الروافد الدينية في الشعر الثوري إلياذة «مفدي زكريا» أنموذجًـاالباب: مقالات الكتاب
د. غانم حميد الجزائر |
يُعدّ الشعر الثوري القلب النابض للشعر الوطني من منطلق أن الثورة الجزائرية تعتبر من كبريات الأحداث في القرن العشرين. وقد واكب هذا الشعر إرهاصات الثورة مع بدايات الحركة الوطنية، ثم تصدى لتدوين وتصوير كل ما يتعلق بها من تغنّ بالأمجاد والبطولات، ووصف للمعارك، وتمجيد لذكرى الشهداء، وتضحيات أبناء الشعب بالنفس والنفيس. والمدونة الشعرية الوطنية زاخرة بأسماء لامعة من قبيل مفدي زكرياـ محمد العيد آل خليفة، محمد الأخضر السائحي، محمد الصالح باوية، وآخرين.
غير أن مفدي زكريا 1908 ــ 1977 استأثر بكونه شاعر الثورة بلا مُنازع، حيث تخصص في هذا اللون من الشعر حتى استقل غرضًا قائمًا بذاته، تفتقت عنه قريحته، وصدعت به شاعريته.
وتعدّ إلياذة الجزائر من الأعمال الجبارة التي وثقت للجزائر عبر مسارات بدأت مع التاريخ، لتعرج عبر مراحل تعاقب الأزمان والأحداث على هذا الشعب، كان أبرز مراحلها استئثارًا بالتناول والتوقف بطولات الشعب الجزائري من خلال المقاومات الشعبية التي بدأت مع الغزو الاستعماري مباشرة وانتهاء بفترة الثورة التحريرية المباركة.
وفي هذا السياق نعرض من خلال هذه الورقة البحثية إلى دراسة مقاطع من هذه الإلياذة، متلمسين في تلك البيانات الشعرية أثر الثقافة الدينية التي اصطبغت بها شاعرية الرجل، حيث لا تكاد تخلو قطعة من ألفاظ مستقاة من القرآن الكريم صراحة، أو معان دينية مضمرة على شكل إشارات أو تصريحات، ونحو ذلك مما يمت للتراث الديني بصلة سواء أكان ذلك ظاهرًا أو مضمرًا.
لعل من أبرز دواعي اختيار الاشتغال على بعض المقطوعات من إلياذة الجزائر للشاعر الجزائري مفدي زكريا ما اتسم به هذا العمل من خصوصيات تجعله يتميز عن الكثير من النتاج الأدبي الشعري الجزائري الذي جادت به قرائح العديد من الشعراء الجزائريين الذين خصصوا للإشادة بالثورة، وتمجيد أبطالها، وتخليد ذكر شهدائها، وتصوير ملاحمها، تلك الظاهرة الأدبية التي فرضت نفسها في سجل الأدب العربي في القرن العشرين، حتى تردد صداها في شعر العديد من الشعراء المشارقة من أمثال سليمان العيسى، الجواهري، محمود غنيم، عبد المعطي حجازي ... ويمكن تحديد تلك الخصوصيات في النقاط التالية:
أ / أن مفدي زكريا نذر تجربته الشعرية للنبض الوطني عمومًا والثوري خصوصًا، حتى لم يضارعه شاعر في ذلك فاستحق بذلك لقب شاعر الثورة.
ب / أن الشاعر انخرط في الثورة ممارسة عملية، وليس مجرد خطاب لإلهاب الحماس، وتأجيج المشاعر.
ج /أن هذا المُنجَز الشعري عرف النور بطلب من أحد رفقاء الدرب المجاهد والوزير مولود قاسم نايت بلقاسم بعد عشر سنوات من استعادة السيادة الوطنية، بدأت بـ 610 بيتًا ألقاها بصوته في افتتاح الملتقى السادس للفكر الإسلامي في قاعة المؤتمرات من قصر الصنوبر، 24 يوليو سنة 1972م، حضر جزءًا منها الرئيس هواري بومدين ـ رحمه الله ـ ثم بلغ بها ألف بيت وبيتًا واحدًا. يقول مولود قاسم في مقدمة الطبعة الأولى: "... ولهذا طلبنا من المناضل الكبير، الشاعر المُلهَم، صاحب الكفاح الثوري السياسي، وشاعر الكفاح الثوري المسلح الأستاذ مفدي زكريا صاحب الأناشيد الوطنية .....أن يضع لنا نشيدًا يجمع هذه الأناشيد كلها، ويشمل فيه وبه تاريخ الجزائر من أقدم عصورها حتى اليوم .....*1
د/ ليست إلياذة مفدي أسطورة من نسج الخيال كما هو في إلياذة هوميروس التي جُمعت أشعارها بعده، بل رصد كرونولوجيا بالشعر مختزَلاً لمسيرة وطن من فجر التاريخ إلى ما بعد الاستقلال.
