الجنسانية المصرية (2)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 07:15:29

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد

ومن هذه المواقف، الموقف من ختان الإناث الذي يقوم على قطع أجزاء من أعضاء الفتاة التناسلية، ما يؤدي إلى إضعاف إحساسها بالرغبة الجنسية ومن ثم المتعة، وهو ما يدفعها إلى السيطرة على نفسها، وعدم الاستسلام لشهوتها للذكور حيث تصبح موضوعًا لشهوة الآخرين واستمتاعهم، ثم تصبح في دائرة المفعول به الضعيف المهين.

وقد جاءت هذه الحقيقة في رواية نوال السعداوي "امرأة عند نقطة الصفر" حيث تكثر شخصيتها المركزية "فردوس" من التشكي من أنها بعد ما "قطعوا قطعة من اللحم بين فخذيها" لم تعد تشعر بتلك اللذة التي كانت تجدها مع الصبي "محمدين" عندما كانا يلعبان في الحقل، فتذكر أن ما تجده من متعة جنسية هي بعيدة عما خبرته في تجربتها تلك "فكأنها ضاع المكان، أو كأنما جزء من كياني اختفى مني إلى الأبد"، وهي العبارات التي تكررت في أكثر من موضع.

ويتفق مع هذه الصورة في الرواية السردية الاجتماعية الرسمية لهذا الفعل التي ترى أن "التقليل من رغبة المرأة" يهدف إلى حماية المرأة من الخيانة الزوجية، وتعزيز قدرتها على إغواء الرجل، التي يبدو أنها تتم عن طريق السيطرة على نفسها وعدم الاستجابة لمراده بسهولة، وإنما بالقدرة على المناورة. وهذا يمنحها القدرة على مقاومة الاستسلام لرغباته والوقوع بحبائله بسهولة بوصفه نوعًا من الضعف والمهانة، فتكون ألعوبة له، فهو ينظر إلى أن "الضعف الجنسي" بوصفه قوة تتحصن بها المرأة من أن تكون موضوعًا للمتعة بأكبر قدر ممكن، وربما -أيضًا- بالقدرة على دفع الرجل لتقديم أكبر عوض ممكن مقابل الاستجابة لما يريده منها (ما تقدمه له من لذة).

وفي مقابل هذه "التصور الإيجابي" للختان، رأت الحركة النسائية أن الختان مضر بالصحة النفسية للمرأة، وأنه، بعيدًا عن صراع الديك والدجاجة الذي تقوم عليه الجنسانية المصرية، يؤثر على قدرة المرأة إلى الوصول الذروة الجنسية وهو ما ينعكس على قدرتها على الاستمتاع الجنسي، ويضر بصحة الفتاة النفسية، مما يعد محاولة للخروج من الجنسانية التقليدية للمجتمع المصري. (سوسيولوجيا الجنسانية العربية)

هذه القدرة على الإغواء أو الإغراء التي تسعى السردية الرسمية التقليدية على تعزيزها لدى المرأة المصرية بالختان، تدفعنا مرة أخرى إلى قضية أبعد من ذلك، وهي ما يمكن أن يسمى بـ"تسليع" الجنس ومن ثم المرأة، فالمرأة كما قلت بالفقرة السابقة حين تكون قادرة على أن تسيطر على نفسها في مقابل حاجة الرجل وضغطه وإلحاحه، فإنها تمتلك القدرة على المساومة، وانتزاع أكبر عوض أو مقابل مادي لما تقدمه له من متعة ولذة.

هذا الوعي بهذه القيمة المادية للجنس، لا أقول دفع إلى انتشار البغاء، وإن كانت النصوص االروائية مملوءة بهذه القضايا، لكنه دفع الناس إلى أن ينظروا إلى الأنوثة والمرأة بصورة أخرى، فهي وسيلة كسب الرزق، ودر المال بصور مختلفة، تأتي في رواية "الممسوخ" على صورة بقرة، يستدرونها مالاً كما تستدر البقرة الحليب حتى لو كانت هذه المرأة تعمل في مجال الفن أو الصحافة أو غيرها:

"-الفن أصبح له سوق كسوق المواشي تمامًا. الأسعار فيه تختلف باختلاف كمية اللبن التي تعطيها كل بقرة ومدى انتفاخ ثدييها وأحيانًا قدرتها على التنطيط أو النعيق.

