كتابة تاريخ الأدبالباب: مقالات الكتاب
أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي أستاذ الأدب والنقد |
ينقسم الباحثون في تعريفهم لتأريخ الأدب إلى قسمين؛ فمنهم من يرى أنه تاريخ في المقام الأول وإنما يعنى بالجانب الأدبي من تاريخ الحقبة السياسية المعينة، في حين يرى آخرون أنه دراسة أدبية باستعمال المنهج التاريخي، بمعنى أنه دراسة الأدب في حقبة تاريخية معينة، فيهتم بالشعراء وحيواتهم، والموضوعات التي تحدث فيها الشعراء أو الأدباء، كما يعنى بالتطور الذي أصاب الأدب سواء في الموضوعات أو الأنواع الأدبية، أو طرائق التعبير، ويربط ذلك في الظروف السياسية والتاريخية.
ففي التعريف الثاني الأصل هو الأدب وقضاياه، وربطه بالظروف التاريخية والسياسية لإضاءة الجوانب المختلفة من الأدب نفسه، في حين أن التاريخ في الأول هو الأصل، والنظر في الأدب بوصفه جزءًا من الحقبة دون الولوج في التفاصيل الدقيقة للأدب وقضاياه.
ويظهر الفرق بينهما بصورة واضحة عند التطبيق، من ذلك مثلاً قول كثير من الدارسين في تفسير شعر المجون في العصر العباسي من مثل ما هو عند والبة وبشار وأبي نواس وغيرهم، أنه انعكاس للمجون في العصر العباسي، فقد انتشر في أوساط الناس بصورة كبيرة، ويذكرون بعض الأسباب التي تجعل هذا القول معقولاً.
لكننا لا نتساءل ونحن نقرأ هذا التفسير، هل يمكن أن يكون هذا الشعر فعلاً انعكاسًا للمجتمع العربي في القرن الثاني والثالث الهجريين، وهل كان أولئك القوم الذي أنتجوا تلك الحضارة منغمسين بهذا المجون والدعة على نحو ما يظهر في هذا الشعر؟ وهل كان المجون في القرن الثاني والثالث أكثر منه في العصر الذي سبق الإسلام حتى يؤثر على الشعر بهذه الصورة؟
هناك صلة بين المجتمع والشعر بالتأكيد لكن الأمر الأكيد -أيضًا- أن هذا الشعر ليس انعكاسًا للمجتمع، ولا حتى انعكاس جزء منه كما يحلو للبعض أن يصوروه، وإنما هو انعكاس في الحقيقة للشعر نفسه، والفضاء الفني الذي يتحرك فيه، وهو الغناء والطرب والغزل، ومجال المتعة بوجه خاص أليس الشعر نفسه أداة للإمتاع والاستمتاع، ألم يقل قائلهم:
إذ الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس خليقاً أن يُقال له شعر
والاهتزاز إنما يأتي من الطرب.
ومن خلال هذا المثال نستطيع أن ندرك الفرق بين التعريفين، فالنظر في الأدب بوصفه جزءًا من التاريخ لا يوصلنا إلى تفسير للظاهرة المذكورة من قبل، لأنه لا صلة كبيرة بين واقع المجتمع وهذه الظاهرة، ولكن النظر إلى الأدب نفسه من خلال مكوناته، وطبيعته، ووظيفته، والوقوف على حيوات الشعراء بالتفصيل توقفنا على تفسير لهذه الظاهرة، وهي أن طبيعة الشعر تدور في فضاء الملذات، والمتع، وأن الشعر يصور الخيالات والشهوات، وما يبعث في النفس النشوة والأنس، إضافة إلى أنه من الممكن أن تكون حياة هؤلاء الشعراء وما يعيشونه من لهو أثرًا في ظهور هذا اللون لديهم.
على أن القول بظهور شعر المجون في الشعر لا يكتفى فيه بما جاء في كتاب الأغاني مثلاً مع أنه مصدر كبير من مصادر الشعر، ولا فيما جاء من روايات في كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز، أو معجم الأدباء لياقوت، أو غيرها من مصادر الأدب، وإنما يعتمد فيه على الدراسة الشاملة لدواوين الشعراء الذين اشتهروا بهذا الفن من القول، والوقوف على عدد قصائد ذاك من الشعر لديهم، ونسبتها بالنسبة لسائر أشعارهم، ونسبتها بالنسبة لشعر العصر أجمع، بحيث نستطيع أن نحكم حكمًا قاطعًا فيما إذا كان هذا الشعر هو الغالب في ذلك العصر أو لم يكن، أو من الموضوعات البارزة.
