أشينو أتشيبي أيقونة السّرد الأفريقيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 09:07:25

شوقي بدر يوسف

ناقد من الإسكندرية

الأدب الأفريقي أدب يحمل سمات الغوص في الذات السمراء، الإنسان، الأرض، الأحداث، ويتناول الكشف عما وطن فيها من أعمال إبداعية تبرز وتجسد الشخصية الأفريقية بسماتها الأثنوجرافية الحاملة في طياتها موروث ثقافي شفاهي غنى بالنشاط الإنساني بأشكاله المتنوعة، السمات، والمكان، والطبيعة في كل بلدان القارة السمراء، ويكشف عن التعدين والتنقيب والبحث في هذه المنطقة البكر من إبداعات القارة السمراء منذ أربعينيات القرن الماضي، أنها قد أبرزت وكشفت عن أسماء قدر لها أن تعطى للبشرية والإنسانية لآلئ من الفكر والأعمال الإبداعية الخالدة، ففي إنجلترا وفرنسا على سبيل المثال أخذت الكتابات الأفريقية تتوالى، الواحدة تلو الأخرى، وزادت خصوبة المنجز الأفريقي حتى لا يكاد يمضى شهر دون أن يقدم "الملحق الأدبي للتايمز" عددًا من الأعمال الأفريقية من روايات وقصص قصيرة ومجموعات من القصائد المختارة، أنتقل بعدها اهتمام العالم بهذا الأدب في حداثته الآنية في كل من أمريكا وروسيا وسائر البلدان، كما قدر لهذا الأدب أيضًا أن يكون أحد العوامل المؤثرة في تحرير القارة من أغلال الاستعمار، وبدء حركة من التحرر انتشرت في أنحاء القارة كالنار في الهشيم من أقصاها إلى أقصاها حتى أصبحت قارة أفريقيا الآن لأصحابها الحقيقيين. إلا أن هناك أسماء إبداعية عدة من أصحاب الفكر والقلم كانت وراء هذا الجهد الخلاق، كان لهم قدر كبير من المواقف المهمة في حركة التحرر الإفريقية أبرزهم كان فرانز فانون صاحب كتاب "معذبو الأرض" والمقولة الشهيرة القائل فيها أنه "لا يكفي تحرير الأرض، بل لا بد من تحرير العقول"، والشاعر السنغالي الرئيس ليبولد سنجور عاشق إفريقيا وفيلسوف أدب الزنوجة الذي تخلى عن منصب الرئاسة طوعًا لا كرها ليتفرغ لإبداعاته الشعرية والفكرية والفلسفية الحاضرة على مستوى القارة والعالم، كذلك شاعر إفريقيا إيميه سيزار أحد مؤسسي حركة الزنوجة وإطلاقها في شعره، وصاحب النضال الكبير للتحرر من ربقة الاستعمار الفرنسي، ووول سوينكا أول من حصل على جائزة نوبل للآداب في القارة السمراء، والروائي الكيني الكبير واثينغو نجوجي، والروائي النيجيري أتشينو أتشيبي صاحب وأبرز الأعمال الإبداعية التي كانت ثلاثيته الروائية عن أفريقيا هي التي وضعته على خريطة السرد العالمي بامتياز والتي بدأت برائعته الروائية "الأشياء تتداعى" وهي الرواية التي تمثل أيقونته السردية في المشهد الروائي الأفريقي المعاصر، هي بلا شك رائعة الروائع في المشهد السردي الأفريقي، بل إنها تعتبر علامة مهمة في الرواية العالمية، نظرًا لتناولها ظاهرة الاستعمار الأوروبي لأفريقيا وتداعيات ما بعد الكولونيالية، والتي قال عنها الزعيم الإفريقي "نيلسون مانديلا" : "مع روايات أتشيبي تنهار جدران السجون"، كما قالت عنه الروائية الجنوب أفريقية "نادين جورديمر" عندما كانت من المحكمين في جائزة البوكر مان الدولية عام 2007: "إنه يمتلك موهبة متألقة وعظيمة، ومفعمة بالحماس والثراء الإبداعي". كما اعترفت الروائية الأمريكية توني موريسون ذات الجذور الأفريقية: "بأن أتشيبي هو الذي أضرم علاقة الحب بينها وبين الأدب الأفريقي الذي كان له أثر كبير وانعكاس لافت في كتابتها". وقد استوحى أتشيبي عنوان روايته Things Fall Apart من قصيدة "المجيء الثاني" للشاعر الأيرلندي "ويليام بيتلر ييتس الذي يقول فيها:

