إشكالية الموت واقعه وما وراءه في قصص دينو بوتزاتيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 21:43:53

شوقي بدر يوسف

ناقد من الإسكندرية

"ثمة شيئين لا يمكن أن يحدّق المرء فيهما: الشمس، والموت"

                                                                                                       لاروشفوكو

 

منذ "عشرية الديكاميرون" الحكائية للرائد الإيطالي جيوفاني بوكاشيو التي كتبها في بداية القرن الرابع الميلادي، وحتى أعمال الكاتب الإيطالي الحداثي إمبرتو إيكو السردية، وسيموطيقياته الروائية والفكرية المعاصرة، التي تمثل آخر ما توصل إليه السرد في حداثيته الآنية، مرورًا بهذا الزخم الكبير من أعمال كتاب القصة والرواية في إيطاليا أمثال ألبرتو مورافيا، ولويجى بيرانديللو، وإلزا مورانتي، والكسندرو ساهيا، وإيليو فيتوريني، وإيتالو كالفينو، وأنطونيو تابوكي، وشيزاري بافيزي، وليوناردو شأشأ، ودينو بوتزاتي وغيرهم من كتّاب السرد في هذا المشهد الحامل لخصوصية الإبداع في هذا الطرح الإبداعي المتوسطي، الحاشد لهذه المجموعة من متميزي كتّاب السرد في هذا العالم.

يتواصل الإبداع القصصي والروائي الإيطالي على ساحة السرد المعاصر، متمثلاً حالة من حالات تجليات هذا الإبداع في ساحته السردية العالمية، شكلاً ومضمونًا، ويمثل الأخير "دينو بوتزاتي" في المشهد السردي الإيطالي المعاصر علامة وأيقونة مهمة ومتميزة وضعت الكتابة القصصية والروائية في إيطاليا بأنماطها المعاصرة المختلفة أمام حالة إبداعية لها ألقها وتوهجها وقضاياها وإشكالياتها وتجلياتها الخاصة في المشهد السردي المعاصر في إيطاليا وفي ساحة السرد العالمية.