فوجود شاهد على ظاهرة ما لا يعني أن هذه الظاهرة صحيحة وموجودة من الناحية العلمية خاصة إذا كانت المادة العلمية التي ينحدر منها الشاهد متسعة وطويلة، وإنما لا بد أن يكون الحكم صادراً بعد الاطلاع على المادة أجمع وقياسها وفق المعايير السابقة الذكر، ويكون الشاهد مجرد استشهاد على الظاهرة وحسب.
صحيح أن دراسة أحد هذه المصادر الكبيرة دراسة دقيقة ومستوعبة قد يغني عن دراسة الأدب في تلك الحقبة لأنه يقدم قدرًا كبيرًا من الأدب، وصورة جيدة له، وتكون بمثابة دراسة العينة الدالة على ما يُسمى بمجتمع الدراسة، ولكنها تظل ذات حاجة إلى الاختبار والقياس لتكون فعلاً دالة أو ليست دالة، فربما يكون للكاتب اتجاهات معينة تجعله يختار نماذج ويغفل نماذج أخرى، أو يختار عددًا من الشعراء ويترك آخرين، أو ربما يكون للكتاب اختصاص معين في الأدب دون سواه ما يجعل قدرتها على تمثيل الأدب في حقبة من الحقب ليس دقيقًا.
وهذه مشكلة في كتابة تاريخ الأدب، فهناك من يعتمد على الشاهد والشاهدين في كتابته، وهي أقدار لا تعجز الباحث الحصول عليها لأي ظاهرة أراد إثباتها، ما يعني أن الاستقصاء في الجمع والموازنة من أهم أدوات كتابة تاريخ الأدب.
وهنا نصل إلى قضية الشواهد في كتابة تاريخ الأدب، فالشواهد ينبغي أن تكون شواهد وحسب، بمعنى أنها ليست هي الظاهرة، وإنما تعبر عن وجود الظاهرة، فهي بمنزلة تمثيل عدد كبير من النماذج المماثلة، وقد يختارها الباحث لأنها أكثر الشواهد تمثيلاً لتلك الظاهرة، والتي تتنوع بحسب الظاهرة التي يراد الاستشهاد عليها فقد تكون حكاية، أو أبيات شعر أو وثيقة تاريخية.
وأما الإحصاءات والأرقام والجداول، فقد تكون نوعًا من الشواهد، ولكنها في الأصل نوع من طرائق عرض المادة العلمية بتحويل الظاهرة إلى أرقام، والاعتماد على المنهج الكمي، بمعنى يكون سؤال الكم هو السؤال المعتمد في تفسير الظاهرة وفهمها.
وهذا يعني أن كاتب تاريخ الأدب لا بد أن يسبق كتابته الأخيرة بقراءة عميقة للمادة العلمية التي يريد أن يتحدث عنها سواء كان عصرًا أو كان موضوعًا، وقضية، وبعد القراءة يحدد القضية التي يريد أن يكتب عنها.
ومن الممكن أن يصوغ هذه القضية على طريقة الفرضية، ويتبعها بالأسئلة التي تسعى الدراسة إلى الإجابة عليها مما تتطلبه الفرضية للتحقق من الصحة أو النفي.
فإذا كان يريد أن يتحدث عن الغزل في عصر بني أمية، فمن الممكن أن يبني الدراسة على أنه يفترض أن الغزل شائع في عصر بني أمية كما هو الحال في الغزل فيما قبل الإسلام بناء على القول أن عصر بني أمية يعد ردة إلى ذلك العصر، ومن هنا سيفترض أهمية هذا الغرض، وسيبني أسئلته عن وجود الغزل في عصر بني أمية، وعن موضوعات الغزل وأنواعه موازنة بينه وبين العصر السالف الذكر والفرق بينهما، وهو ما يعد في سؤال التجديد.