الأشياء تتداعى

المركز لم يعد في استطاعته التماسك

 الفوضى الشاملة تعم العالم

يلتف الصقر، ويلتف بدولاب الأكوان

بحركات متباعدة في الدوران

تتداعى الأشياء

والمركز لا يقدر أن يمسك بزمام الأجزاء

الفوضى الشاملة تعم العالم

ينفلت فيها المد الدموي في كل الأنحاء

لا شك أن هذه المعاني الشاعرية المكثفة في معطياتها التأويلية، ودلالة مضامينها تعطي انطباعًا كبيرًا عما انعكس على عقل وقلب الكاتب الشاب أتشينو أتشيبي عندما قرأ هذه الأبيات الشعرية لشاعر أيرلندا الكبير "ييتس" وتجاوب مع مضمونها وغاص في معانيها ومعطياتها وهو يرى وطنه وقارته السمراء جميعها ترزح تحت القوى الاستعمارية المختلفة، تسرق ثرواتها، وتضطهد ويستعبد ابنائها، وتعيث القوى الاستعمارية والرجل الأبيض في أرضها الفساد والطغيان، ومن ثم بدأت أفكار أتشيبي تتداعى لتصل إلى بؤرة الواقع الذي يعيشه أبناء وطنه بل أبناء الوطن الكبير في القارة السمراء فبدأ وهو في سن يافعة مبكرة يكتب هذه الأشياء التي تتداعى حوله من خلال عالم داخلي انعكست خطوطه العريضة على فكره ورؤاه عندما رأى وقرأ عن المستعمر الذي يصول ويجول في بلده، وفي سائر الأنحاء داخل القارة السمراء فبدأت حينئذ هذه "الأشياء تتداعى" في عقله وقلبه، وبدأت مرحلة من الكفاح بشتى الأساليب تنتشر في جميع الأنحاء، ومن ثم الكتابة بلغة هذا المستعمر حتى يصل صوته إليه من أقرب نقطة يستطيع منها أن يصل صوته إليها، وهى نقطة الإبداع الروائي المتفجر الخلاق، حتى حقق في ذلك الكثير من الأمجاد التي لا زالت تجسد روح هذا الكاتب الكبير بروايته الرائعة "الأشياء تتداعى" وقد ترجمت هذه إلى الرواية العربية أكثر من ترجمة، الأولى كانت عام 1971 قامت بترجمتها الدكتورة أنجيل بطرس سمعان وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر بالقاهرة، أما الترجمة الثانية فقد قام بها سمير عزت نصار وصدرت عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع بعمّان/الأردن عام 2002، والثالثة قام بها عبدالسلام إبراهيم وصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام 2014، ثم تتواتر أعمال أشينو أتشيبي الروائية. وكان أول إصدار لها في انجلترا عام 1958 بعد بعض المحاولات في كتابة القصة القصيرة، ولاقت الرواية نجاحًا كبيرًا في ذلك الوقت شجعه على المضي في رحلته الروائية الموفقة في هذا الفن الصعب. فبعد عامين تلاها بأخرى كان قد جعلها جزءًا ثانيًا للأولى، وهى "لم يعد ثمة راحة" No Longer at Ease، وفي عام 1964، ظهرت روايته الثالثة بعنوان "سهم الله" Arrow of God، وبعد عامين آخرين صدرت بروايته الرابعة "رجل الشعب" A Man of the People، وفي ذلك العام 1966 ترك العمل بالإذاعة، بعد حوادث القتل التي تعرض لها أبناء قومه الإيبو Ibo وعاد إلى شرق نيجيريا". وبعد فترة ليست بالقصيرة صدرت له رواية "كثبان نمال السفانا". وهي العمل الأخير في مسيرة أشينو أتشيبي الروائية، والتي اختلفت في الشكل والمضمون عن أعماله السابقة.

