كازو إيشيجورو وعالمه الروائي المناهض للحربالباب: مقالات الكتاب
شوقي بدر يوسف ناقد من الإسكندرية |
يعد الكاتب الياباني الأصل، الإنجليزي النشأة، كازو أيشيجورو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2017 من أهم الروائيين المناهضين للحرب في عصرنا الحالي. فقد ولد في مدينة "ناجازاكى" المدينة اليابانية الثانية المنكوبة بالقنبلة الذرية عام 1945، عاش في بريطانيا مع أسرته التي هاجرت إليها وهو في السادسة من عمره، وقد سبق أن ترشح لجائزة البوكر أربع مرات، حتى حصل عليها عام 1989، صنفته جريدة التايمز في لائحة أهم 50 روائيًا في بريطانيا منذ عام 1945. وحين فاز بجائزة نوبل قال عنه مواطنه موراكامى "إن إيشيجورو من أهم الروائيين في السنوات الخمسين الأخيرة". وأثناء تسلمه الجائزة قال كازوو "أيها المثقفون إذا كانت أرواحكم لا تزال صالحة للاستعمال، أصغوا إلى حاضركم جيدًا، واتركوا أعينكم تضئ هذا العالم ثانية". لقد كان أيشيجورو مركزًا إبداعاته على فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانعكاس أحداثها على الذات المتشظية بين هوية مزدوجة حالمة، ومجتمع في الجانب الآخر يميل إلى إقصاء البعد الإنساني في كل ما يمت إلى الحياة بصلة. لذا كانت أعماله جميعها تتناول الجوانب الإنسانية المبشرة بالبحث عن اليوتوبيا المفقودة بعيدا عن ويلات الحرب التي سمع عنها من أسرته في تلك الفترة، كما يجد القارئ في رواياته أشخاصًا عاجزين عن التواصل مع من حولهم، غير واثقين من صلاحية أفكارهم تجاه الحرب والسلام، وهو يقدم في معظم أعماله الروائية والقصصية، المفارقة المغرضة والنفعية الخارجة من رحم الحروب والموت والدمار، أمام ما ينادى به الجيل الجديد الباحث عن السلام والحياة الحرة الكريمة، فالحرب تبدو في أعماله أشبه بظلال بعيدة على رغم فداحة تأثيرها، فهو لا يستدعيها على نحو مباشر، بل يتلامس معها برهافة شديدة عبر إشارات متقطعة وعلامات سيميائية محددة تبرز شكلها وأوجاعها ودمارها المعروف.
فاز كازو إيشيجوروا بجائزة نوبل للآداب عام 2017 عن مجمل منجز أعماله الروائية جميعها، وبهذا الفوز عادت الجائزة مرة أخرى إلى فن الرواية بعد أن ابتعدت عن هذا المجال لأكثر من توجه أثار في ذلك الوقت الكثير من الدهشة والجدل، حيث تأرجحت الجائزة خلال السنوات التي سبقت فوز إيشيجور بالجائزة ما بين القصة القصيرة التي حازتها الكندية أليس مونرو عام 2013، ثم وقعت الجائزة أسيرة الصحافة الوثائقية التي حازتها الكاتبة البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش عن أعمال هي خليط بين الصحافة والأدب عام 2015، كما حصل عليها المؤلف الموسيقى الأمريكي بوب ديلان الذى حاز الجائزة عن مؤلفاته وأعماله الموسيقية عــام 2016 وهــــي سابقة أولى غير مســبوقــة في تاريــخ الجـائزة أن يحــــصـــــل علــيـهــا مؤلف مـوســــــيقى، وهى أصلاً جائزة مقررة لفرع الآداب وليست للفن، ويعتبر ذلك عودة لما حدث عندما حصل عليها في الآداب قبل ذلك السياسي الداهية ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عام 1953 فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبعودة الجائزة إلى الرواية تكون الجائزة قد عادت إلى مسارها المعتاد في مجال الآداب مرة أخرى من خلال السرد الروائي الذى كثر حوله الجدل هذا العام والأعوام الفائتة بالنسبة لمن حصلوا عليها، حيث كان الأوفر حظًا خلال الأعوام الثلاثة الماضية للفوز بها كان هو الياباني هاروكي موراكامي، إلا أن الجائزة خالفت كل التكهنات والتوقعات وذهبت إلى مواطنه كازو إيشيجورو الذى كان قد حاز الجنسية الإنجليزية عام 1982 والتي ربما - في اعتقادي - أن لذلك دور كبير في حصوله على الجائزة خلافًا لجميع التوقعات والاحتمالات التي كانت قائمة آنئذ، حيث كان مرشحا لها أيضًا بجانب هذه الأسماء كل من الكندية مرجريت أتوود، والكيني نجوجي واثيونجي.