"- لديك حق...البقر المصري يواجه حالة زيادة في الطلب، على ما أسمع هناك بقرة عادت بعد أسبوع واحد في الخليج ومعها سيارة "جاجوار سبور".

فهذه الأنوثة، وما تحمله من قدرة على الإغواء تدعو المؤسسة الاجتماعية إلى تعطيلها أو التخفيف من سلطتها بـ"الختان"، تتحول إلى أداة لاستدرار المال من خلال قيام مؤسسات إعلامية، وفنية كاملة عليها بما فيها من موظفين وإدارة وعاملين. فالصحف تزيد مبيعاتها من خلال نشر صور فتيات وقد كشفن عن أجزاء من أجسادهن، والفنانات يحققن شهرة ويزدن أجورهن بناء على هذه المبيعات المرتفعة، والإقبال عليهن، ما ينعكس بعد ذلك على المؤسسات التي تقوم بإدارة الفن وإنتاجه ومن ثم الفن نفسه.

هنا تكتمل المنظومة الفلسفية التي ينطلق منها العقل الجنساني المصري التي تدعو إلى الختان مرة وتتاجر بأجساد النساء مرة أخرى، فالختان لا يقصد منه الفضيلة، وهذه الصور المنشورة أو حتى الأعمال الفنية المماثلة لها لا يقصد منها الرذيلة، وإنما يقصد منها إدارة الإغواء والقدرة -لا أقول التحكم- وإنما على صناعة الجسد (على طريقة فوكو) تلك الصناعة التي يصبح بها الجسد مكينة إنتاح للمال؛ يمكن الختان الفتاة من أن تمارس دورها في لعبة شد الحبل دون أن تخسر موقعها حتى تتيقن أنها قد أثخنت الخصم ولم يعد قادرًا على الصمود أمام إغرائها. والوقوع هنا ليس أن يستجيب لمتطلبات الجسد، وإنما ليسلم لها ما معه من مال.

والذي يؤكد هذا البعد المادي للختان ما ذكرته نادية العلي (الحركة النسائية المصرية) من أن أعضاء المهن الطبية يميلون إلى دعم الختان، بالرغم من إساءته لحقوق الإنسان، وذلك لما يمثله من مصدر دخل لهم.

وبتسليمها المال يكتمل تسليم السلطة والقياد لها. إنها لعبة ما يسميها "فوكو" في حديثه عن جنسانية اليونان، السيادة، والتي تقوم على أن قدرة الرجل على التحكم بأهل بيته يعني صلاحيته لإدارة الشأن العام، وأن تسلط أهل بيته عليه يعني ضعفه وعدم قدرته على ما يطلب منه، وفي هذه الحالة تكون السلطة بيدها والقوة كذلك بيدها حين تتمكن من أن تنتصر عليه بصراع الديك والدجاجة وتتمكن من هزيمته ونزع جميع مقاومته قبل أن تستجيب له.

لكن هذا يتصل بالعلاقة بين الرجل وزوجته، فما الشأن في علاقة الرجل بالنساء الأخريات، الذي تقوم الجنسانية المصرية على تقوية هذه العلاقة كما في صور الفنانات السابق الذكر أو في حديث إدوار الخراط وهو يصف حفلة من حفلات (الانفتاح) حضرها لأحد أصدقاء رامة القدماء، حين كان يعدد الحاضرين: "وسيدات أعمال ومشتغلات بالسياحة نصفهن شراميط مثقفات -يعني- وكلهن بشهادات عالية" (الزمن الآخر).

فهذه الحفلة تقام في السبعينيات أو ربما في الثمانينيات تكشف عن وجه جديد للمجتمع المصري، تمارس فيه النساء أعمالاً عمومية أو اجتماعية بارزة، تتجلى هذه الأعمال كما يعددها إدوارد: محاميات، طبيبات، سيدات أعمال، مشتغلات بالسياحة، مثقفات، ويشتركن جميعًا بأن "نصفهن شراميط"، وبشهادات عالية.

كلمة "شراميط" ليست محددة الدلالة، وأحسن ما لقيت في شرحها أنها مأخوذة من الكلمة الفرنسية "charmante" التي تعني جميل وأخاذ، وكان الفرنسيون يطلقونها على نسائهم المتبرجات (المتزينات للجمهور)، ولأن هذه الفعلة غير حميدة عند العرب في الوقت الذي اتصلوا فيه بالفرنساوية، فكانوا يعدون ذلك نوعًا من العهر بناء على أن الثقافة العربية التقليدية تصف المرأة المتعطرة بالزانية، وعلى هذا فهؤلاء النسوة عند أولئك زوان عواهر، وصارت الكلمة تدل على هذا المعنى (بالمناسبة هذه الكلمة الفرنسية تشبه الكلمة العربية بالنطق والمعنى "شمحوط" وتعني الطويل الأنيق).