الرواية وتداعى الأشياء

تدور أحداث رواية "الأشياء تتداعى" حول هزيمة الحضارة الإفريقية أمام الغزو الأوروبي للقارة التي كان يطلق عليها القارة السوداء في ذلك الوقت، حيث تدور الأحداث في المنطقة الشرقية من نيجيريا في منطقة "أوموفيا" المكونة من تسع قرى ينتمى سكانها إلى قبيلة "الإيبو" وهى قبيلة الكاتب، وفيها يقدم أتشيبي صورًا وأحداث ومشاهد مأسوية واقعية من الأنثربولوجي الخاص بسكان هذا المكان، حين تنهار طقوس حياتهم، وعاداتهم، وفانتازيا مقدساتهم بفعل الإنسان الأبيض القادم من الشمال ليوطد أقدامه داخل القارة ويحطم الأسطورة الأفريقية القديمة القائمة على التخلف والتأخر، حيث حلل الكاتب كل هذه الأمور في معتقدات أهل القبيلة - من الأيبو - حول أساطيرهم وطقوس الزواج والموت والسحر وكافة ما يمارسه أهل القرى المحيطة من خلال معتقداتهم الراسخة منذ قرون عدة. ويتضمن نسيج الرواية الكثير من هذه الطقوس وطبيعة الأعمال المتمثلة في طبول الحرب ونداءات الكهنة المنذرة بالخطر، ومباريات المصارعة التقليدية المقامة في القرى، والفرح عند سقوط الأمطار وأعمال الزراعة، والصيد وأفراح الزواج والموت، وسط هذا الكرنفال الأفريقي الممتلئ بالمخاوف والأشباح والرموز يعيش (أكونكور) الشخصية المحورية في الرواية وسط قبيلته في تناغم ذاتي، رغم الغرابة المنطوية عليها الشعائر الدينية والممارسات الطقسية والتي أصبحت شيئا مألوفا في أيام سكان القرية، الجميع يؤمن بالمجهول والقوى الخفية المتحكمة في عقولهم وإرادتهم، حيث يقوم الكهنة الذين يستطيعون بما يبثوه من خرافات أن يتحكموا في الجميع. وسط هذا المناخ الأنثروبولوجي المكوّن لسيرة الإنسان وحياته في هذا المكان، يداهم المكان الخطر الأبيض المتمثل في المستعمر البريطاني الذي أحتوى المكان بقوته، وسطوة جبروته، وسلطته الاستعمارية الغاشمة، يسرد أتشيبي هذه الملحمة من خلال بطل روايته "أوكونكو" الرجل صاحب الشخصية والبنية القوية والرؤى النبيلة السامية في القرية والذي استطاع أن يكون لنفسه في هذا المكان شخصية وكريزما خاصة به بعد أن هزم بطل المكان في المصارعة وطرحه أرضًا أمام الجميع، والذي يكافح ضد الإرث المهين الذي تركه له والده العاطل المديون، من خلال إجادته العزف على الناي، كانت شخصية أكونكو شخصية متناقضة فهو ليس مجبولاً على القسوة ولكنه متهورًا في بعض الأحيان، فيضرب إحدى زوجاته في مناسبة يحرم فيها الضرب، ويطلق الرصاص على زوجة أخرى فيكاد يقتلها، بل يقتل صبيا كان قد عهد له برعايته انتظارًا لأوامر الكاهن فيما يقرر في مصيره كما تقضى التقاليد، ثم يقتل أحد أبناء عشيرته برصاصة طائشة من بندقيته، لهذا كله يعاقب أكونكو بالنفي سبع سنوات بعيد عن قبيلته، فيلجأ أكونكو إلى قرية عشيرة حماته،  ويقضى عقوبته راضيًا، لأن هذا هو القدر الذي لا بد من المثول لقضائه. وقبل انقضاء سنين العقوبة يعود إلى قريته فيجد أولى طلائع المبشرين المسيحيين قد أقاموا الكنائس، وعسكروا داخل القرية. فيثور حتى يقتل جندي أسود بعثه المأمور الأبيض لإيقاف اجتماع العشيرة رآه وهو ينحني لرئيسه الإنجليزي الأبيض فقتله وفضل أن يشنق نفسه على ألا يحاكم أمام محكمة انجليزية هو يعرف مسبقًا نتيجة حكمها، وأمام هذا الموقف المتداعي في شكله ومضمونه سرعان ما وجد أوكونكو نفسه وحيدًا في هذا الصراع فقد انقسمت القرية وتداعت الوشائج والروابط القبلية في هذا الوقت. وفي غمرة هذا الإحباط والفشل الذي تمثل أمامه يشنق نفسه كأحد الشخصيات المأسوية التي تذكرنا بالشخصيات التراجيدية في الأساطير الإغريقية اليونانية.

ولا شك أن التداعي الذي طال العالم الداخلي لشخصية النيجيرى أوكونكو وتحول أبنه نحو المسيحية. وتشدده في أحكامها وطقوسها الخاصة نتيجة البعد التبشيري الذي انتشر في جميع الأنحاء وتداعى الممارسات الناجمة عنها، وهو أحد نتائج السقوط وحدوث شرخ في عالم أوكونكو النفسي، حيث طال البعد التبشيري أسرته من الداخل، ومن ثم طال هذا البعد الزمن وقبيلة (الأيبو) بل والوطن في أدق معطياته الأنثربولوجية، وكان حارس المحكمة الذي قتله أوكونكو يمثل حلقة الوصل بين الإفريقية والاستعمارية والصراع المحتدم بينهما في هذا الخصوص.