كان كازو إيشيجورو هو الثالث في قائمة حصول اليابان على هذه الجائزة والعاشر في قائمة أدباء إنجلترا الحاصلين عليها، فقد سبق أن حصل عليها من أدباء اليابان كل من ياسونارى كواباتا عام 1968، وكانزا بورو أوى عام 1994، كما حصل عليها من أدباء إنجلترا كل من برنارد شو عام 1925، جون جالزورثى عام 1932، ت. س. إليوت عام 1948، ونستون تشرشل عام 1953، إلياس كانيتي عام 1981، وليم جولدنج عام 1983، هارولد بنتر عام 2005، دوريس ليسنج عام 2007. وكان عاشرهم هو كازو إيشيجورو، أي أن إيشيجورو قد شرف دولتي المولد والمواطنة بهذه الجائزة العالمية الكبيرة بفضل أعماله الإبداعية التي تناول فيها أيضًا كل من اليابان وإنجلترا روائيًا وفنيًا.
وقد قالت عنه "سارة دانيوس" السكرتيرة الدائمة لأكاديمية نوبل: "إن كتابات إيشيجورو تعتبر مزيجًا من أعمال جين أوستن صاحبة "الكبرياء والهوى"، و"العقل والعاطفة"، والتي كانت الحقيقة عندها مفعمة بالحيوية، وفرانز كافكا بأساليبه الكفكاوية المفعمة بالكابوسية والسيريالية وعبثية الأحداث والتأويلات، مع شيء مما تتسم به أعمال مارسيل بروست من استرجاع الماضي، واستعادة ما يسمى بتزويت الواقع، تلك هي كتابات كازو إيشيجورو، إنه كاتب متكامل للغاية، فهو لا ينظر إلى جانب واحد، بل يطّور المكّون الجمالي في إبداعه الرائع"، كما أثنت عليه الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة بقولها "إنه كاتب عرى في رواياته التي تتسم بقوة عاطفية عظيمة، الخواء الكامن تحت شعورنا الواهم بالعلاقة بالعالم".
فاز كازو إيشيجورو بالعديد من الجوائز الأدبية الرفيعة قبل حيازته جائزة نوبل، فقد فاز عن روايته الأولى "التلال الشاحبة" بجائزة وينفريد هولتبى، وجائزة وايتبريد عن رواية "فنان العالم العائم"، وجائزة مان بوكر عن رواية "بقايا النهار" كما نال وسام الإمبراطورية البريطانية عام 1995، ووسام الفنون والآداب الفرنسي عام 1998.