وهذا يعني أنه لأجل أن يتحقق من هذه الفرضية ويجيب على الأسئلة لا بد أن يقرأ الشعر في العصر المحدد، ويستخرج شعر الغزل منه، ثم يوازنه بسائر أنواع الشعر في الحقبة من حيث الكم ثم قيمته بالنسبة لكثرته، ثم يقف عند أنواعه، والمعاني التي استعملها الشعراء فيه ومقدار التجديد والتقليد، وأهم شعرائه، وبما استحقوا هذه الأهمية.
وهنا يأتي السؤال أين التأريخ؟ اعتاد طلاب الدراسات العليا عند كتابتهم أبحاثهم وهم يستعملون المنهج التاريخي أن يقدموا للموضوع أحيانًا بفصل وأحيانًا بالتمهيد عن الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بالشاعر أو الموضوع حتى يحقق القارئ نبذة عن ذلك العصر، ويربط بين ما سيقرؤه لاحقًا وما يقرؤه في هذا الفصل.
وبناء على التعريف الآخر، وهو أن تاريخ الأدب هو دراسة الأدب في حقبة تاريخية معينة باستعمال المنهج التاريخي، فإن الأمر قد يكون كافياً بهذه الصورة، إلا أنه قد لا يكون كذلك إذا كان الدارس يريد أن يربط الشعر في موضوع الدراسة في الشعر في الحقبة المدروسة، ليس من زاوية البعد التاريخي الصرف الذي أصبح أمرًا باليًا بعد ظهور الشكلانية وما تبعها من المناهج النصية بوصفه كان يفيض في القصص والأخبار عن الشعر وما قيل عن الشعراء في تلك الحقبة، وإنما بمحاولة استنباط تأثيره في المتلقين في ذلك العصر، وتأثير المتلقين فيه، وربطه في ذوق العصر، وموازنته بالشعر في الحقبة التي قبله.
إضافة إلى الاعتماد على البعد التاريخي في قراءة المادة، وتأثير الزمن عليها سواء لدى الشاعر الواحد أم الشعراء أجمع ما يعني تتبع التطور التاريخي لغرض الغزل في عصر بني أمية من أيام معاوية إلى أيام مروان بن محمد أي على امتداد تسعين عامًا، ورصد التغيرات التي أصابته خلال هذه المدة، ثم البحث عن تفسير لهذا التطور في الشعر في الظروف التاريخية المحيطة بالشعر والشعراء، وكلما كانت الأحداث متصلة بالشعر والشعراء اتصالاً مباشرًا كانت أصدق في تفسير الظواهر الأدبية والأسباب التي أدت إلى تحولاته، في حين أن الأسباب العامة قد تكون مؤثرة لكنها لا تدل على قراءة حقيقية للعصر إلا إذا كانت لتقديم قراءة عامة أو فهم القراءة التفصيلية وصلتها بمحيطها، ويمكن أن يدرج القول فيها تحت طائلة الحديث الإنشائي، خاصة إذا كان ارتباطها بالظاهرة من ارتباط اللازم وليس المباشر.
على أنه من المهم عند التعامل مع الشواهد أن نفرق بين نوعين من التعامل: الأول يقوم على إصدار الأحكام، ويقوم الثاني على التفسير والتأويل، والحديث عن نوعين من المناهج درج الباحثون على الحديث عنهما وهما المنهج الاستنباطي والاستقرائي.
المنهج الاستقرائي يقوم على البداية من الخاص (النموذج) والانطلاق للكل أي إصدار الأحكام العامة، والاستقراء ينطلق من الكل ثم يخلص إلى إصدار حكم خاص، وهما منهجان معروفان والحديث فيهما طويل.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الاعتماد على شاهد أو شاهدين في إصدار الأحكام العلمية متساوق مع المنهج الاستنباطي بناءً على أنه ينطلق من الخاص إلى إصدار أحكام عامة، لكننا لا بد أن نفرق بين هذه الأحكام، فمنها ما تصلح مادته والحكم فيه أن يكون مستنبطًا بناءً على أن أجزاء مجتمع الدراسة -إن صح التعبير- متشابهة المكونات، أو أن الحكم المستهدف إصداره يتناول جزئيات موجودة في أغلب أجزاء مجتمع الدراسة، في حين أن هناك قضايا لا يتشابه أجزاء مجتمع دراستها، وإنما يمثّل كل جزء حالة مستقلة بحاجة إلى فحص ونظر، فلا يمكن إصدار حكم عام إلا من خلال ما يُسمى النظر بالعينة الدالة، وهي -في هذه الحالة- لا بد أن تكون كافية يغلب على الظن أنها صالحة للدلالة على مجتمع الدراسة، وهذا يتفق مع المنهج الاستقرائي وليس الاستنباطي.