أتشيبي وحياته

ولد أشينو أتشيبي في السادس عشر من نوفمبر عام 1930 وأسمه بالكامل هو ألبرت تشينو لموجو – وهو عبارة عن دعاء لطلب الحماية والاستقرار - في أوجيدي، على بعد بضعة أميال شمال شرق أونيتشا بنيجيريا، كان أبوه مسؤولاً عن كنيسة القرية، وقد تعلم أتشيبي في مدرسة الإرسالية التبشيرية مما منحه حق الاستفادة من الدخول إلى كلية الحكومة في أومواهيا عام 1944. التحق أتشيبي بكلية الجامعة في أيدان عام 1948، وتخرج عام 1953 والتحق للعمل بالإذاعة النيجيرية عام 1957 وتدرج في عمله حتى أصبح مديرًا للخدمات الخارجية والمسؤول عن صوت نيجيريا في إذاعة لاجوس العاصمة. منح العديد من الجوائز منها جائزة روكفلر التي مكنته من السفر كثيرًا في شرق ووسط أفريقيا عام 1960، وجائزة يونسكو للسفر ودراسة النزعات الأدبية عام 1963 مما أهله للسفر إلى الولايات المتحدة والبرازيل وبريطانيا. تزوج أتشيبي من إحدى زميلاته بإذاعة نيجيريا وهي التي سبق أجرت معه حوارًا إذاعيًا تحدثت فيه لأول مرة عن تفاوت الأحور وأنها تحصل على راتب أقل مما تستحق، وعندما مرضت وجدت أتشيبي يقوم بزيارتها ومعه الكثير ممن الهدايا والمجلاتـ ونمت بينهما علاقة عاطفية انتهت بالزواج في الأول من ديسمبر عام 1961 ورزقا بثلاثة أولاد، ولما كان أتشيبي مرتبط ارتباطًا كبيرًا بأسرته فقد اهتم نتيجة ذلك بأدب الطفل وأصدر في ذلك ثلاث إصدارات حول هذا الأدب. أصيب شينوا في حادث سيارة في نيجيريا عام 1990، وأصبح يتحرك على كرسي متحرك، وأعتقد أن هذا الحادث كان مدبرا نتيجة آرائه السياسية والاجتماعية الشجاعة في نقد وتعرية وإدانة الأوضاع الاجتماعية والسياسية في نيجيريا، مما ألب عليه رجال السلطة والمناوئين له، فقد كان أتشيبي شخصية متمردة في حياتها وقراءاتها وكتاباتها وفي كل أحوالها، وكانت رؤيته للحياة تصب في ممارسات هذا التمرد. والدليل على ذلك رفضه لعدة جوائز سبق أن منحتها له السلطة النيجيرية منها جائزة  الرئيس النيجيري جودلاك جوناثان في نوفمبر 2011 بسبب عدم معالجته المشاكل السياسية في بلده وقد رفضها أتشيبي بسبب عدم قيام الحكومة النيجيرية بعدة إصلاحات لإصلاح أحوال البلاد المتردي،  وكان أتشيبي قد رفض جائزة مماثلة لنفس الأسباب عام 2004 حين منحه رئيس البلاد في ذلك الوقت "أولو سسيجون أوباسانجو" لقب "قائد الجمهورية الإتحادية" تكريمًا لأعماله الإبداعية التي رفعت أسم نيجيريا عاليًا. إلا أنه حصل على جائزة مان بوكر عام 2007، وجائزة السلام الألمانية.