ولد كازو إيشيجورو في الثامن من نوفمبر عام 1954 في مدينة ناجازاكي، ثم انتقل مع عائلته المكونة من والده ووالدته وأخته الكبرى فوميكو إلى بريطانيا عام 1960 وهو في سن السادسة من عمره على أمل العودة إلى وطنه بعد عام واحد أو اثنين، لكن عائلته آثرت البقاء في بريطانيا، وهناك عمل والده في وظيفة حكومية ترتبط بعلوم المحيطات، وحول هذا الموضوع يقول إيشيجورو: "آثر أهلي البقاء في بريطانيا هربا من عار الهزيمة وكأنهم أرادوا الاغتسال من هذا العار بالمسافة والضباب لكى لا يتهدموا نفسيًا كجدران ناجازاكي عندما تهدمت بفعل القنبلة الذرية" (الرواية اليابانية الجديدة.. لقاء مع شاب، الطليعة الأدبية، بغداد، ع ¾، مارس/أبريل 1989 ص 134). قرأ إيشيجورو إبداعات اللغة الإنجليزية والفلسفة في جامعة كينت التي حصل منها على شهادة الليسانس عام 1978، وحصل على درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة إيست أنجليا عام 1980. وكان معلماه في ذلك الوقت هما مالكولم برادبري، وأنجيلا كارتر، وكانت أطروحته تتمثل في روايته الأولى "التلال الشاحبة" التي صدرت عام 1982 ولاقت ترحيبًا نقديًا حال صدورها. يقول إيشيجورو عنها: "عندما كتبت رواية "التلال الشاحبة" عام 1979 كانت قضية القنبلة النووية تؤرقني فأنا لم أعش تلك المرحلة، ولكنها عاشت معي من خلال العائلة، وما كنت أعرفه حقًا أن هذه المدينة هي إحدى مدينتين اثنتين فقط تعرضتا للقنبلة النووية في العالم كله. مدينتي ومدينة هيروشيما. أخبرتني أمي عن اليوم الذي سقطت فيه القنبلة، كانت عائلة أمي تعيش في الجانب الآخر من المدينة. وقد ألقيت القنبلة على إحدى جانبي المدينة، وكان تأثيرها على هذا الجانب كبيرًا، أما الجانب الآخر فكان تأثيره ضعيفًا إلى حد ما. لذا فإن تأثير القنبلة على عائلة أمي كان تأثيرًا إشعاعيًا فقط، وخلال أيام بقيت الجثث المحترقة في المدينة. وقد تحولت إلى رماد، وكان الوقت صيفًا، وكان هذا مشجعًا على انتشار الأوبئة، وكان الوضع أشبه بالجحيم، لقد كان مستحيلاً على الناس أن يبقوا دون أن يتأثروا بالإشعاع النووي. وقد استحضر أيشيجورو هذا المشهد في رواية "التلال الشاحبة"، وأيضًا في روايتيه "فنان في العالم المضطرب"، و"بقايا اليوم"، وقد عكست هذه الأعمال الخسائر الشخصية السائدة في سياق الأحداث العالمية من خلال الأصدقاء والعائلات والقتلى جراء القصف الذري لليابان من خلال الرواة الثلاثة الذين يتحدثون من داخل هذه الروايات عن المتخيل السائد في أحداثها.
كتب كازو إيشيجورو عددًا آخر من الروايات التي لاقت صدى كبيرًا على مستوى العالم منها "التلال الشاحبة" A Pale View of Hills1982، "فنان من العالم الطليق" An Artist of Floating World، "بقايا اليوم" The Renains of the Day1989، "من لا عزاء لهم" The Unconsoled 1995، "عندما كنا يتامى" When We were Orphans2000 ، "لا تدعني أرحل" Never Let Me Go 2005، "العملاق المدفون" The Buried Giant2015، ويتميز أسلوبه الفني بأنه التطوير الأوضح والأنضج لأسلوب تيار الوعى الذى سبق وأن اشتغل عليه كل من فوكنر، وجيمس جويس، وفرجيينا وولف، وفرانز كافكا، ويكشف في إبداعاته الروائية عن الحقيقة القاسية خلف تفاصيل الحياة اليومية، كما تتسم رواياته بأنها تفصح عن الحياة التي يشوهها الإدعاء والنفاق والكذب. كذلك كانت له مقدرة غير عادية على تصوير الجحيم من خلال الشعور الجمعي في العلاقات الدائرة في العالم خاصة ما هو مرتبط بالحروب والإرهاب.