نضرب على النوع الأول بالأسلوب، فثلاث قصائد طويلة في الغالب كافية للدلالة على أسلوب الشاعر، أو ثلاث مقالات للكاتب، فالشاعر أو الكاتب يتسم بأسلوب واحد في الشعر والكتابة، ولا يختلف أسلوبه إلا بناءً على أسباب متعدِّدة، كأن تختلف ثقافته أو تختلف المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها، وهناك من يرى أن الأخير ليس قاطعًا في إمكانية اختلاف أسلوب الشاعر، ويضربون على ذلك مثلاً بالشعراء الذين تحولوا من الشعر العمودي إلى قصيدة التفعيلة، ظلوا على طريقتهم الأولى بالشعر حتى مع عدم الالتزام بعدد التفعيلات أو القافية، كما يضربون على ذلك مثلاً بشوقي عندما تحول إلى الشعر المسرحي، ظل في الحقيقة معتمدًا على طريقته الأولى في قول الشعر، ولم يغيِّر إلا بتقطيع البيت الواحد في الحوار بين أكثر من شخصية، خاصة مع المقولة المشهورة: الأسلوب هو الرجل، فالأسلوبيون يؤمنون بالتطابق التام بين الأسلوب والشخص مما يعني أن جزءًا يسيرًا منه يدل على سائر نصوصه، فالمنهج الاستنباطي ممكن في هذا النوع من الأحكام.
وأما الثاني فإنه يتجلَّى في الموضوعات التي يطرقها الشاعر أو المعاني، فنحن لا نستطيع من خلال قراءة ثلاث قصائد أو أربع أو حتى عشر قصائد أن نحكم على موضوعات المتنبي أو على معانيه، وإنما لا بد أن نقف على أكبر عدد ممكن من قصائده حتى يغلب على الظن أن ما تبقى من النصوص لا يمكن أن يمثّل شيئًا ذا بال مقارنة بما تم الوقوف عليه من نماذج، وأغلب قضايا تاريخ الأدب من هذا النوع الذي لا يصح فيها إلا الاستقراء بمعنى الوقوف على أعيان النماذج.
وفيما يتصل بتفسير الشواهد، يمكن أن يكون متصلاً بالمنهج الاستنباطي لكن الصلة به ليست كبيرة لأنه لا يقوم على إنتاج أحكام بالمعنى الدقيق والمباشر، وإنما يؤدي إلى فهم جديد للظاهرة المدروسة، قد يقود إلى حكم جديد.
وبناءً على أنه يتصل بالشاهد الفرد فإنه حتمًا لا صلة له بالاستقراء، لكن وهذا المهم، سواء كان متصلاً بالاستنباط أم غير متصل، فإن القول في التفسير يختلف عن القول بالأحكام، إذ يمكن الاعتماد فيه على الشاهد والشاهدين، لأن كثرة الشواهد أو قلتها لا تغيِّر في حقيقة دلالة الشاهد على ما يدل عليه من معنى مراد عند تفسيره، وإن كانت كثرة الشواهد تعزِّز حقيقة ظهور النموذج، وتؤكِّد وجود المعنى المفهوم في الظاهرة أو العصر المحال إليه، وقد تؤدي إلى تعميم الاستنباط، وإلى إصدار حكم عام.
على أننا ينبغي أن ندرك أن دلالة التفسير ليست دلالة قطعية، وإنما هي ظنية، وذلك أن الشاهد قد يدل على أكثر من شيء، وقد يدل على الشيء وضده بحسب زاوية النظر، ولذا فإن الاحتجاج بها مقدور بقدره، والأحكام من خلالها ظنية، وفي المقولة المشهورة إذا جاز الاحتمال بطل الاستدلال تؤكّد هذا الاتجاه، لكننا أيضًا، وهذا هو المهم، لا نبحث في التفسير عن الدلالة في المعرفة المنطقية التي تعني الاستدلال المنطقي، وإنما نبحث عن المعرفة الإنسانية التي تقوم على الإيحاء، والإشارة، والتوجس، وتثير الشكوك والريبة، وتبعث على السؤال وإعادة النظر، وتخلخل ما استقر من الأفهام والمواقف، والآراء.