أتشيبي الهوية والانتماء

نشأ أتشيبي في مستعمرة نيجيريا البريطانية، لذا كانت هويته ككاتب تأخذ عنوانها من التأشيرة المطبوعة على جواز سفره فعندما سافر لأول مرة خارج بلده عام 1957 للالتحاق بمدرسة كوادر بي بي سي البريطانية في لندن، كان جواز السفر يقرأ فيه عبارة "شخص تحت الحماية البريطانية" ويقول شينوا: إنها كانت حماية مستبدة. حيث كانت المدارس التي تعلم فيها تفرض عليه قراءة الروايات الكلاسيكية الإنكليزية التي تتناول موضوعات عن أفريقيا، ومن ثم كتب أتشيبي عن هذه التجربة بقوله "لم أكن أرى نفسي أفريقيا في تلك الكتب، كنت انحاز إلى جانب الرجل الأبيض ضد الرجل الأسود وكانت هذه الأعمال تصور الرجل الأبيض رجلاً طيبًا، ذكيًا وشجاعًا، لكن عند بلوغي السن المناسبة، حان الوقت لكي أدرك أن أولئك الكتّاب كانوا يعيشون معي، لم أكن على ظهر مركب مارلو الذي يبحر في نهر الكونغو في رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد". وإنما كنت شبيهًا بتلك المخلوقات المنفرة التي تتقافز على ضفة النهر وتفعل بوجوهها أشكالاً قبيحة، لقد ضاق صدري بما قرأته في "قلب الظلام" لقد كان كونراد يتحدث عن الأفارقة وكأنهم وحوشًا بأرواح بدائية. وحول هذا الموضوع وجه سؤال في إحدى الحوارات حول رؤيته فيما جسده الكاتب الإنجليزي "جوزيف كونراد" في روايته "قلب الظلام" يقول محاوره: مقالتك الأحدث عن الرواية الكولونيالية تتناول فيها رواية كونراد "قلب الظلام"، هل تظن أن صورة أفريقيا قد تبدلت في العقلية الغربية منذ أن نشرت مقالتك تلك؟. وقد أجاب أشينوا بقوله: "أظن أنها تغيرت قليلاً ولكن ليس كلية، وبخاصة في اساسيات الصورة، وعندما أفكر في موقف وأهمية وسعة معارف كل هؤلاء الذين لا يرون أي ملمح من العنصرية في رواية (قلب الظلام) أزداد قناعة فوق قناعة بأننا نعيش في عالمين مختلفين بالكامل، قد يظن البعض أني أقول: لا تقرأوا كونراد!! وهذا ليس صحيحًا أبدًا، فأنا اليوم أدرس برنامجًا دراسيًا عن كونراد وروايته (قلب الظلام) كل ما أقوله هو: انظروا كيف يتناول هذا الرجل الأفارقة في روايته تلك، ثم قولوا هل تجدون أية ملامح إنسانية فيها؟ قد يقول قائل إن كونراد كان دومًا معارضًا للإمبريالية، ولكن هل ثمة من معنى وهو المعارض المفترض للإمبريالية أن يصف الأفارقة بأنهم "كلاب تقف على قوائمها الخلفية". ورواية (قلب الظلام) هي الرواية التي كتبها الكاتب البولندي جوزيف كونراد عام 1899 بعد رحلة قسرية في منفاه في الكونغو قلب القارة الأفريقية كتبها بعد أن عايش معايشة كاملة للمستعمر الأوروبي وهو ينهب ثروات البلاد من العاج ويدفع بالإنسان الأفريقي إلى صفوف العبيد المرحلين إلى المستعمرات للخدمة هناك كحيوانات. والذي صورهم في روايته (قلب الظلام) واستفز بمقولته العفوية رؤية أتشيبي حول دلالات هذه العمل الروائي الكوليونيالي.

أتشيبي وروايته "لا راحة بعد اليوم"

تدور أحداث هذه الرواية التي تعتبر الجزء الثاني من "الأشياء تتداعى" والمتصلة بها من نواح عدة، وكما استوحى أتشيبي عنوان روايته الأولى من شاعر أيرلندا الكبير ييتس، أستوحى عنوان روايته الثانية "لا راحة بعد اليوم" من قصيدة ت. س. إليوت "الأرض اليباب"، وهى رواية دائرية تبدأ من النهاية حتى تصل بأحداثها إلى بداية الرواية، وهى تدور حول "أوبى" الموظف الشاب المثقف والمتورط في قضايا فساد بالعاصمة لاجوس وهو بحسب الرواية حفيد "أكونكو" بطل رواية "الأشياء تتداعى" وهو الوحيد من العائلة الذي تعلم تعليمًا غربيًا، والذي يحاكم بتهمة استغلال وظيفته في التربح وقبول رشاوى، وشخصية أوبى تمثل الجيل الجديد في نيجيريا ونظرًا لتفوقه فقد أقرضه حزب الاتحاد القومي بقريته (أوموفيا) بعض المال لإكمال دراسته في إنجلترا وهناك يزداد احتكاكا بالغرب، وفي طريق عودته، وعلى ظهر الباخرة يتعرف إلى كلارا مواطنته الشابة التي درست التمريض في إنجلترا، وتتطور العلاقة إلى حب غامر، وفور عودته يحصل أوبى على وظيفة مغرية، إذ يعين سكرتيرًا لهيئة البعثات الحكومية في لاجوس، ويبدى مثالية واستقامة في عمله، ولكنه سرعان ما يسقط فريسة للديون، فقد حل موعد سداد قرض الحزب، وتكاثرت ضرائبه ومشترياته الآجلة، وتزايدت نفقاته على خطيبته كلارا، وتصبح علاقته بها عبئًا ماديًا ونفسيًا يثقل كاهله، علاوة على أنها في عرف قومه وعشيرته من المنبوذين لأنها تنحدر من طائفة العبيد، فضلاً على أن الحزب والأسرة غير موافقان على هذه العلاقة الشاذة، كما إن أمه كانت تهدده بالانتحار في حالة زواجه من هذه الفتاة، وتتراكم الضغوط على أوبى، وترغمه الظروف وحاجته الشديدة للمال في مثاليته وقبول الرشوة حتى ينتهى به الحال إلى السجن. يجسد أتشيبي في هذه الرواية التحديات الاجتماعية التي تواجه الجيل الجديد من النيجيريين المواجه للصراع القائم نحو استقلال نيجيريا، وتجسد الرواية كيف أن أوبى كان واقعًا تحت تأثير وتوقعات أهله له، وتوقعات عشيرته وأهل قريته بل ومجتمعه كله، وتدمر هذه التحديات جميعها مستقبله بقيم بالية وموروث لا قيمة له الآن في هذه الحياة، كما دمرت جده الأكبر أوكونكو، ليجد نفسه في النهاية مسجونًا بتهمة الرشوة، وقد صور أتشيبي تصويرًا رائعًا المشاهد الواقعية وللحياة القبلية والممارسات التقليدية للواقع في لاجوس، كذلك أظهر مهارة في وصف الحياة النيجيرية الحديثة، ورسم شخصية أوبى في عدم تكيفّه مع الواقع الاجتماعي الذي لا زال يرزح تحت موروث اجتماعي لا زال حتى الآن قبليًا وغير قابل للتطور، في ظل سيطرة استعمارية تنخر بفسادها من الناحية الأخرى في قلب المجتمع النيجيري الصاعد.

"سهم الله" وظاهرة التبشير

تدور رواية "سهم الله" حول موضوع ظاهرة التبشير، ووقعه على شعب الأيبو الوثني، والتأثير الكبير الذي باشرته الجماعات التبشيرية على مناطق بعينها في القرى النيجيرية في شرق نيجيريا، تحكي الرواية قصة حياة رئيس كهنة قبيلة الأولو ويدعى "أوزولو" الذي يحاول تعزيز سلطاته الكهنوتية على القرويين في المنطقة، فيتصدى للوفاق وإيقاف حرب نشبت بين قبيلته وقبيلة مجاورة لها، في الوقت نفسه يتدخل المأمور الإنجليزي لإيقاف هذه الحرب فينجح في ذلك بينما يفشل أوزولو في مسعاه، ويشعر بالمهانة لذلك كما يحس بأن قوة دهاء المستعمر الإنجليزي أقوى من قدرته على فرض ما يريد أن يفعله لعشيرته وقبائل المنطقة كلها، فينجح الإنجليز في توطيد أقدامهم بينما تأثير أوزولو على المنطقة قد أصبح ثانوي في تلك الأثناء على الرغم من معرفته لقوانين القبيلة وأسرار عاداتها وتقاليدها وجهل الرجل الأبيض بها، ويشعر أوزولو بالمرارة، وبالرغم من ذلك دفع أوزولو أبنه ليتعلم علوم ومعارف الأجانب ويدرس أحوالهم، وطريقتهم في الحياة، بأن دفع به لمدرسة المبشرين ليدرس أسرار الذكاء الكامن في عقل الرجل الأبيض خاصة بعدما صدم من قوة التدخل البريطاني المدهشة في المنطقة التي تعيش فيها قبيلته، ويزداد الطين بلة بالنسبة للكاهن أوزولو بأن يعتنق أبنه المسيحية، ويزدرى ديانة والده بل ويحاول أن يقتل الثعبان المعبود من قبيلته، ويؤدى ذلك إلى صراعات عنيفة داخل الجماعة، خاصة مع أزولو نفسه، الذي يقوده عناده وزهوه بقوة قومه إلى مقاومة المستعمر الإنجليزي، مما يؤدى ذلك إلى إلحاق الخراب به وأسرته وقومه. وكما هو الحال مع "أوكونكو" في رواية "الأشياء تتداعى" ومع "أزولو" في رواية "ليس مطمئنًا" وتنتهى النهاية في هذه الرواية نهاية تراجيدية بمقتل أزولو، الشخصية المركبة الذي يصر على أنه لن يقبل التغيير وفي نفس الوقت يصر على أن يتعلم ابنه علوم الرجل الأبيض، فما دام الجميع هناك فلا بد من ذلك لذا فهو يقول لابنه في نهاية الرواية: "إنه لأمر يستحق المديح أن يكون الإنسان شجاعًا مقدامًا يا بني، ولكن من المستحسن أحيانًا أن يكون الإنسان جبانًا، فكثير ما تقف في بيت الجبان لنشير إلى ركام البيت، كان يعيش فيه رجل شجاع إن الرجل الذي لم يخضع لأي شيء في حياته سرعان ما يخضع لنعش يحمل فيه" ص 12. وبانتهاء هذه الرواية تكتمل الثلاثية الإفريقية التي كتبها أشينو أتشيبي بسلسلة من المآسي التي لحقت بالإنسان الأسمر في ثلاث دورات نصية سردية شكلت ملحمة روائية عن نيجيريا الوطن، والإنسان، والأحداث وهي على التوالي: "الأشياء تتداعى"، "لا راحة الآن"، "سهم الله".