المهم أن هؤلاء النسوة لسن عواهر بالمعنى الحرفي، ولا زواني كذلك، كما أن المرأة المتعطرة إذا مرت على الرجال ليست زانية بالمعنى اللغوي ولا الشرعي، وإنما المقصود أنها خرجت عن حدود الأعراف والتقاليد التي تحمد في المرأة الحياء والاحتشام، وتكره التبذل والتهالك، وهذا يعني أن "الشرموطة" هي التي لا تبالي بمواضعات المجتمع أو قواعده فيما يتصل بالعلاقة بالرجال، (على كل الحديث في هذا يطول ولا أريد أن أنجرف لتفصيل القول فيه) وإنما تتجاوزه غير هيابة ولا وجلة أو خائفة مما يمكن أن يقال عنها من كلام مسيء، أو بما تنعت به أو يظن بها الظنون دون تحديد فعل معين.

وهذه الصفات وما يتبعها من أفعال هي من صميم الإغراء، وهذا ما يعني أنه بناء على اعتبار الإغراء أو الإغواء أمرًا محمودًا لدى المؤسسة الاجتماعية المصرية الرسمية، كما في وجهة النظر التي تحض على الختان، فإن ما يمكن أن يوصف بـ"الشرمطة" أو "التشرمط" ليس أمرًا مذمومًا بناء على أنه يتصل بهذا الحقل المقصود لذاته.

وهنا يأتي السؤال عن قيمة هذا الإغراء و"التشرمط" بين المثقفات وصاحبات الشهادت العليا كما يقول إدوار الخراط، إذا لم يكن سيخضع إلى نفس العملية التي قادت إليها تلك الظروف بين الرجل وأهل بيته، وإلى النتيجة نفسها؟

يبدو أننا سنعود مرة أخرى إلى الرجل الفرنسي المدعو فوكو والذي يربط بين الجنس والسيادة مرة أخرى، فهو يرى أن اليونان يذمون في الرجل الإفراط في تناول الملذات الجسدية، ويرون أن من كمال الرجل وحسن شرفه أن يكون قادرًا على أن يعتدل في ذلك. هذا الإفراط والاعتدال يتصلان بمصطلح ثالث هو "التساهل"، فالإفراط والاعتدال إنما يأتيان من التساهل وعدم القدرة على ضبط النفس والتحكم بها أمام المغريات، وإذا كان الإنسان لا يستطيع ان يتحكم بنفسه وأن يضبطها ويمنعها عن هذه النسوة المغريات، فيتبع نفسه هواها، فإن هذا يعني أنه ضعيف أمام نفسه لا يصلح للسيادة وتولي شئون الآخرين.

إضافة إلى أن هذا الاعتدال، وعدم التساهل، وأخذ النفس بالعزيمة يجعل الإنسان على أهبة الاستعداد في حالة اقتحام عدو للمدينة، ومن لم يأخذ نفسه بالمجالدة والمجاهدة بمنعها عن الوقوع في الملذات، فإنه لن يستطيع أن يحملها على المكاره في مواجهة الأعداء والغزاة.

هذا التماثل بين المدينة والفرد يعزز التماثل بينهما في وجوه أخرى، فكما أن للمدينة أعداء يتربصون بها، طامحين إلى فرض السيطرة عليها، كذلك الفرد له أعداء من نفسه وهم الشهوات والرغبة في تحقيق الملذات، وكما أن المدينة ينبغي أن تتحرر من أعدائها فكذلك الفرد ينبغي أن يتحرر من أعدائه من داخل نفسه، فيحقق الحرية الكاملة أو أن يسقط في العبودية فيكون عبدًا لأهوائه وشهواته.

وهنا نجد أن العار -إن صح التعبير- لا يأتي فقط من الوقوع في دائرة المفعول به، أو أن الوقوع في دائرة المفعول به، لا يتم فقط من الموقع في الفعل الجنسي، وإنما يقع أيضًا من الاستسلام للجزء الأسفل من الذات، وهو الذي نسميه بـ"النفس الأمارة"، ومنحه الحق بالتحكم بالفرد.