وحول تبنيه لأسلوب تيار الوعي والفلاش باك وباقي التقنيات المعتمدة في الرواية الأوروبية الحديثة يقول إيشيجورو: "حينما أصابني فيروس ولزمت السرير أيامًا قليلة، اكتشفت شيئًا ثقيلاً ظل وجوده حاضرًا يؤرقني حتى وسط ثياب نومي لبعض الوقت، ولم يكن هذا الشيء في الحقيقة إلا المجلد الأول من "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست - حسبما كان المترجمون يترجمونه لنا - وجدته هناك في طيات ثيابي فشرعت في قراءته. ربما كان استمرار معاناتي من الحمى عاملاً، ولكن ما حدث هو أنني انبهرت تمامًا بجزئي المفتتح، وكومبراي، وهما عناوين يستهل بهما الكتاب روايته، قرأتهما مرارًا وتكرارًا، وبعيدًا عن الجمال الصافي في الفقرات، كنت أشعر بنشوة من طرق بروست في اتباع الحلقة بالحلقة، لم يكن يتبع في تنظيم الأحداث والمشاهد الترتيب الكرونولوجي المتواتر المعتاد، ولا الحبكة الخطية، بل هي تداعيات فكرية متماسة، أو تقلبات الذاكرة، وقد بدا أنها تحرك الكتابة من حلقة إلى الأخرى. ووجدت نفسي أتساءل في بعض الأحيان، ما الذي دعا بروست إلى وضع هاتين اللحظتين اللتين لا تربط بينهما علاقة ظاهرة جنبا إلى جنب في عقل الراوي؟ وأمكنني فجأة أن أرى أساليب مثيرة وأكثر حرية في تأليف روايتي الثانية، طريقة جديدة قادرة على إنتاج ثراء على الصفحة وتقديم تطورات داخلية يستحيل على أي شاشة أن تقبض عليها. لو أمكنني أن أنتقل من فقرة إلى أخرى وفقًا لتداعيات أفكار الراوي وتقلبات ذكرياته، لأمكنني أن أؤلف شيئًا على النحو الذي يختار رسام تراجيدي أن يوزع أشكاله وألوانه على القماش. ومن هنا يمكنني أن أضع مشهدًا حدث قبل يومين مجاورًا بالضبط لمشهد وقع قبل عشرين سنة وأطلب من القارئ أن يتأمل العلاقة بين الاثنين. وبدأت أفكر أنني بتلك الطريقة قد أعرض الطبقات الكثيرة من خداع الذات والإنكار التي تحيط برؤية شخص لذاته ولماضيه". (الحزن الملازم للحالة البشرية (حوار) مع الروائي كازو إيشيغورو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2017، ترجمة وتقديم لطفية الدليمي، ج المدى، ع 4034، 7/10/2017 ص 8)
وفى روايته "بقايا اليوم" أو "بقايا النهار" بحسب الترجمة، يشير إيشيجورو عن هذا العمل بأنه جاء مختلفًا عن الأعمال الأولى التي كانت يابانيته فيها عالية، أما هذه الرواية فقد كان طابعها الإنجليزي متطرفًا إلى أبعد حد، ويقول عنها: "كنت أرجو وقتها ألا تأتى على غرار ما كان يكتبه كثير من البريطانيين من الجيل الأكبر سنًا، كنت حريصًا ألا أفترض ما بدا لي أن أكثرهم يفترضونه وهو أن جميع قرائي سيكونون من الإنجليز، وهم يألفون بطبيعتهم دقائق الحياة الإنجليزية، وفى ذلك الوقت كان كتّاب أمثال سلمان رشدي ذي الأصول الهندية، وف. س. نايبول ذي الأصول الكاريبية، قد صاغا طريقة جديدة لأدب بريطاني أكثر دولية في شكله، أدبًا لا يخلع عن بريطانيا أي مركزية، كانت كتابتهما ما بعد الكولونيالية بالمعنى الأوسع للكلمة. وكنت أريد مثلهما أن أكتب أدبًا يعبر القارات قادرًا على تجاوز الحدود الثقافية والسياسية، حتى وإن كنت أكتب قصة تجرى أحداثها فيما يبدو عن عالم انجليزي قح. كان من شأن نسختي من إنجلترا أن تبدو أقرب إلى مكان أسطوري ظننت أن ملامحه حاضرة أصلاً في خيالي. هذا ما هدفت إليه في روايتي "بقايا النهار" وفيها نقرأ عن رئيس الخدم الذى يعيش في قصر قديم، يجد نفسه يبدو فيه مثل محتويات القصر متنقلاً من سيد إلى آخر، وعليه في كل مرة أن يكون مخلصًا في عمله، وأن يكون عبدًا مطيعًا في خدمة سيده والمكان أيًا كان صاحبه، هو في خدمة الولاء المطلق لصاحب هذا المكان، وحين يعرض عليه المالك الجديد أن يكون له شريكًا وليس تابعًا. يرفض على الفور، فهو لا يصلح سوى أن يكون هذا التابع المخلص الأمين، حتى أنه من فرط إخلاصه لعمله والمكان يصب جام غضبه على الأقدار التي