ولد دينو بوتزاتي في مدينة بلليرنو من أعمال ميلانو في 16 أكتوبر 1906. كان الأبن الثاني ضمن أربعة أبناء، حصل على إجازة الحقوق بناء على رغبة خاصة من والده أستاذ القانون الدولي بجامعة بافيا. وخلال تلك الفترة عمل في العديد من الوظائف في جريدة "لادومينكا ديلا كورييرا" في مدينة ميلانو بدأها في قسم التصويبات، ثم مراسل صحفي خاص، وكاتب مقالات، ثم محرر وناقد، وقد أسهمت خلفيته الصحفية في صقل كتاباته القصصية بفنيتها العالية المعروفة، ومن ثم فقد ألهمته العديد من حكاياته الخيالية التي كثيرًا ما حاول بوتزاتي أن تكون أقرب للحقيقة. ويعتبر بوتزاتي أحد أقرب الكتاب إلى ذائقة قراء القصة والرواية في أوروبا، وفي العالم العربي أيضًا إذ تطرح أعماله القصصية نفسها في الدوريات العربية المختلفة لتحقق لكاتبها هذا الحضور المتميز، وهذا التوهج السردي في كتابة نوعية تطلق أحداثها من الواقع والمتخيل السردي النابع من رؤية كفكاوية سوداء أحاطت بالمشهد والأحداث والشخصية الرئيسية في قصصه القصيرة ورواياته. وقد حققت رواياته "صحراء التتار"، و"الليالي المختلفة"، بأجوائها الغرائبية وشخصياتها القلقة، وأبعادها الإنسانية المضمرة، والملغزة في أحوال كثيرة حضورًا كبيرًا في ساحة السرد، مما شكّل حالة من حالات الإبهار لدى القارئ والمتلقي في كل مكان، ويعود الفضل لتكريس دينو بوتزاتي ككاتب له ألقه الخاص وتوهجه في الساحة السردية إلى هذه الرواية التي تعتبر من الأعمال الروائية الإنسانية في روعتها وفنيتها العالية، وقد ترجمت هذه الرواية إلى اللغة الفرنسية عام 1949، وتعتبر من الأعمال التي أحب بوتزاتي الاستمرار في كتابتها وصقلها خلال فترة حياته كلها، وذلك حسب رغبته، وقد سبق أن أحتفي به وبأعماله القصصية والروائية في كل بلدان العالم خاصة في فرنسا لفترة طويلة، ولا زالت أعماله الإبداعية تقرأ حتى الآن في مدارسها المختلفة، حتى أن ألبير كامو قد أعجب بصياغته لمسرحيتة "حالة سيريرة" التي كتبها بوتزاتي فقام كامو بإعادة صياغتها تحت عنوان "حالة مثيرة للاهتمام" Un Cas Inte'ressant ومثلت على مسارح باريس عام 1956 من اخراج جورج فيتاني. أتسمت قصص بوتزاتي  المحملة بالرمز والنزوع إلى التغريب والتجريب والذي يؤكد فيها بوتزاتي بأسلوبه البسيط الشفاف الذي يستعمله بدقة متناهية لمقاربة المألوف والعادي في تفاصيل الحياة اليومية، وكذلك استخدامه الخارق الفانتازيا وغرابتها التي تحوّلت في أعماله إلى واقعية جديدة ومناخات لا زمانية لافتة، منحت الكاتب إطارًا مثاليًا ليوسع فيها هواجسه المرتبطة بإشكاليات الموت، وكابوسية الحياة، وعبثية وغموض الوجود، والقلق الإنساني الميتافيزيقي، والحسى الملموس، وما وراء الواقع من أحداث وممارسات غرائبية، ما جعل موهبته الفريدة في ابتكار أجواء كابوسية كالتي كان يعمل عليها إدجار ألن بو، وكافكا، وغيرهم من كتّاب هذا النسق من الكتابة القصصية والرواية، تضيف نفسها إلى نفس هذه الكوكبة من مبدعي هذا النسق من الكتابة، ويجعله في كتاباته القصصية والروائية ربما الأكثر كافكاوية من كافكا نفسه، وفي المقدمة بين كتّاب القصة والرواية الإيطاليين المعاصرين، وفي طليعة كتّاب السرد المتألقين في هذا النسق في غزارة عرف بها وسط المشهد القصصى على إطلاقه. وفي مجموعة له بعنوان "قصص قلقة"، تبدو هذه المجموعة وقد تميزت قصصها بالكثافة والقصر الشديد ولكنها في نسقها الخاص تبدو الأكثر فاعلية وتأثيرًا إبداعيًا، وفنيًا، استغل فيها بوتزاتي كل مساحات الغرابة والعبث مستندًا في معظمها إلى الأحداث البسيطة، والملاحظات اليومية القلقة والمتفرقة في حياة الإنسان. فقد كان يكتب من تلك المنطقة الملغزة الحرجة الواقعة بين الفانتازيا والواقع، وتمثل موتيفة لحنه الأساسي في معظم سردياته، وموضوعه الرئيسي حول قدرة الإنسان الفريدة على أن يتكيّف مع أكثر الظروف قسوة وصعوبة. وكانت الفانتازيا والعبثية عند بوتزاتي وسيلة لتصوير الضعف الإنساني، والتعطش إلى السلطة، والنزوع إلى الشر، ومحاولة الإنسان تجاوز قدره إلى ما وراء ذلك من أحوال وطبائع، وقد تميزّت قصصه القصيرة بأنها قصص ترسخ في الذهن ولا تنسى بسهولة، بل وتظل أحداثها ومضامينها تعبث بالذات وتستنفر الإدراك في هواجس النفس لفترة طويلة.