يبقى السؤال عن طريقة كتابة تاريخ الأدب؛ هل ينبغي أن تكتب أجزاؤه بطريقة تسلسلية تاريخية، ويكون مناقشة الظواهر وفق حدوثها تاريخيًا وربطها بهذا الحدوث دون مناقشتها بصورة أخرى خارج هذا الإطار أم لا؟
يرى بعض الباحثين أن ترتب مثلاً الشواهد وفق قدمها تاريخيًا أو أن يلتزم الترتيب التاريخي عند استعراض القضايا لكنه ليس من المهم أن يلتزم بدلالتها وفق موقعها التاريخي، فقد تدل على دلالة تتصل بالشاعر أو شاعريته حتى ولو كانت متأخرة، أو تدل على موقف له حيال محبوبته، ولو كان هذا الموقف متقدمًا عن موقف آخر يدل على تعلقه فيها، لأن دلالة النص مفصولة عن زمنيته، وليست مرتبطة ببعده التاريخي الواقعي.
ويبقى الشق الآخر من السؤال عن كتابة تاريخ الأدب بوصفه تاريخًا أيجب أن يكون على طريق الحكاية كما مر لدى شوقي ضيف أم يمكن أن يكون بطرق أخرى كعرض القضية ثم مناقشتها وتحليلها والخلوص إلى نتائج فيها دون الاعتماد على السرد التاريخي؟
قد يكون السرد التاريخي مشوقًا للقراءة، فإذا كان الكاتب يرغب في استعماله في الكتابة فهذا ممكن شريطة أن يكون أسلوب كتابة، وفق المراحل السابقة، وألا تكون الكتابة هي التاريخ نفسه، فإن هذا سيحيلها إلى سرديات لا قيمة لها، ويمكن أن تكون الكتابة مبنية على تقديم القضية وعرضها ثم مناقشتها وطرح الشواهد ثم الخلوص إلى النتيجة كما هو في كتابة كثير من كتاب تاريخ الأدب المعاصرين.
وبالإضافة إلى التعريفين السابقين لتاريخ الأدب، هناك نوع ثالث منه يندرج في الأغلب تحت الفهارس والرصد الببلوغرافي، إذ يقوم فيه كاتبه بتتبع الأدب في حقبة من الحقب، فيقدم رصدًا دقيقًا للأدباء فيها، وما أنتجوه من أعمال مع تعريف موجز بهم، وبأعمالهم ونماذج عليه، متتبعًا التصنيف الزمني التاريخي في ترتيب هذه المادة، وقد يعتمد على تصنيف آخر بالإضافة إلى التصنيف الزمني كالإقليم أو الفن الذي ينتمي إليه الأدباء كالشعر أو الرسائل أو المجاميع أو غيرها، وهذا مثل تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، أو تاريخ الأدب العربي لعمر فروخ أو مثل ما كتبه فؤاد سزكين.
وهذا النوع من التأليف ينتمي إلى علوم المكتبات والمعلوماتية أكثر من انتمائه إلى الدراسات الأدبية، لأنه لا يقدم وجهة نظر أو تحليل، أو موازنة أو رصد تطور، أو وقوف عند الظواهر، وكل ما يقدمه هو معلومات خام بحاجة إلى صياغة وتشكيل.
ثم إن تاريخ الأدب نفسه بالمفاهيم الأولى قد أصابه قدر من التطور، وهو تطور نسبي أو افتراضي، لأنه -تاريخ الأدب- كما يقول ياوس كان في تدهور مطرد منذ مائة وخمسين عاماً، لكن لا بأس أن نتتبع هذه الحالة من التدهور.
فإذا كان من الممكن القول إنه بدأ بالصورة التي لدى بروكلمان وأمثاله فإن ذروته على رأي ياوس كان في القرن التاسع عشر حينما كان شيوخه يطمحون من كتابة تاريخ الأدب عرض «جوهر الهوية القومية وهي تبحث عن ذاتها»، وهذا يعني أن تاريخ الأدب في هذه المرحلة كان محاولة لتقديم مآثر الأمة وما يبعث على الفخر، والاعتداد بالذات، والبعد عما يسيء إليها.