جعلت والده يموت في نفس اللحظة التي سيقدم فيها الشاي لسيده. لذلك يقول إيشيجورو عن أبطاله: "أبطالي هم المهمشون الثانويون، الذين أبحث في طباعهم وضعفهم البشري عن تفاصيل الأنماط الجماعية". (كازو إيشيجور وبقايا العمر، د. محمود حسين، مج هنا لندن، ع 497، مارس 1990 ص 34) وعندما يعرض عليه صاحب القصر الجديد وهو رجل أعمال أمريكي أن يقوم برحلة إلى الريف الإنجليزي أثناء فترة تواجده بالخارج، يقوم "ستيفنسون" وهو أسم الخادم بهذه الرحلة لمدة ستة أيام وخلال الرحلة يغوص هو في ذاكرته، وهنا تتقاطع الذاكرة الجمعية مع الذاكرة الفردية، وكلما ابتعد ستيفنسون عن بوابة القصر اقترب كثيرًا من ذاته، إنها رحلة - على عكس ما تبدو- نحو الذات وما تحتويه من ذاكرة مضمرة، منسية. وكانت الرحلة هي زيارة الآنسة كينتون المدبرة السابقة للقصر التي غادرته قبل عشرين عامًا كي تتزوج، وعندما استلم ستيفنسن رسالتها علم منها أن زواجها فشل وأنها تريد العودة للعمل في القصر مرة أخرى. تتمتع الرواية بكم هائل من الإضاءات والغموض، خاصة وأن الكثير من السرد في نسيج الرواية يتضمن ذكريات "ستيفنسن" عن عمله كرئيس للخدم خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، وكانت مشاعره تجاه كينتون رومانسية مكبوتة، وهو ما أجاد "إيشيجورو" تصويرها في هذا العمل الروائي بل وفى بقية أعماله الأخرى، إذ استطاع تقديم أقنعة عدة، ما لبثت أن تساقطت بفعل تحولات الواقع معها، وما لبثت أن تكشفت من وراءها واقعية جديدة أكثر مرارة تجلت من وراء المناظر الطبيعية الرقية التي خلفها رئيس الخدم "ستيفنسون" وراءه خاصة في هذه الرواية الفائزة.
وفى رواية "من لا عزاء لهم" التي ترجمها إلى العربية طاهر البربري، تدور الأحداث في إطار غرائبي، وهى تعبر بالرمز عمن لا هوية لهم من خلال تدفق تيار الوعى المتسارع، حين نجد عازف البيانو "رايدر" يصل إلى قرية صغيرة ليلة الخميس لإنجاز بعض الأعمال المهمة، لكنه يواجه عالمًا جديدًا غير مألوف لديه، حيث يختلط الواقع بالحلم، وتكمن عناصر الإثارة في هذه الرواية من خلال عدم الاستقرار الذى تشهده الإحداث المتواترة، مما يدفع القارئ إلى التفاعل مع هذه الرواية المثيرة.
وفى روايته "فنان من العالم الطليق" التي ترجمتها إلى العربية هالة صلاح الدين، نتعرف على اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث تقع أحداثها في مدينة ناجازاكي خلال الأعوام 1948 – 1950 وما انتاب الشعب الياباني من مشاعر حين وجد نفسه إزاء حروب متواصلة، ويقول إيشيجورو عن هذه الرواية إنها تمد وعى القارئ لتعلمه أن يقرأ متسلحًا بالمزيد والمزيد من التفكر والتبصر" وقد صيغت هذه الرواية من خلال شخصية رسام عجوز اضطر إلى مواجهة اختياراته السياسية السيئة، وهو يحاول التذكر كيف حدثت هذه المأساة البشرية غير المسبوقة، ولا شك أن تحديد تاريخ استهلال النص بـ"أكتوبر 1948" إشارة واضحة بزمن ما بعد الحرب، وتداعيات ما آلت إليه الأحداث من دمار وخراب وهزيمة ماحقة لليابان، وفى نفس الوقت هو يرصد ثقوب الذاكرة، وأزمنة التاريخ المليئة بصور رحلة عبر الذات لتاريخ شخصية الفنان التشكيلى "أونو" التي تجسد ذاتها من خلال تاريخ الوطن الجريح في هذا الزمن الكئيب، زمن ما بعد الحرب، ويتلاعب الكاتب بالأحداث في أزمنتها الطافحة بمعاني مراوغة وأماكن تبين تحولات اليابان خلال تلك الفترة المليئة بزخم أحداث التحّول الحادثة في شيخوخة "أونو"، وما حدث على المستوى العام للوطن. الكاتب في نصه يمتلك براعة التشييد للأحداث، وتوظيف الذاكرة المكانية لاستعادة الحكايات والأحداث والشخوص مستفيدًا من تيار الوعي في رسم البطل المواجه لحياته والعائد إلى المكان في حنينه لأماكن اختفت من الوجود تمامًا. لكنه يواجه الواقع الجديد حين أبصر كيف عادت المدينة وتعافت بسرعة فائقة في هذا الوجود.