وفي حوار أجرته معه مواطنته الشاعرة الإيطالية دوناتيلا بيزوتي عن التوفيق بين عالمي الإبداع والصحافة، قالت الشاعرة الإيطالية في معرض حديثها عن بوتزاتي: "أن هذا الكاتب - دينو بوتزاتي - الذي كان مديرًا للملحق الأسبوعى لمجلة "لادومنيكا ديلا كورييرا" (أى بريد المساء)، الصادرة عن دار "كورييرا ديللا سيرا" وهي من كبرى الجرائد اليومية في ميلانو، فعلى الرغم من شعوره الدائم والمستمر من أنه سوف يطرد من موقعه في أي وقت، فقد ظل يعمل في هذه الجريدة حتى وفاته في 28 يناير 1972 رغم أن هذا الشعور دائمًا ما كان يطارده طوال فترة عمله في الجريدة، ويؤرقه أحيانًا موضوع الاستغناء عن خدماته، ولكن العمر مضى به وهو لا زال في أروقة هذه الصحيفة العريقة حتى باتت تعرف به، ويعرف بها، لذا كانت روايته "صحراء التتار" تمثل حالة هاجسية حاكمة في حياته الإبداعية لارتباطها بهواجسه الذاتية التي كان ينتظرها في مستقبله المهني، كما كان "جيوفاني دروجو" الشخصية المحورية في الرواية هو مثال الإنسان عندما يتملكة القلق الأبدي من أن شيء ما قادم، ولا يحضر هذا الشيء، وكان بوتزاتي  في قلقه الذاتي هو نفس الشيء، وكان رجلاً متواضعًا وشفافًا وخجولاً، وقد تعرفت عليه أثناء زيارتي له في منزله لغرض إجراء حوار معه. وما زلت احتفظ بشريط "الكاسيت" عندي – وتستطرد الكاتبة حول حوارها معه - كنا جالسين إلى طاولة، بجوار مصباح صغير، وكان هو يرسم ويخطط طيلة الوقت أشكالاً نسائية، ولم يكن يرفع نظره إلى من شدة خجله، وفي لحظة معينة طرحت عليه سؤالاً: أي كتاب تقرأ في الوقت الحاضر؟ ولأول مرة، رفع نظره، ونظر إلى بابتسامة، وقال: لكني لست مثقفًا أو مفكرًا لكي اقرأ الكتب بصورة منتظمة. فضحكنا سويًا، وفي الحقيقة، وعلى الرغم من أنه كان رجلاً شعبيًا فإن بعض المثقفين في إيطاليا لم يكونوا يتحملونه بسبب صراحته وتفكيره العميق في تنظيراته وأقواله وآرائه الواضحة".(1)

وفي شهادة له عن إبداعه وأسرار النزعة الميتافيزيقية القلقة المتواجدة بكثرة في معظم إبداعاته القصصية والروائية يقول دينو بوتزاتي: "لم أصل بعد إلى قعر البئر، بقي لي هامش صغير سأفقده هو الآخر، وأتمنى كثيرًا أن أتلذذ به؛ فوق كل هذا، فقد طعنت في السن، وقد لا أعيش كثيرًا.

كان لدي أربعون سنة، وكنت أسبح بحرية فوق بحر النجاح، فجأة التمع بداخلي شعاع من نور.

فالمصير الذي كنت أهيئه، والذي كنت أتوجه نحوه مصير مجد عالمى، أكرر ذلك، بحضوره المثير وأوسمته وشعبيته وانتصاراته الأكيدة في العالم كله، بدا لي غير مجد مع الأسف، فالجانب المادي للمجد لم يكن يعنيني لأنني كنت أغني مما كنت أتمنى. وماذا تبقى؟ دون التصفيقات وعربدة الانتصار والأضواء الفاتنة التي من أجلها باع العديد من الرجال والنساء أرواحهم للشيطان؟ كل مرة أتذوق فيها فتاتًا أجد مرارة ويبوسة تبقى في فمي. بعد كل هذا – أقول لنفسي – ما هي أعلى قمة للنجاح؟ بكل بساطة هي ذي: شخص يمر في الشارع، يلتفت الناس نحوه ويوشون، هل رأيت، أنه هو! كل شيء ينحصر هنا ولا شيء أكثر من ذلك آه! إنه فعلاً إشباع حسي! وهذا الأمر - سجلوا ذلك جيدًا – لا يحصل إلا في حالات استثنائية، أي حينما يتعلق الأمر بشخصيات سياسية مهمة جدًا، أو ممثلات مشهورات. أما إذا تعلق الأمر بكاتب بسيط فمن النادر في أيامنا هذه أن يتعرف عليه أحد في زقاق.

لكن أيضًا هناك الجانب السلبي، فليست التسممات اليومية مثل المواعيد والرسائل والمكالمات الهاتفية للمعجبين والحوارات والالتزامات والندوات الصحافية والمصورين والراديو... إلخ هي التي تؤذيني. لكن ما يؤذيني هو كون كل نجاح من نجاحاتي الذي لا يحقق لي سوى إشباعات هزيلة يسبب أيضًا امتعاضًا عميقًا للعديد من الناس. آه! كم أشفق على وجوه بعض الأصدقاء والزملاء في أيامي السعيدة، كانوا في طفولتهم شجعانًا، شرفاء، ومجتهدين. كانت تربطني بهم روابط حب وعادات قديمة. فلماذا سأجعلهم يتعذبون بهذا الشكل؟.

