الجنسانية المصرية (3)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 08:58:10

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد

على أن أمر البغاء أو البغي لا يقتصر على موضوع السلطة والقوة، وإنما يتجاوزه في الجنسانية المصرية إلى أبعد من ذلك ليمثل نوعًا من إعادة صياغة الوعي الجمعي حيال بعض القضايا الحساسة التي تتصل بالثقافة والفكر، والمجتمع.

نجد ذلك في حوار محفوظ عجب مع الراقصة سوسن في رواية "دموع صاحبة الجلالة"، حين غضب محفوظ من مغادرتها إياه إلى دعوة أحد أصحاب الشأن، وعزم على فصم عرى الصداقة. تقول سوسن: "ولو كنت عرفته، وطلب منك كتابة أي مقال، في أي اتجاه..هل كنت سترفض؟..أنت تريد أن تصورني داعرة بجسدي..أنت داعر أيضًا بقلمك. ما حدش أحسن من حد" (ص188)

هناك مفهوم للدعارة لدى سوسن يتمثل في أن تقدم جسدها على خلاف رغبتها، وفي أي اتجاه بناء على الثمن الذي ستقبضه من ذلك الفعل، اعتمادًا على تعريفها لدعارته بقلمه. وبما أن هذه هي الدعارة، من وجهة نظرها، ليست مربوطة بفعل الجنس نفسه، ولا بالجسد وإنما عام في كل ما يشبه هذا الموقف، هذا ما يبدو للوهلة الأولى، فإننا حين نتعمق في الصورة (تشبيه قلم الكاتب بجسد العاهرة) نجد أن وجه الشبه قائم على التفكير الجندري الذي ينظر إلى الأشياء من زاوية ذكر وأنثى.

سنفكك الصورة التي بين أيدينا، فالقلم يشبه في تكوينه العضو الذكري، وفي كثير من الثقافات اتخذت الأشكال الطولية رموزًا له في الحضارة الهندية والمصرية القديمة (Sexuality and Space, P290)، وفي هذه الثقافات يأتي الذكر بوصفه رمزًا للقوة (المرجع السابق) كما أن القلم أيضًا يرمز للقوة في الثقافة العربية، فهو يقابل السيف كما في المناظرات المعروفة بين السيف والقلم (ابن برد الأندلسي أو رسالة ابن الوردي)، كما أن السيف بالعربية يسمى الذكر. قال المهلهل:

صليل البيض تقرع بالذكور

بناء على رمزية القوة، ومن هنا نجد أن العلاقة بين القلم والذكر تأتي من زاويتين: الأولى الشكل الخارجي، والثانية رمزية القوة. لكننا في هذا الموقف لا نجد موازنة القلم بالسيف أو الذكر الذي يرمز للقوة، وإنما بالذكر الذي يقابل في جسد المرأة الفرج. (في الثقافة الشعبية في نجد هناك ربط كبير بين القلم والعضو الذكري ولكن في الغالب على سبيل السخرية، والإحماض).

ومع أن "الدعارة" التي يتكلم عنها المقطع، لا تقتصر في الحقيقة على هذا الجزء من جسد المرأة، وإنما هي مجموعة من السلوك التي تتصل بجسد المرأة بوجه عام، تقدم فيها المرأة الخدمات المتصلة بالجنس مقابل المال، فإن حصر الدعارة بهذا الجزء مما يعد مرتبطًا بالجنسانية المصرية، وهو ما كان موضوع المقال السابق.

إلا أنني لا أريد أن أتحدث عن هذه القضية، وإنما أريد أن أتحدث عن أن هذه المقابلة بين العضوين تقتضي أن ما يقوم الرجل بعضوه يعد في الجنسانية المصرية أيضًا دعارة، وهذا أمر على غير ما تجري به العادة ويستحق نوعًا من النظر ليس هذا محله.