"ابن الشعب" وهوية الانتماء

بعد ثلاثيته القبلية التي كتبها أتشيبي عن الإنسان الإفريقي ومحاولاته الدائمة في الاستقلال النفسي والمعنوي في الثلاث روايات الأولى، يتجه في روايته الرابعة "ابن الشعب" والتي صدرت في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، بعد استقلال نيجيريا بأربع سنوات، يتجه إلى تقديم رؤية عن أبن الشعب الذي يسعى دائمًا إلى التحرر، خاصة في قارة عملاقة بحجم إفريقيا ثرية وعميقة التاريخ والتراث، إضافة إلى تصدرها المجد في النضال الإنساني في سبيل التحرر من الاستعمار وما خلفه من قسوة التمييز العنصري والتغريب، مما كان سببًا في ثقل الشخصية الإفريقية، لذا كانت الرواية الأفريقية المعاصرة تحمل في سمتها ملامح وظلال السمت السياسي والاجتماعي في أنسجتها المختلفة، وهو ما نجده في رواية أبن الشعب الذي تعتبر من الروايات التي تحمل هذا السمت. وهي تختلف عما سبقها من أعمال روائية لأتشيبي حيث تدور أحداثها بطريقة هجائية ساخرة في إحدى الدول الأفريقية التي حصلت على استقلالها مؤخرًا، ولم يسم أتشيبي أسم هذه البلد، هو يقصد بطبيعة الحال بلده (نيجيريا). تدور حول إحدى المعلمين الشبان ويدعى "أوديلى سامالو" من قرية تدعى "أناتا" والذي كان تلميذا للسياسي شبه الأمي الجاهل "نانجا" الذي وجد نفسه فجأة وزيرًا للثقافة لبلده المستقل حديثًا، وبالرغم من المثالية التي كان يتسم بها "أويدلى" يرزح تحتها فإنه كان يعتقد أن "نانجا" قد يفلح في العبور بوزارته إلى بر الأمان ويستفيد وطنه من السياسة الثقافية الجديدة له، - وهو أمل كبير كان يحلم به أتشيبي في معايشته للعهد الجديد لنيجيريا في ذلك الوقت - ولكن "نانجا" يصدم عند سماعه لإحدى خطب رئيس الوزراء الذي حذر فيها من الشباب الذين تعلموا في الخارج وتأثروا بالحياة الغربية بقوله "لن يحدث أن نعهد بمصيرنا ومصير إفريقيا إلى الطبقة المهجنة، من المثقفين المتحذلقين المتعلمين في الغرب، الذين لا يترددون عن بيع أمهاتهم مقابل طبق من الحساء واللحم". وعلى الرغم من ذلك يخوض أوديلى الحياة الجديدة مع أستاذه نانجا وزير الثقافة في الحكومة الانتقالية لهذه البلد، ويتماهى في حياته الجديدة بأن يعيش حياة البذخ واللهو في العاصمة لاجوس، ويغوص في الحياة السياسية بما فيها من صراعات وكثير من المتناقضات حتى يقدم على أن يرشح نفسه خصمًا لأستاذه "نانجا" في انتخابات البرلمان، ويكتشف مثل ما اكتشف "أكونكو" في " الأشياء تتداعى"، و"أوبى" في رواية "ليس مطمئنًا"، و"أوزولو" في رواية "سهم الله"، أن الحياة لا تساوى هذه الصراعات والمتناقضات التي نعيشها، فقد خذله الحزب الذي ينتمى إليه، وأن رئيس الحزب نفسه لا يفرق بين المصالح الشخصية والمبادئ التي ينادى ويتشدق بها أمام الجميع، وعندما ينجح "نانجا" في الانتخابات ويتم مصرع رئيس الحزب بسيارة رئيس حزب آخر معارض له، يعتدى أنصار "نانجا" على "أوديلى"  بالضرب المبرح وينتهى به المآل إلى المستشفى، وعلى فراش المرض يسمع نبأ وقوع انقلاب عسكري والقبض على "نانجا" واعتقاله.