بسرعة قصت مجموعة الآلام التي أنشر من حولي بسبب الرغبة الجامحة البليدة للوصول. اعترف أنني لم أفكر في هذا أبدًا وأحس الآن بالندم.

أدركت أيضًا أنه بمتابعتي لمساري سأحصد من جديد وعلى الدوام جوائز ثمينة. ولكن بالمقابل سأجعل قلوبًا كثيرة تتعذب وهي لا تستحق ذلك. فالعالم غني ومليء بالأحزان من كل لون. لكن لسعات الرغبة هى من ضمن الجراح الدامية أكثر والعميقة جدًا يصعب شفاؤها وتثير الشفقة.(2)

في قصص دينو بوتزاتي القصيرة تبدو غرائبية المشهد، وفانتازيا الروح، ومحاولة إبراز تشظى الواقع، وتفتته، كحالة جارفة تستدعي عوالم كابوسية، وشخصيات شديدة الغربة، والغرابة والوحدة، وشخصياته دائمًا ما تتوحد مع إشكالية الموت وموتيفته في شتى صورها، وهو في قصصه يمتلك القدرة على تخيّل الصورة، وإبراز أوجه المفارقات والمتناقضات في الحياة، ففي إحدى قصصه من مجموعة "الجنرال المجهول" ترجمة د. منذر العياشي وهي قصة "الفراشة"(3) يمارس بوتزاتي اللعبة التي طالما برع فيها بصورة استيهامية فائقة وهي لعبة الإيحاء المؤسس بصورة كاملة على الفانتازيا والذي يقدم من خلالها حبكة تتصاعد لتصل الذروة في لحظة التنوير الموغلة في التفاصيل الوصفية للمكان والنفسية في واقع الشخصية. من خلال شخصية "ألدو سميث" وكيل وزارة النظام العام في حكومة الباستوجي الفاشية يكتب تقريرًا لزميله المسؤول عن استجوابه بصدد (الفرسان الضالين)، ويقرران قتله فيتمنى الخلاص بأن يصبح خفاشًا، ويتحقق له ذلك ويتوجه طائرًا إلى مكتبه ويحاول الدخول من الشباك فلا يستطيع، ويتمنى أن يكون فراشة، ويتحقق له ذلك، وحين يدخل يتعلق بالستارة ويلاحظ أن زميله قد احتل مكانه كوكيل وزارة. ولأنه يعتقد أنه امتلك قوة عجيبة فإن باستطاعته أن يصبح هو الوكيل، والوكيل فراشة. لكنه تعب كثيرًا فيؤجل الأمر حتى الصباح وينام متعلقًا بالستارة كفراشة. (ما إن أغلق عينيه حتى قام زميله وكيل الوزارة حاملاً كرسيه ثم وضعه تحت النافذة. صعد وضرب الفراشة بالمسطرة فجعلها تسقط ميتة)، القصة تحمل من ميتافيزيقا الواقع دلالة ومعان القدر والموت وتشكيل الواقع ورؤية الإنسان لواقعه وموته وقدره. وهي تيمة اشتغل عليها بوتزاتي في العديد من أعماله القصصية والروائية وأصبحت هذه التيمة – تيمة الموت -من العلامات المميزة في أعماله القصصية، وفي قصة "الميت الخطأ" يجسد بوتزاتي إشكالية الموت الخطأ والموت الحقيقى من خلال الفنان التشكيلى الرسام ليسيو بردونزانى الذي قرأ نعيه في إحدى الجرائد، ورثاء الفنانين له، وحين لاحظ بعض اللمزات المسمومة في المقال، وعلى الفور نادى على زوجته التي ما أن قرأت النعي حتى أجهشت في البكاء، فنهرها ليسيو وأحست بما هم فيه، فانخرطت في نوبة من الضحك.. وصرخ فيها زوجها: "ولكن هل اعتراك الجنون يا ماتيلد! إلا ترين إنى لا زلت هنا.. ولكن ألا تفهمى هذا الخطأ المرعب". ذهب بردونزاني إلى مقر الجريدة وواجه رئيس التحرير بما حدث، طمأنه رئيس التحرير بأن هذا موضوع بسيط للغاية وعليه ألا يكترث به، أفهمه بأنه سوف يكسب من وراء هذا الخطأ الكثير. فسوف تتضاعف أسعار لوحاته بمجرد أن ينتشر الخبر، ويعرف الناس أخبار وفاته. ويستمر الجدل حول ذلك بين رئيس التحرير وليسيو بردونزاني، حتى يقتنع ليسيو بوجهة نظر رئيس التحرير، ويستمر الوضع على ما هو عليه، وتبدأ التحضيرات لتفعيل الجنازة، ويذهب بردونزاني وهو متخفي إلى مقابر الأسرة لرؤية نعشه: "خرج بهدوء نحو المقبرة. كانت أمسية ناعمة وممطرة. عندما وجد نفسه أمام مقام صلاة العائلة، نظر فيما حوله، لم تكن ثمة روح تحيا. فتح المصراع البرونزي. من غير سرعة بينما كان الليل يغشى المكان، قلع البراغي التي تغلق النعش الجديد بسكين، كانت معه، إنه نعشه، نعش ليسيو بردونزاني.. فتحه، كان هادئًا جدًا، تمدد على ظهره، متخذًا وضعًا افترض إنه ملائم للموتى في موتهم الأبدي. وجوه أكثر راحة مما توقع.. سحب الغطاء فوقه ببطء من غير أن يرتعش. وعندما لم يبق سوى فتحة صغيرة، أصغى بعض الثوانى، فلربما ثمة شخص يناديه، ولكن لم يناده أحد.. حينئذ ترك الغطاء ينغلق تمامًا".(4) إنها نفس إشكالية الموت الذي اشتغل عليها بوتزاتي في معظم قصصه، فهذا الفنان التشكيلي الذي مات دعائيًا ثم لم يلبث أن التبسه الموت، وهو يقوم بتجربة الطقوس الأخيرة لرحيله، فإذا بالفعل الطقسي ينقلب إلى رد فعل حقيقي، ويموت الفنان التشكيلى ليسيو بردونزاني أثناء تجربته لفعل الموت فيكون رد الفعل هو الالتباس الحقيقي للموقف وكأن مختبره الأخير كان هو في ردة فعله لنفس الفعل، وتصبح الأخبار التي نشرت عن وفاته حقيقية بعد أن كانت أخبارًا مفبركة، فكان سعيه إلى الموت هي رغبته الدفينة في أن  يحقق الفوز والمكانة لفنه ولوحاته الفنية التي رسمها حال حياته فكان الموت تتويجًا لهذا الجهد الكبير الذي سعى إليه ليسيو. ترجمت هذه القصة مرة أخرى في سوريا وقام بترجمتها القاص السورى محمود موعد ونشرت بمجلة العربى الكويتية العدد: 324 نوفمبر 1985 تحت عنوان "الذي ولد خطأ". وفي قصة "النغم المتصاعد" يبدو التجريب واضحًا في هذه المرويات المتشابكة – والتي جاءت على شكل متوالية نصية - مع توحد الذات والموت في آن واحد وذلك من خلال شخصية الآنسة موتلري التي كانت جالسة وحدها تطرز، وسمعت الباب يقرع في عدة مرات من جلوسها، وفي كل مرة يقرع باب مسكنها يتسارع وجيب قلبها من هذا القادم إليها في مثل هذه الساعة، وفي كل مرة يتغيّر القادم فمن صديقها القديم المعلم ألبرتو فاسي (الكاتب العدل) والتي لم تبد أية إشارة منه أنه حي منذ عدة شهور، إلى هذا الرجل كبير القامة المرتدي لمعطف مطاطي أسود ذو شقوق، إلى الشبح الأسود الضخم الملتمع، إلى المخلوق الكبير أسود اللون القادم من القرون الوسطى، إلى الكائن