وبناء على هذه الرؤية، فإن ما يمثل رمزًا لهذا العضو (القلم في هذه الحالة) يصبح داعرًا كذلك، وبعيدًا عن أن هذا يخالف كل المفاهيم والأفكار والنظريات سواء في علم الأخلاق أو في السياسة، التي تحمل مصطلحات متصلة بالكتابة، مثل: "اختلاف وجهات النظر"، "تناول الموضوع من زوايا مختلفة"، "نفاق"، "مجاملة"، "بادرة حسن نية"، "عربون صداقة"، وليس منها أن كتابة مقال في غير ما يؤمن به الكاتب "دعارة" أو "عهر"، فإن هذا يعني أن "الكتابة" أجمع بوصفها عالمًا متكاملاً في الجنسانية المصرية، هي فعل جنسي سواء كانت دعارة أم لم تكن، فإن كانت عن طيب خاطر موافقة لهوى الكاتب ووفق الضوابط المعروفة فهي ليست دعارة وإن لم تكن كذلك فهي دعارة.

هذا الترميز الثقافي والاجتماعي لأعضاء الذكورة والأنوثة يحيلنا إلى ما يقوله أصحاب الدراسات الجندرية عن الجندر بوصفه معطى ثقافي اجتماعي التي ينطلقون بها من مقولة سيمون بوفواغ: "الإنسان الذي لم يولد امرأة ولكنه بالأحرى قد صار كذلك" (Judith Butler Gender Trouble, P111)، ولا تتحدث فيها عن أن هناك نوعًا من الناس ليسوا في الأصل نساء ثم تحولوا إلى نساء بفعل التربية أو ظروف اجتماعية معينة كما يبدو من الجملة في الصياغة العربية، وإنما تتحدث عن أن المرأة تتعرض لنوع من التنميط يبدأ من الساعة التي يقال فيها: "إنها بنت"، إذ تبدأ الأسرة بإعداد الملابس والأقماط، والألعاب التي تناسب البنت ثم تدخل في عملية تنميط اجتماعية متكاملة تجعل منها كيانًا منفصلاً عن الذكر مختلفًا عنه في كل شيء يسمى الأنوثة والفتاة، وهذا ما يجعل تقسم الناس إلى ذكر وأنثى تقسيمًا اجتماعيًا في المقام الأول تقوم فيه اللغة والثقافة بدور حاسم.

المشكلة أن هذه النظرية (باعتبار النوع معطى ثقافي واجتماعي) تواجه بالرؤية الأخرى التي تقضي بأن الجندر هو الجنس، وإذا انعدم الجنس انعدم الجندر (رؤية مونيكا فوتيك، Gender trouble, P112)، والجنس هنا بمعنى أعضاء الذكورة والأنوثة بشكل مبدئي، وعليه، فإن الاعتماد على التأثير الثقافي والاجتماعي في تكوين الجنس وحده ليس كافيًا.

وعلى الرغم مما يبدو أن فوتيك تعارض بوفواغ فيما ذهبت إليه في حقيقة العلاقة بين الثقافة والجندر، فإنها على الحقيقة تذهب أبعد من ذلك حين ترى أنه إذا كان تحديد الجندر يعتمد على المعطى الجنسي، والمعطى الجنسي ليس محددًا، فإن هذا يعني أن الجندر ليس محددًا أيضًا (المرجع السابق). الأمر المهم أن هؤلاء النسوة يرين أن الجسد ليس هو المعتمد في تحديد النوع، ومن هنا يمكن أن يكون هناك ما يسمى بما وراء تصنيفات الجنس Beyond the categories of sex”.

ولتأكيد هذه القضية، فإن بتلر تفزع إلى كتابات فرويد ومن بعده لاكان عن الجنس، وتكون المشاعر الجنسية عند الإنسان منذ الصغر التي يمر بها على -حد تصور فرويد- بثلاث مراحل يتم من خلالها تحديد ميوله الجنسي، ثم تخرج بتحليل طويل ومعقد لآرائهما يختلط به علم النفس باللغة، تقسم فيه مناطق الإحساس الجنسي عند الإنسان إلى مناطق رئيسية وأخرى بديلة، وأن العلاقة بينهما علاقة معقدة تأخذ بعدًا خياليًا، وواقعيًا، يتبادلان فيها أدوار الهامش والمركز، ويتم فيها التقابل بين عضو المذكر والمؤنث. والذي يهمنا في هذا الحديث الطويل أن فرويد يقول: "إنه يمكن أن نقرر الاعتبار أن الإثارة الجنسية هي المكون الشخصي العام لكل أعضاء الجسد، وأننا يمكن أن نتحدث عن زيادة تلك الإثارة أو نقصانها في كل عضو من هذه الأعضاء" (Judith Buttler, Boddies that matter, p 61).