كثبان نمل السافانا

في روايته الأخيرة "كثبان نمل السافانا" وهى رواية تدور أحداثها حول بلد يسيطر عليه انقلاب عسكري، وكما في رواية "أبن الشعب" نجد السمات السياسية تتحلق حول محاور الرواية وأحداثها المختلفة، كما نجد أن أتشيبي هذه المرة قد أطلق على هذا البلد اسم "كانجان" كناية عن بلده نيجيريا، يحكم هذا البلد  شاب أرعن جاهل تعلم في مدرسة ساندهيرست العسكرية الإنجليزية المعروفة، كان قد قام بانقلاب ساعده فيه صديقين مدنيين هما "كريس أوريكو"، و"يايكيم أوزودو" جعل الأول وزيرًا للإعلام، والثاني رئيس تحرير الجريدة الرسمية، وكانا هذان الصديقان هما الوحيدان اللذان يناقشانه في الأمور التي تحتمل المناقشة، ويسديان النصح له في بعض الأمور، وكعادة مثل هذه الانقلابات التي تدور فيها النازاعات والوشايات والصراعات الداخلية، خاصة التي تدور بين أطراف الحكم، أنقلب الحاكم العسكري على صديقيه عندما حاولا إسداء النصح بالنسبة لمشكلة – منطقة أبازون التي أصابها الجفاف والخراب – عندما نصح أوريكو الرئيس بالسفر إلى المنطقة المنكوبة ومواساة أهلها وتقديم يد العون لسكانه ومساعدتهم في مد أنابيب المياه لهم في هذا المكان الذي يشهد جفافًا غير مسبوق، ووافق الرئيس في البداية، ثم سرعان ما عدل عن هذه الموافقة نتيجة لوشايات زملائه في الحكم فانقلب على زميليه أوريكو ويايكيم، وطاردهما بأساليبه البوليسية، ويحضر وفد من المكان المنكوب إلى مقر الرئاسة، رفض الرئيس أن يقابله، بل اعتقل أفراده وشيخه الكبير ونكل بهم جميعا، ويجسد أتشيبي في هذه الرواية مأساة العالم الثالث والعالم الرابع من البلدان التي لا زالت ترزح تحت رحمة مستعمريها وأبناءها الذين يجهلون معمار هذه البلاد.

لقد كان أتشينو أتشيبي هو أيقونة الرواية الأفريقية بلا منازع وكان يمثل هو ومواطنه وول سونيكا الذي فاز بجائزة نوبل عام 1986 ومعهم الكاتب الكيني نجوجي واثيونجو، وبقية الروائيين الأفارقة العظام منظومة روائية تمثل عصرًا جديدا للأدب الأفريقي.

رحل أتشيبي يوم 21 مارس 2013 في إحدى مستشفيات مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية التي كان مقيما بها لفترة طويلة من حياته.

 

الإحالات:

• روائي من نيجيريا، د. على شلش، مج القصة، القاهرة، ع 14، فبراير 1965 ص 147

• تشينو أتشيبي أحد الأصوات العالمية في الأدب الحديث.. ناضل من أجل الديموقراطية في نيجيريا، ت أحمد فاضل، ج الصباح، بغداد، ع 2798، 13/4/2013 ص 11

• الأشياء تتداعى لـ أتشينو أتشيبي، د. ليلى المالح الصابوني، الآداب الأجنبية، دمشق، ع 28/29 يناير/فبراير ص 1984 ص 240

• الصراع المأسوي في روايات أتشيبي، أبيولا أبريل Aabiola Irele   ت مجيد حميد جاسم، الثقافة الأجنبية، بغداد، ع 1، 1997 ص 90

• تجليات الأنا وتمثلات الآخر في الرواية الأفريقية.. رواية "الأشياء تتداعى"، محمد زكور، مج النص، الجزائر، ع 14، ديسمبر 2013 ص 81

• الكاتب النيجيري تشينو أتشيبي.. دراما المستعمر والمستعمر، فخري صالح، العربي، الكويت، ع 662، يناير 2014 ص 88


عدد القراء: 2259

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة رعد صادق الحلي من العراق
    بتاريخ 2023-03-19 12:46:08

    امتناني و بالغ شكري فرصة رائعة منحها لي الاستاذ القدير شوقي بدر في التعرف على هذا الروائي المهم أشينو أتشيبي .كل الشكر

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-