وإلى هذا المعنى لتاريخ الأدب يمكن أن ننسب المؤلفات التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين من مثل ما كتبه أحمد حسن الزيات، والرافعي، كما أننا يمكن أن نعد سلسلة شوقي ضيف في تاريخ الأدب في هذا الاتجاه.
ويبدو أن هذا الهدف من كتابة تاريخ الأدب هو المنتشر في أوساط الباحثين في تاريخ الأدب إلى وقت قريب، وأذكر أنني حين كنت أكتب رسالتي الماجستير عن عبدالعزيز الرفاعي، وكنت أعالجه بمبضع نقدي، كان شيخي محمد بن حسين -رحمه الله- يحذف الملاحظات الحادة، ويطالبني بإعادة صياغة بعض الفقرات حتى لا تبدو فيها الحدة كبيرة، ويقول لي: لقد أفسدت موضوعك. إذا كان بهذه الصورة من الرداءة فلماذا سجلته؟!
ولم أكن أعلم أنني ينبغي أن أدافع عنه، أو أن يكون عملي تجميل صورته، وإنما كان الذي في ظني -ولا أدري من أين جاء هذا الظن- أنني ينبغي أن أكتب دراسة تتوخى الموضوعية، وتسير وفق المنهج العلمي، فهي دراسة علمية في المقام الأول. وقد جهدت في تحقيق هذا الهدف في إمكانية طالب دراسات عليا في الرابعة والعشرين من عمره وفي بداية تجربته العلمية.
وعلى هذا يمكن القول إن بداية التطور في تاريخ الأدب تتمثل في الرؤية نحوه، ونحو الهدف من كتابته، ففي الوقت الذي كان الهدف منه إنشاء خطاب يعزز شعور الأمة بذاتها، وهويتها أصبحت الرؤية التي اعتمدتها أنه جزء من النقد ينبغي أن يتسم بالموضوعية، ويسلك سبيل المناهج العلمية الحديثة بغض النظر عن الصورة والنتيجة التي سيؤدي إليها.
ثم تبع ذلك التطور في الأدوات الإجرائية التي يستعملها مؤرخ الأدب، وذلك من خلال استعمال مناهج النظرية النقدية الحديثة بالتحليل، والفهم، وقراءة النصوص القديمة، وطرح أيضًا أسئلة فكرية تتجاوز مستوى الرصد والتحليل الأولي المباشر، وهي ما يسمى بالتاريخانية الجديدة، وتتوافق مع النقد الثقافي.
ويعد في هذا التطور نظرية التلقي نفسها التي يعدها ياوس نوعًا من تجديد تاريخ الأدب بتغيير بؤرة الانطلاق، فعوضًا عن أن يكون النص هو المنطلق يصبح المتلقي وما يجده من أثر للنص هو المنطلق، ومن خلاله يتم تقويم النص والعودة إليه للبحث عما أثار ذلك الأثر، ونوعه، مع إيجاد مصطلحات ومفاهيم تساعد على رصد الأثر وقراءة متغيراته.
هذه الجهود أخرجت تاريخ الأدب من صورته التي كان عليها في القرن التاسع عشر أو حتى في النصف الأول من القرن العشرين، وجعلته في قلب النظرية النقدية مستفيدًا من ثمارها النظرية والإجرائية دون أن يفقد جوهر حقيقة أنه تاريخ.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- التحيز في الأدب 1-2
- التحيز في الأدب 2-2
- الهوية والقومية
- طبائع المؤسسة (حياة في الإدارة)1 - 2
- طبائع المؤسسة (حياة في الإدارة) 2 - 2
- من «وحي الحرمان»
- الموقف من الآخر في السرد العربي
- جماليات القبيح
- بلاغة المهمشين
- أدبيات البرجوازيين
- ثقافة المديح
- كتابة تاريخ الأدب
- سرديات شوقي ضيف
- نـــقــــاد الــعــجـم
- شعرية شعر الحكمة
- قول في الكلام
- اللغة والمجتمع
- الأدب والصنعة
- الأدب المترجم
- أغلاط المتنبي
- جناية الأدب المصري على الأدب العربي الحديث
- الشوفينية المصرية
- الجنسانية المصرية (1)
- الجنسانية المصرية (2)
- الجنسانية المصرية (3)
اكتب تعليقك