لا أريد أن أفصل القول في هذه التحليلات، ولا ما يمكن أن توصل إليه من نتائج، ولكن المهم هنا هو هذه الإمكانيات المتعددة التي تمنحها للأجساد هذه الفلسفة، والتي لا تقوم فيها على فكرة أصل الطبيعة وآخر غير طبيعة، أو أن الأحياء قد خلقوا على نمط ذكر وأنثى، وإنما الحديث عن "الممكن" فيما يراه من الناس بحسب الإمكانات المتاحة، وهي إمكانات كما ترى هذه التحليلات كثيرة.

 وهو عينه ما انطلقت منه سوسن في حديثها إلى محفوظ عجب حين ساوت بين القلم والعضو المؤنث، إذ وضعت باعتبارها الاحتمالات، فهي مساواة بالوظيفة والإمكانيات، يتحول فيها القلم من رمز معادل للعضوي الذكري إلى العضو الأنثوي من حيث إنه يتصف بالدعارة، فيقوم بوظيفته من خلال هذه الإمكانيات (الاحتمالات) التي يذكرها فرويد، لأن محفوظ عجب، كما في ظنها لم يفعل ذلك بعد (لم يكتب شيئًا مخالفًا لما يراه صوابًا)، ولكن فيما إذا لو طلبت منه تلك الشخصية الكبيرة فسيستجيب، وهذا الاحتمال ليس بناء على معرفتها بمحفوظ وإنما بناء على معرفتها بالشخصية الكبيرة والإمكانيات التي يتيحها تكوين القلم من وجهة نظرها، لأنها لو عرفت محفوظاً حق المعرفة لعلمت أنه منذ البدء متسلق كاذب لا يحتاج أن يطلب ذلك منه أحد كبيرًا كان أم صغيرًا.

وفي الوقت الذي رأينا معنى أن يتحول الجندر إلى فعل ثقافي كما هو لدى النسويات، فما معنى أن يتحول الفعل الثقافي إلى فعل جنسي كما هو في رؤية سوسن ومن سار بركابها. بعيدًا عن نظريات فرويد في التحليل النفسي للعمل الفني، فإن هذا التحول يفقد العمل الثقافي نوعيته بوصفه نتاج العقل ويدل على المرحلة المتقدمة من الإنسان الناضج، ويجعله فعلاً بدائياً يشترك الإنسان فيه مع الحيوان وكأنه غريزة من الغرائز، ولو تحدثنا بلغة التحليل النفسي لقلنا: إن هذا سيجعله يتحول من "الأنا العليا" الذي يمثل الإيقو والقيم، والواجب وكل فعل حميد إلى أن يكون جزءًا من "الهو" المتحرر من القيود الذي يعمل بمبدأ اللذة والبدائية، وهو ما سيجعله بمنزلة دنيا بالنسبة لقيمة العلم المعروفة.

لكن الأمر المشكل الآخر، هو أن الكتابة والعمل الثقافي سيأخذ مأخذ الجنس في المجتمع، بمعنى أنه سيكون من التابو (المحرمات)، وسيخضع لكل القواعد والقيود التي يخضع لها الجنس، وهذا ما سيجعله عملاً يميل إلى السرية، ويحد من انتشاره وتداوله، وعوضًا عن أن تكون فتنته متصلة بالعقل والروح ستكون متصلة بالجسد، وبالشكل، فإذا لم يحقق فتنة الجسد، بمعنى آخر إذا لم يمنح الجسد لذة إما توصل إلى اللذة الجنسية أو تعادلها فلن يكون له قيمة تذكر بوصفه مربوطًا بها.

إضافة إلى أن تعاطي الكتابة والعمل الثقافي على هذا النحو يجعل قراءته أمرًا عسيرًا خاضعًا للتأويل المغلوط الذي يحل فيه الجنس محل الأفكار والصور والأخيلة.


عدد القراء: 401

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-