وفى روايته "حينما كنا يتامى" وفيها يتحرى إيشيجورو عالم الطفولة المفقود من خلال السارد "بانكس"، حين يفد إلى لندن وهو صبي صغير بعد اختفاء والديه من بيتهم في "شنغهاي" وحصوله – في نفس الوقت - على ميراثًا ضخمًا، وقدر جيد من التعليم لكنه يظل غريبًا على المجتمع الإنجليزي، وهناك يحاول أن يحل لغز مصير اختفاء والديه. ويتذكر أمه الشابة الجميلة الشجاعة وصراعها ضد تجارة الأفيون في عالم والده، وصديقه الياباني "أكيرا"، كما يستعيد ذكرى صديق العائلة "العم فيليب"، وفى خلفية الحرب التي تذكر تفاصيلها بانكس بكل وضوح، نجد الأرض الخراب التي تضم أوثانًا متهاوية، ومعتقدات خربة وسط دمار المدينة التي تعرضت للغزو، إنها حكاية خرافية فرويدية عن الانتقال المؤلم من عالم الطفولة والصبا إلى فترة المراهقة: "إن إيشيجورو يذيب في هذه الرواية الأزمات السياسية والشخصية ليخلق لحظات من التشويق المثير، إن الحبكة المعقدة للرواية تتمايل وتترنح عبر العقل الباطن المكبوت لـ "بانكس" مع رمزية واضحة لما فعلته الحرب في بشاعتها وعنفها، لقد كانت الحرب التي دمرت الإنسان في هذه المرحلة هي البعد الذى اشتغل عليه إيشيجورو في هذه الرواية". (أيشيجورو ورواية حينما كنا يتامى.. ترجمة نجاح الجبيلي عن مجلة TIME 24 أبريل 2000 ملحق ج المدى تاتو ع 90 فبراير 2018)
وفى رواية "لا تدعني أذهب" وهى رواية تسلك مسلك الخيال العلمي في كتابتها واختيار موضوعها والقضايا والإشكاليات التي تتضمنها، فهي تتمحور حول المستنسخات البشرية الدائرة في مدرسة أنيقة تدعى (هاليشام)، زمن الرواية ومكانها إنجلترا أواخر تسعينيات القرن العشرين، الشخصية المحورية هي "كاثي أتش" وهى راوية النص، تمضى في وصف نشأتها في مدرسة، الطلبة فيها عبارة عن مستنسخات بشرية، والمدرسون حراسها، يشجع الطلبة في (هاليشام) على إنتاج نوع خاص من الفن، لأنه كما يقول الحارس المتقاعد "سيكشف عن حقيقة ذواتكم الداخلية.. لأن فنكم سيكشف عن أرواحكم". الصورة الأساسية والأكثر جوهرية في الرواية بكاملها هي تلك التي نرى فيها كاثي وهي ترقص لوحدها على أنغام أغنية (لا تدعني أذهب أبدًا) وتلاعب في الوقت ذاته دمية تحتضنها. وهي تعرف تمامًا أنها لن تنجب أطفال بسبب هامشيتها الآلية، هي تحلم بأن يكون لها طفل ولكن هذا مستحيل لذلك هي ترتبط بهذا الطفل الدمية، وتلتصق به وهي تغنى له (طفلي.. لا تدعني أذهب أبدًا). الطفل إذن في الرواية هو المعادل الموضوعي العائش في آمالها وتطلعاتها الشخصية للمستقبل. لذا كان فقدان الأمل في شأن مستقبل طموحات المستنسخات البشرية هي التيمة التي اشتغل عليها إيشيجوروا في هذه الرواية وكأنه يعلن للعالم أن هذه الحياة الإنسانية فقدت أهم مبرراتها وهو الإنسان الذي أصبح بمرور الوقت دمية يتلاعب بها الآخرون، كما هو الحال في أشياء كثيرة تتشابه معها الشكل والتوجه.
