانيًا عامًا لا صلة له بالأمير الشاعر. كذلك هو حال الأمير الشاعر في عصرنا الحالي عبدالله الفيصل ـــ على خلاف في التفاصيل ـــ يعيش حالة من القلق الوجودي تشكّلت بفعل الكينونة الموهوبة المتميزة التي تغالب الأفذاذ فتحرمهم من القناعة بحياة عادية ولو توافر فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من قبيل قول المتنبي:

أريد من زمني ذا أن يبلّغني

                    ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

كانت قصيدة "عواطف حائرة " أو أغنية "ثورة الشك" سنة 1962 التي تُمثّل واسطة العِقد في الديوان المتألف من أربعين قصيدة، المطبوع سنة 1954 حقيقة بالتلقف من بين أربعين نصًّا شعريًّا مُشبعة بالنبض الحي، والتدفق الشعوري، والحس المُرهف، والبساطة الأصيلة.

من هذا المنظور لم تكن "ثورة الشك" مجرد رائعة من روائع أم كلثوم أو هكذا كما يسود الانطباع لدى مُدمني الطرب الشرقي الأصيل، بقدر ما كانت مونولوجًا فلسفيًا يسمو على شك سطحي في ذات وثيقة الصلة بالذات، يستحيل معها افتراض الشك وإلا انتقضت المُسَلّمات، واختلت الموازين. يقول الأمير الشاعر عن القصيدة: "قصيدة ثورة الشك تُمثّل بداية نضجي الشعري". والعنوان في القصيدة عتبة نصية حسّاسة تستدعي تحليلًا سيميائيًا يتجاوز القراءة السطحية، لذلك فإن العنوان الأصلي في ديوان الشاعر" وحي الحرمان" هو "عواطف حائرة" يحيل إلى رؤية نقدية مغايرة لما يشي به عنوان الأغنية "ثورة الشك" من هنا يصبح التعاطي النقدي مع المتن غير ما يشي به التفاعل الوجداني الطربي مع المتن الذي يتألف من أربعة عشر بيتًا على بحر الوافر الذي وُفق الأمير الشاعر ـ رحمه الله ـ إلى حد بعيد في بناء القصيدة عليه. أما الشك كحالة إنسانية فيتجاوز ربطه بمناسبة أو سبب. إنه الرغبة الجامحة في تجاوز القلق المعرفي، حتى إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحاشا له أن يشك في يقينيات التنزيل ــ خاطبه ربه في سورة يونس: (فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ) (يونس: 19) والغرض تثبيت وطمأنة. لذلك فإن العنوان الأصلي الذي وضعه الشاعر "عواطف حائرة " يبدو أكثر انسجامًا مع العنوان العام للديوان "وحي الحِرمان" إذ العواطف ميدان فسيح لتنوع من الإحساسات يتجاوز الشك إلى استشعار الحب والبغض والشفقة والإحسان والإنسانية على العموم، ووصف العواطف بالحيرة من باب تخصيص العام. يقول الشاعر الناقد اللبناني صلاح لبكي (1906 – 1955) في التقديم لديوان (وحي الحرمان): "هذا الشعر هُتاف قلب من أول كلمة حتى آخر كلمة. هو هُتاف صادق مخلص لا تَعَمُّلَ فيه ولا تصنّع. الفن فيه كل الفن ابتعاد عن التعمل والزخرف".

 يقول الشاعر:

وأنت مُناي أجمُعها مشت بي

                      إليك خُطى الشباب المُطمئنِ

إن عبارة "أجمُعها" ليست فعلًا مضارعًا من الماضي "جمع" بل هي توكيد معنوي بمعنى "كُلّها"، يختصر فيها الشاعر ما يصبو إليه من أمنيات بدأت مع الشباب ومازالت إلى مراحل متقدمة من العمر. تلك المُنى أيضًا اختصرها في المخاطب بالضمير أنت، المفتوح على مستويات تأويلية متعددة.

أما المطلع: "أكاد أشك في نفسي لأني ... أكاد أشك فيك وأنت مني".

 فإنه على بساطته المعجمية يبدو من السهل الممتنع تركيبيًا ودلاليًا، حيث يتسم بالتوازن في توزيع الصيغ بين الشطرين حيث كرر فعل المقاربة "كاد" ليدل على نفي حصول الشك في حقيقة الأمر. وكرر الفعل المضارع "أشك" في الشطرين أيضًا الذي دل على عدم وقوع المعنى، بخلاف لو أنه قال: "شككتُ" لكانت الماضوية ثبوتًا وتحققًا للمعنى ولو لم يستصحبه الحال.

 وكذلك التقابل اللفظي والدلالي بين صيغتي شبه الجملة "في نفسي" و "فيك" حيث دل حرف الجر على الظرفية والتبطن والتسوية بين النفسين المستقلتين في عالم الحس، المتحدتين في عالم الروح والجمال والحب. ليصف الحالة بالالتحام والتماهي بقوله: "وأنتَ مِنّي" والمعنى ليس بعيد من قول الشاعر:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

                          نحن روحان حللنا جسدا

 وقصارى القول بعد هذه الرؤى الذوقية تجاه عيّنة من شعرية الأمير عبدالله الفيصل يتأكد أن العطاء الشعري للشاعر يستحق أن تتوجه إليه عناية الدارسين والنُقّاد لسبر المزيد من أغواره سياقيًا ونسقيًا، لأنه مازال عصيًّا على التجاوز الذي يطرأ على كثير من التجارب الشعري فتُنسى بذهاب الظروف التي لابستها، ولأن الرجل يمثّل سيرة تبدو متوارية بعض الشيء بالنظر إلى ما عاشت من أحداث جسام، وما عاصرت من محطات مؤثرة بالتأكيد، وعمر تجاوز الثمانين ببضع سنين. ورحم الله عوف بن مُحَلّم حين قال:

إن الـثمانـين - وبُـلِّـغْـتَها -

                    قد أحوجتْ سمعي إلى ترجمانْ

وقاربتْ مني خُطًى لم تكن

                  مُـقـاربـاتٍ   وثـنتْ من  عِـنانْ


عدد القراء: 3475

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-