فهؤلاء الفتيات سواء كن من أصحاب الشهادات أو المثقفات أو ربات الأعمال والسياحة، الموصوفات بأنهن "شراميط" في كلام الخراط، يقمن بوظيفة اجتماعية تتمثل بتوفير التجارب الصعبة، والإغراءات العميقة حتى يضعف الرجال المخالطين لهن ويستجيبون لإغوائهن، ويصيرون ألعوبة لرغباتهن وأهوائهن، رغبة بصقل تجاربهم واختبار قدراتهم وطاقتهم في لجم النفس وتحمل المشقات، ومكابدة الأهواء والمشتهيات حتى يصيروا قادرين على قيادة نفوسهم والقيام بما يراد منهم من قيادة الآخرين وعمارة الأوطان.

وفي الحالتين نجد الجنسانية لا تقتصر على "التسليع"، وإنما تتجاوزه إلى أن تقوم بدور سياسي من جهة تمييز الصالح للحكم، فمن خلال القدرة على تمييز الصالح لإدارة البلد، وبيان الاستعداد الفطري للحكم سواء عن طريق اختبار سيطرته على شئون المنزل أو على الذات يقوم "الجنس" بدور سياسي من جهة قدرته على فرز الناس إلى نخبتين: نخبة حاكمة وأخرى محكومة لا تصلح أن تتولى الشأن العام، ومن خلال هذه القدرة أو الصبغة الدامغة يقدم الجنس أداة معرفية يستعملها المتصارعون على القيادة، ينبزون خصومهم بأنهم ضعاف غير صالحين للقيادة والزعامة بناء على إخفاقهم في نتائج الامتحانات الجنسانية، وبقدر شعبية هذا المقياس وقبوله لدى الناس تصبح فاعليته، وقدرته على دحض الخصوم واستبعادهم من المنافسة. هنا تأتي الشهادة ليست بوصفها عاصمة عن "الشرمطة" وإنما بوصفها إحدى الأدوات  التي يستخدمها المجتمع لشحذ القدرة على الإغراء.

نتج عن هذا التحول في الجنسانية المصرية نحو وظيفة الجنس في المجتمع، تحول في صورة البغي والموقف منها، فعوضًا عن أن تكون وسيلة ينفس فيها الرجال الذين لم يتمكنوا من الزواج عن طاقتهم الجنسية، وهو ما يجعلها في المحل الأدنى من المجتمع، أو أن تكون امرأة قد دفعها البؤس الاجتماعي والفقر إلى هذه المهنة، فهي ضحية للمجتمع (كما هي الرؤية الرومانسية)، نجدها امرأة قوية ذات صولة وطولة، تختار مهنة البغاء عن قصد واختيار لما تمدها به من مال وسلطة على الرجال، نجد ذلك في شخصية حميدة في (زقاق المدق) حين تصف نفسها بعد أن انخرطت في سلك البغاء: "أياك أن تتصورها امرأة شهوانية تستحوذ عليها شهوة طاغية"، بل إنها شهوة السيطرة والسطوة".(صورة المومس في الأدب العربي، جان نعوم طنوس).

السيطرة على نفسها أولاً ثم السيطرة على الرجال والتحكم بهم، سواء فرج القواد، والذي لم تقع في حبائله إلا طمعًا في السيطرة عليه، أو حسين الحلو الذي رغبت في أن تحوله أداة للانتقام من فرج والتخلص منه، ثم التخلص من حسين على يد بعض زبائنها من العسكر الذين يجدون في الخدمة التي تقدمها قيمة كافية للإقدام على قتل عاشق غر كحسين.

وهنا أصبحت البغي شخصية قوية تختار طريقها بعناية، وتتخذ قرارها بنفسها، معتدة بنفسها لا تبالي بما يقوله الآخرون ما دامت هذه المهنة ستحقق لها المال والنفوذ والقوة، وستجعلها ذات سيطرة اجتماعية تنقلها من منزل ضيق في أحد الأحياء الفقيرة إلى منزل فسيح في أحد الأحياء الراقية، وتمكنها من البقاء في هذه الحياة مظفرة في حين يموت الآخرون أصحاب المثل النبيلة من أمثال حسين في سبيل دفاعهم عن تلك القيم.


عدد القراء: 1815

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-