قبل عامين نشر كازو إيشيجورو – في توجه جديد - روايته الأخيرة "العملاق الدفين" 2015 وهى رواية تدور أحداثها في إنجلترا في العصور الوسطى في عهد الملك آرثر، تستحضر الرواية الفريدة من نوعها في عالم إيشيجورو المخلوقات السحرية والأسطورية، فهل هي رواية عجائبية غرائبية؟ أم إنها رواية من وحى الخيال يلعب فيها المتخيل السردي دوره في بلورة الأحداث التاريخية واستدعاء قضايا الواقع من خلالها؟. وهل هي تصنف تحت ما يسمى بالخيال العلمي كما في روايته "لا تدعني بعيدا عنك"؟ فهو ليس سوى أداة ضرورية لمنح العمل الروائي قوة وامتدادًا دلاليًا، وارتباط بالسياق المكاني والتاريخي ووضعية الشخصيات في أدوارها المرسومة لها، فهذه المكونات تبقى في المقام الأول قيما رمزية.
وفى آخر رواياته وهي رواية "كلارا والشمس" 2021 يلجأ أيشيجوروا إلى فتنة الديستوبيا وأدب المجتمعات الفاسدة التخيلية، والعودة مرة أخرى إلى الخيال العلمي من خلال الذكاء الصناعي واحتمالات سيطرة التكنولوجيا الذكية وتحكمها في مستقبل العالم، وعن طريق مد يد المساعدة من كلارا إلى الشابة العاجزة جوزي من خلال تعريضها لأشعة الشمس كنوع من العلاج وبعد أن تشفى "جوزي" يتم تخزين كلارا في قبو المخزن المظلم، وبذلك تنتهي مرحلة إنسانية من حياة الاستعباد لهذا الروبوت الذكي من خلال انتهاء مهمته المصنوع من أجلها. وكما هو الحال مع رواية "لا تدعني أرحل" فإن التيمة التي اتبعها إيشيجورو في هذا العالم المستقبلي يترك لنا الكثير من تخيل أنفسنا وعالمنا، مما يجعل قراءة هذه الرواية متعة كبيرة. وهي إحدى اللمسات الرقيقة من الكاتب التي يتم استكشاف عمقها في نسيج الرواية.
لذا فقد سعى كازو إيشيجورو منذ بدايات بواكير أعماله إلى كتابة أدب يخاطب العالم والبشرية من خلال قيم جديدة، فما يهم الكاتب أولا وقبل كل شيء هو جوهر طبيعتنا البشرية والإنسانية، وهذا ما نجده في معظم رواياته وعلى الأخص رواية "بقايا النهار" إذ تصبح الشخصية وسياقها الاجتماعي والنفسي استعارة كبرى عن سياق اجتماعي وثقافي عام. فمن خلال تقديم عالم صعب للغاية في عالم هذا الكاتب يمكن أن ينعكس آثاره على القارئ الذي يشعر بشيء من الأمل ويمكنه أن يجعل الشمس تشرق من جديد في كثير من أعماله الروائية الحاضرة بقوة في المشهد الروائي المعاصر.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- غادة السمان أيقونة السرد العربي وقصتها "إنهم يدعّون الشمس تشرق من إسرائيل"
- للعرب خيالهم العلمي أنطولوجيا قصص الخيال العلمي العربية
- «المنتمي .. دراسة في أدب نجيب محفوظ» للدكتور غالي شكري
- «وديان الإبريزي» ومفارقات الأحلام المتنقلة
- بين ثلاثيتي «مكسيم جوركي» و«نجيب محفوظ»
- جوزيه ساراماجو الكاتب الاستثنائي في الرواية البرتغالية
- الميتافيزيقا في إبداع نيكـوس كزنتزاكي
- أشينو أتشيبي أيقونة السّرد الأفريقي
- توني موريسون أنشودة الرواية الأمريكية
- كازو إيشيجورو وعالمه الروائي المناهض للحرب
- إريش ماريا ريمارك وديستوبيا الرواية زمن الحرب
- إشكالية الموت واقعه وما وراءه في قصص دينو بوتزاتي
اكتب تعليقك