يقول مولود قاسم:" وسميناها إلياذة الجزائر، وإن كانت تمتاز عن إلياذة هوميروس بالفارق العملاق: فبينما هذه الأخيرة أي الإلياذة اليونانية لا تروي إلا أساطير نجد الإلياذة قد خلّدت أمجادًا حقيقية، وسطّرت تاريخ وقائع وأحداث هي من روائع الدهر، لا من خلق الجنّ، ولا من اصطناع شاعر، ولكن من صنع الإنسان الجزائري في الميدان*2
روافد الثقافة الدينية والتراثية من خلال المقطوعات الشعرية الثورية في إلياذة الجزائر:
لا تكاد تــخلو مقطوعة من إلياذة مفدي من توظيف لمفردات قرآنية أو من التراث الأدبي، وفيما يلي نورد مَسحًا نقتصر فيهَ على السياق الشعري الثوري. فالمعجم الشعري في مقاطع الإلياذة متشبع بألفاظ من القرآن الكريم خاصة ينداح عفويًا عن قريحة الشاعر دونما تكلف أو تمحّل حيث تُنزل اللفظة منزلها المتناغم مع اختيارها له، كما أنها تشي في المُضمر على المستوى البنية العميقة إلى أن الشاعر يؤطر بلاغاته عن الجزائر جمالاً وجلالاً بإطار ديني قرآني يجعله عنوانًا لهوياتها، وترجمانًا عن أصالتها. وفيما يلي نورد المواضع وقفنا فيها على ذلك:
في المقطوعة الثامنة: ص28
عرجنا ننافح باينام ضُحًى
كأنّا اغتصبنا لهامان صَرْحا
الآية: (وَقَال فِرۡعَوۡنُ يَٰهَٰمَٰنُ ٱبۡنِ لِي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَبۡلُغُ ٱلۡأَسۡبَٰبَ)3
ويلتف ساق بساق، فنصبو
فيغمرنا ملتقى الفكر نُصحا
الآية: (وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ)4
يتيه به النجمُ بين النجوم
دلالا فيُطلِع في الليل ُصبحا
في البيت جناس بين النجم وهو النبات الذي لا ساق له، وبين نجوم السماء.
الآية: (وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ)5
والبيت يتناصص مع قول الشاعر ابن مليك الحموي:
أراعي النجمَ في سيري إليكم
ويرعاه من البَيْدا جَوادي
ـــ في المقطوعة التاسعة: ص 27
ومِلءَ سراديبها الكافرات
تُصاغ قراراتنا الرافضة
لفظ "الكافر" بمعنى الذي يُغطّي ويستر، وفي الآية:
(يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ )6
في المقطوعة ص 28:
وسوستال بالرعب طار شعاعًا
فغصّ، وما اسطاع يبلع ريقه
يقول قطري بن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شَعاعا
من الأبطال: ويحَك. لن تُراعي
المقطوعة ص 31:
شريعتُنا كجلال الشريعهْ
كمالاتها راسخة ضليعه
الآية: (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ )7
المقطوعة ص 32:
تسلّقْ إيعكّورن واغزُ السُّهى
وطاولْ به سدرة المنتهى
الآية: (عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ)8
المقطوعة ص 36:
وأخرجت الأرض أثقالها فطار بها العلم فوق الخيالْ
الآية: (وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا )9
المقطوعة ص 62:
وتهدي النفوسَ الصراط السّويّ
وتغرس فيها معاني الإباء
الآية: (قُلۡ كُلّٞ مُّتَرَبِّصٞ فَتَرَبَّصُواْۖ فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ أَصۡحَٰبُ ٱلصِّرَٰطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ)10
المقطوعة ص 63:
جزى الله عنّا الشدائدَ خيرا...