المغطى بدرع ملتمع أسود إلى حشرة قذرة هائلة الحجم عنكبوتية مصنوعة من صفائح لامعة مفصلية تشكل وحشًا قويًا، لقد كانت هذه التخيلات التي تراود الآنسة مولتري التي كانت في الخامسة والأربعين من عمرها والناتجة عن وحدتها القاتلة والتي كانت تضع همومها وتأزماتها الذاتية وكل هواجسها في التطريز وشغل الإبرة في هذا البيت الصامت علّه يشغلها عن أزمتها المرضية، لكن الوحدة والموت في هذه اللحظات التي تعيشها تتوحدان، ينهي الكاتب قصته بتجسيد الخواء التي تعيشه الآنسة مولتري، بتساؤله في نهاية النص ":هل تعرفون الآنسة مولتري!؟ إنها في الخامسة والأربعين، إيه كلا، إنكم تضحكون. من المؤكد إنها تعيش وحدها. مع من تريدون أن تعيش بعد اليوم؟ إنها تطرز، تطرز في منزلها الصامت، ولكن ماذا ينتابها الآن حتى تقفز من مقعدها؟ أيكون أحدهم قد طرق الباب؟ أنكم لتمزحون. لا، لم يطرق الباب أحد. من عسى أن يطرق هذا الباب يومًا؟ ومع ذلك فقد أسرعت الآنسة وقلبها يخفق خفقانًا واخزًا وهي تتعثر بالسجادة وتصطدم بدعامة السقف، أدارت المفتاح، وأنزلت مقبض الباب، وفتحته، الدرجات خاوية. وخاوية بلاطات الدرج، تحت الضوء الرمادى الجلى المنبعث من الكوة الزجاجية الرمادية، مقبض الدرج أسود جامد، وباب المبنى المواجه جامد، كل شئ جامد، فارغ، ضائع إلى الأبد، ليس هناك أحد. عدم، عدم، العدم. بيد أن الحسرة العتيقة ههنا، والحزن الذي لا شفاء له ههنا. وأمل السنين القديمة الملعون ههنا. الوحش غير المرئى ههنا. إنه يغرز ببطء شوكته في القلب الوحيد".(5) الموت هنا يتوحّد مع الصمت الكامل والوحدة التي تنتاب الآنسة مولتري في منزلها لتحيل حياتها إلى خواء كبير وموات محقق، بعد هذه الزيارات المتتالية للموت في نغمه المتصاعد وأشكاله المتعددة ومع كل زيارة يقوم بها إحدى رموزه التي شكلها الكاتب ووضعها في هواجس الشخصية من خلال الوحش غير المرئي الذي يغرز شوكته ببطء في قلبها الوحيد، وهذه الحشرة الضخمة التي تشبه حشرة كافكا يبدو الموت قائمًا فاعلاً لواقع الشخصية. وفي متتالية "الجدار" من قصة "ضروب الوحدة" حين انطلق الراوى والشيخ ستراتز أحد أدلاء الجبال ومجموعة من متسلقي هذه الجبال في صعود بعض المرتفعات المكونة من خليط من الصخور والرمال والنباتات والأبنية التي شيدها الناس ويعيشون فيها جنبًا إلى جنب مع متسلقي الجبال في هذا المكان. وتبدأ هذه المجموعة تسلق هذه المرتفعات التي كان الحياة والموت شريكان فيها، فالناس في بيوتهم ومتسلقي الجبال يمرون بجوارهم مباشرة في تتابع، الحياة تسير طبيعية للغاية والموت يسير بمحازاتها جنبًا إلى جنب، الجميع يجسدون الحياة الفارقة والموت المحقق من خلال هذا المزج بين الخطر والأمان، يحاول الراوي أن يتفادى مشكلة الصعود التي شعر بأنها مأزق كبير، بينما بجانبه يعلق أحد الشباب ضاحكًا وهو ينحني على مدخل الكهف:

- "يا لرشاقتك أيها الشيخ".

بذلت آخر جهودي لأحاول التعلق به ويداي متمسكتان بالقضيب الحديدي وجسمي متدل في الفراغ. وكانت الكتلة تحتى، ما تزال تتواثب في أعماق الهاوية المظلمة. راح الإطار الحديدى، مع الأسف، ينحنى تحت ثقلى، ثم أرتخى، وكان من الواضح أنه ينكسر، وكان من أيسر الأمور على الرجال الذين يتناولون المشروبات أن يمدوا لى أيديهم وينقذوني، إلا أنهم الآن لم يعودوا يهتمون بي".(6) ويتناوب المشهد بين ما يعيشه الناس في روتين حياتهم، وبين الراوي الذي كان على وشك السقوط، الجميع يثرثر في أحوال الدنيا، بينما متسلق الجبال الراوي يحاول التشبث بأهداب الحياة دون طائل، ويبذل آخر جهد لديه حول هذا الوضع المأسوي القاتل: "وبينما شرعت في السقوط، في صمت الجبل المقدس استطعت أن أسمعهم بوضوح يتناقشون حول فيتنام، وبطولة كرة القدم، ومهرجان الأغنية".(7) وفي المتوالية الثانية بعنوان "الاعتراف" يسرد الكاتب عن السيدة باولا طريحة الفراش، حين أخبرتها الخادمة بأن الأب كوارزو جاء من الدير القريب التابع للإخوة الفرنسيسكانيين لزيارتها. وبعد حوار بين الأب كوارزو وباولا وثرثرتها حول أمور عدة كان الأب كوارزو يصغى لها وهو متصلبًا في جلسته، ثم فجأة بدأ الأب كورازو يصلى بوجه قاس وعندئذ عرفت لورا بولا أنها ستموت. لقد جاء الموت مع الأب كوارزو كما جاء الموت في متوالية الأولى مع الشخصيات الموحشة، وفي المتوالية الرابعة المعنونة "قبر أتيلا" يسرد بوتزاتي حول هذا القبر الذي اكتشفه جيوفاني تاسول في قلب غابة الشمال وهو القبر الأسطورى للفارس أتيلا. وكان الموت يخيّم على كل من لهم صلة بهذا القبر، فجميع هذه الشخصيات كانوا قد ماتوا بالفعل، المدرس الذي عرفّه بمكان القبر، صديقه الحميم أنريكو أرموجين الذي ذهب معه إلى العالم الجغرافي المشهور أزولينا ليسألاه عن خريطة الشمال الموجود فيها القبر، وكل من قابلاه بخصوص هذا الموضوع، كل هؤلاء قد ماتوا بالفعل: "العزيز أذيو دوتيبر دوتيريس مراقب مصلحة الغابات ذو الفهم العميق (لقد توفي)، وسكرتيرة معهده الدؤوب جرازيا مرازكا (وهي اليوم متوفاة)، وأرمندو السابق المخلص غاية الإخلاص (وهو اليوم متوفي)، والطيار أردينو مالينوشي الذي طار به في أحيان كثيرة فوق المنطقة وأتاح له أن يكتشف القبر (لقد مات هو أيضًا) وفي النهاية يجد جيوفاني تاسول نفسه وحيدًا وهو يجلس على صخرة وبجانب أشجار ولا شيء سواها".(8) لقد جسد دينو بوتزاتي الموت في معظم قصصه واختار له زوايا، ورؤى حاول أن يضع فيها الموت في أشكال متعددة من الحياة، وهو في نصوصه القصصية يشير إلى شيء هو بالضبط ما عاناه بسكال حينما كتب وقال: "إن كل ما أعلمه هو أنه قد قضى عليّ بالموت، ولكن ما أجهله أشد الجهل هو هذا الموت نفسه باعتباره شيئًا لا سبيل لى إلى الخلاص منه".(9)

صدر لبوتزاتي العديد من المجموعات القصصية المحتفية بالميتافيزيقا، خاصة الميتافيزيقا المرتبطة بإشكالية الموت واقعه وما وراؤه، ففي عام 1942 صدرت له مجموعة بعنوان "الرسل السبعة" عالج فيها ظاهرة الموت، وعبثية الحياة بشكل بارز وظاهر للغاية، وبين عامى 1952 و 1958 أصدر ثلاث مجموعات هى "اندحار لا بالغرينا" التي حصل بها على جائزة نابولى، ومجموعة "تجربة سحرية"، ومجموعة "ستون قصة" وتتسم معظم قصص بوتزاتي بأنها مشحونة بالألغاز، ومحصورة في هواجس وأسئلة إشكاليات متناسلة المعنى، وفي شكل سلس وبسيط، ومشبعة بالغموض وعدوى الترقب والخوف والانتظار والتوجس.

وقد ترجمت إلى العربية عددًا من القصص القصيرة لبوتزاتي كأنطولوجيا ومختارات نصية كان أولها ما ترجمه حسين رفعت فرغل في رسالته الأكاديمية عن دينو بوتزاتي وصدرت هذه الترجمة عن سلسلة الإبداع العالمى بالهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1984، وتمثل هذه المجموعة التي تكونّت من عشرين قصة قصيرة البعد الأول في اختيارات القصة عند هذا الكاتب، وكان حسين فرغل قد أعد رسالة الماجستير الخاصة به عن قصص بوتزاتي (ترجمة ودراسة لغوية) قدمت إلى كلية الألسن عام 1980، وقد تبعت هذه  المجموعة، مجموعة "الجنرال المجهول" قام بترجمتها في سوريا الدكتور منذر عيّاشى وصدرت عن مركز الإنماء الحضارى عام 2002 وهي مجموعة جديدة تختلف عن مجموعة الدكتور حسين فرغل، وكانت أول قصة ترجمت لبوتزاتي إلى العربية هي قصة "طالب الشفاء" قام بترجمها الكاتب السورى جورج سالم، ونشرت بالعدد 43 من مجلة المعرفة السورية في سبتمبر 1965. ثم نشرت مجلة الآداب الأجنبية السورية في عدد ديسمبر 1975 عددًا آخر من قصص بوتزاتي قام بترجمتها أيضًا جورج سالم هى قصص "المعطف"، "افتتاح الطريق"، "طالب الشفاء"، "ضروب من الوحدة"، "النغم المتصاعد"، وقد نشرت هذه المجموعة بعد ذلك ضمن إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر 2004 وقدم لها محمد الراوي بمقدمة عن إبداع بوتزاتي، كما ترجم السفير السوري في إيطاليا مجموعة قصصية لبوتزاتي صدرت عن وزارة الثقافة السورية عام 1990 تحت عنوان "قصص قصيرة لدينو بوتزاتي" ضمت 22 قصة قصيرة تعطي صورة حية وتجربة عن ملامح شخصيات وتيمات أحداث بوتزاتي قام السفير الأديب بانتخابها بعناية وترجمها عن لغتها الأم، وقد انتشرت ترجمات كثيرة عن إبداع دينو بوتزاتي القصصي ضمن ما قام به عدد من المترجمين أحسوا بأهمية هذا الكاتب في الحقل السردي، إضافة إلى ما تم ترجمته من روايات أبرزها كانت روايته الشهيرة "صحراء التتار" التي ترجمها وقدم لها من الإيطالية إلى الفرنسية ميشيل أرنو Miche Arnaud وصدرت عام 1992 وقام بترجمتها بعد ذلك إلى العربية موسى بدوي وصدرت عن دار الكتاب الجديد وكان لهذه الرواية تأثير كبير انعكس على أسماء كبيرة في حقل الرواية أمثال ألبير كامو وصمويل بيكيت في روايته "في انتظار جودو"، والجنوب أفريقى الحائز على نوبل ج. م. كويتزي في روايته "في انتظار البرابرة" وأعتقد أن ثمة مؤثرات أخرى طالت رواية "الطريق" لنجيب محفوظ من ملامح وظلال هذه الرواية وقد كتب بوتزاتي إلى صديقه برامبييا Brambilla قائلا": لقد كنت أعتقد آناء اللحظات التي ظلت مسكونًا فيها بالطموحات الأدبية الكبرى. بأن الموضوع المهم والبكر الذي لم يطرق من ذى قبل إلا بقدر ضئيل هو موضوع الجبل تحديدًا، بشرط أن يتم شحنه وتعبئته بمجموعة من المشاعر والوجدانات الإنسانية الكبرى حتى لا يمكث جامدًا وباردًا، وغير قابل لنقل التعابير الإنسانية. أجل، ينبغي علينا – حنى نمسك جيدًا بالحبل كما هو – أن نحكى حكاية لا يأخذ فيها الجبل الدور الرئيسى. وإنما ينتهي به الأمر إلى أن يفرض الجيل نفسه. ويوحى بذاته وحسب. "أورده فرانسوا ليفي في التقديم لرواية "صحراء التتار" المرجع السابق.

 

الإحالات:

1 - الشاعرة الإيطالية دوناتيلا بيزوتى وحوار، القدس العربي، لندن، ع 3833، 8/9 سبتمبر 2001 ص 10.

2 - سر الكاتب، دينو بوتزاتي، ترجمة محمد آيت لعميم، القدس العربي، لندن، ع 5534، 17/18 مارس 2007.

3 - قصة الفراشة، مجموعة الجنرال المجهول، ترجمة منذر عياشى، دار الإنماء الحضارى، اللاذقية، ص 79.

4 - قصة "الميت الخطأ" مجموعة الجنرال المجهول، ترجمة د. منذر العياشى، المصدر السابق، ص 32.

5 - قصة النغم المتصاعد، دينو بونتزاتى، ترجمة جورج سالم، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004 ص20.

6 - متوالية (الجدار) قصة ضروب الوحدة، مجموعة النغم المتصاعد وقصص أخرى، ترجمة جورج سالم، تقديم محمد الراوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004 ص 23.

7 - المصدر السابق ص 24

8 - متوالية (قبر أتيلا) قصة ضروب الوحدة من المصدر السابق ص 34.

9 - مشكلة الإنسان، د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، القاهرة، 1967 ص 122.


عدد القراء: 1746

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-