قال الشافعي:
جزى الله الشدائد كل خير
وإن كانت تُغصّصني بِريقي
المقطوعة ص 66:
ولم ننس في أربعين وخمس
ضحايا المذابح في يومِ نحس
الآية: (إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِي يَوۡمِ نَحۡسٖ مُّسۡتَمِرّٖ)11
المقطوعة ص 68:
متى نزلتْ ثورة من سماء
نزول المسيح ـ عليه السلام ـ
المعنى مستلهم من الحديث الذي يذكر نزول المسيح ـ عليه السلام ـ بين يدي الساعة
المقطوعة ص 69:
تأذّن ربــك ليلةَ قــــدرِ
وألقى الستار على ألفِ شهر
الآية: (وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِۗ)12
الآية: (وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ) 13
المقطوعة ص 69:
وذكّرْتناـ في الجزائر ـ بَدْرا
فقمنا نُضاهي صحابة بدرِ
بدر. وصحابة بدرِ: عبارات مستقاة من التاريخ الإسلامي
المقطوعة ص 70:
نُفَمبرُ. جـلّ جــلالُك فــيـنا
ألستَ الذي بثّ فينا اليقينا؟
جلّ جلالُك: انزياح دلالي للمبالغة والتعظيم. فعلى الحقيقة لا يُخاطب به إلا الله تعالى.
الآية:(تَبَٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِي ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ)14
المقطوعة ص 73:
وفــار بتنُّورهـا كاربُنـالُ فأصبح كاربون حمّامها
الآية: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ)15
المقطوعة ص 76:
ومأوى المناجيد من أرضنا وأرض عشيرتنا الأقربين
الآية: (وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ)61
المقطوعة ص 77:
تبارك شعبٌ تعدّى العنادا
فصام وأضرب سبعا شدادا
الآية: (وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا)71
المقطوعة ص 80:
وكان الفرنسيس صُمّا وبُكما
وعُميا، فأصغى لنا مَن تمارى
الآية: (صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ)81
المقطوعة ص 81:
وقلنا وقالت لنا الكائنات
ذوا حِذركم واثبتوا، فثبتْنا
الآية: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا)19
المقطوعة ص 100:
تجادل في الحق بالشبهات
وإن حصحص الحقُّ جاء بإفك
الآية: (ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ)02
المقطوعة ص 101:
غرابيب سودٌ تجيد النعيق
وتختال في مشيها كالزرافه
الآية: (أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٖ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ)21
المقطوعة ص 103:
ولا أن يُعالج فينا المريض
وتُهتك في أصغريه العقيدهْ22
الهوامش:
1 ـ إلياذة الجزائر، مفدي زكريا، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1987 م، ص 9
2 ـ المصدر السابق، ص 12
3 ـ غافر، 36
4 ـ القيامة، الآية 29
5 ـ الرحمن، 6
6 ـ الفتح. الآية 29
7 ـ الجاثية، الآية 18
8 ـ النجم، الآية 15
9 ـ الزلزلة، الآية1
10 ـ طه، الآية 35
11 ـ القمر، الآية 19
12 ـ الأعراف، الآية 167
13 ـ إبراهيم، الآية 7
14 ـ الرحمن، الآية 78
15 ـ هود، الآية 40
16 ـ الشعراء، الآية 214
17 ـ النبأ، الآية 12
18 ـ البقرة، الآية 18
19 ـ النساء، الآية 71
20 ـ يوسف، الآية 51
21 ـ فاطر، الآية 27
22 - من حِكم الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدب المناسبات بين التوثيق والإمتاع
- اللامعنى... أو الجناية على الراهن الإبداعي
- الاستهلاك بين الاقتصاد والأدب
- من وحي سورة الرحمن
- «سَكَنَ الليل»... نوستالجيا الزمن الجميل
- الروافد الدينية في الشعر الثوري إلياذة «مفدي زكريا» أنموذجًـا
- البُعد الروحي في شعرية محمد العيد آل خليفة
- خطاب البوح في التجربة الشعرية لعبدالله الفيصل «ثورة الشك» نموذجًا
- التوظيف الدلالي للريح في الشِّعر العربي القديم
اكتب تعليقك