الجنسانية المصرية (1)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 09:21:12

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد

هناك ثلاثة مصطلحات تتداخل فيما بينها: "الجنس"، و"الجنسي" و"الجنساني". تعود إلى الأصول الأجنبية التالية بالترتيب: “sexuality”, “sexual”, “sex”. تعني الكلمة الأولى "الجنس" فعل المعاشرة أو ما يسميه القدماء بـ"الجماع"، وتعني الثانية الفعل الذي يتصل به بالجملة ومن ذلك التحرش الجنسي أو السلوك الجنسي، “sexual harassment”, “sexual attitude”  في حين تعني الثالثة ما يتصل بالجنس من المعارف والمشاعر، والأفكار والعادات والتقاليد. ويربط بعضهم بينه وبين مصطلح "علم الجنس" “sexology” بمعنى المعارف والعلوم التي تتصل بالجماع، ويمكن أن يعد ضمنه ما ضمنه الفقهاء القدماء من الأحكام والآراء في باب النكاح كعيوب النكاح، وبعض ما جاء في شروط الطلاق، وأحكام الغسل ونحوها (فصل عبدالصمد الديالمي القول في مفهوم الجنسانية، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، ص13)، وإن كان يبدو لي أن مفهوم "الجنسانية" أوسع من "علم الجنس" بناء على اقتصار الأخير على العلوم، والمعارف، في حين يتسع السابق للعادات، والتقاليد، وما يرتبط بها من المشاعر والأفكار، وإن كان الديالمي يرى عكس ذلك، إذ يعد "الجنسانية" جزءا ًمن "علم الجنس".

وبناء على ما يحظى به الجنس والجنسانية من مكانة كبيرة في الحياة، فقد مثلت هاتان التيمتان قضية كبيرة في الفنون والآداب، تناولهما الدارسون تارة بوصفهما تيمتين للتأمل والدرس، وتارة بوصفهما من التيمات التي يتكون العمل الفني منهما، إذ كان انعكاسًا للحياة في جزء كبير منه.

وكان أغلب الدراسات التي تناولت الجنس في الأدب تعني بالجانب التاريخي منه، وتسلك مسلك المنهج الوصفي، أو تعنى بدراسة توظيف الجنس في الرواية دون الوقوف على المعاني العميقة التي يؤديها الجنس، أو النصوص التي تعكس الجنسانية وقوفًا عميقًا بالتحليل وما تدل عليه من مفاهيم قارة في وعي المجتمع، وذلك كدراسة غالب شكري أو دراسة الكبير الداديسي.

هناك عدد من الإشارات والملامح في النصوص الروائية وأحيانًا الدراسات النقدية التي تكشف المفاهيم الجنسانية في الفكر المصري، وتبين أن منظومة متكاملة ترتبط فيها السلوكيات الجنسية، بالعادات الاجتماعية، وتكشف عن مفاهيم فكرية متوارثة هي التي تحكم مواقفنا الاجتماعية والسياسية.

يورد إدوارد سعيد في الفصل المخصص لـ"البنى الاستشراقية" قول فلوبير عن "كشك هانم" : أنها "ليست أكثر من آلة"، و"أنها لا تفرق بين رجل وآخر".  ثم يستغرق -إدوارد سعيد- في وصف هذه الأنوثة الباهرة، وبيان سطوتها تلك السطوة التي تتجلى بانسحاب فلوبير إلى ذاته في مقابل حضورها الكبير، ودخوله في نوبة تأمل وتفكير عميقة تعيده إلى ليالي باريس في مقارنة بينها وبين ليلته تلك.

بدت "كشك هانم" هذه، وكأنها صورة للذة المشتهاة المبذولة بغير حساب. وإذا أردنا أن نجمع بين قول فلوبير وسعيد، فقد بدت بوصفها آلة جنسية متكاملة، تجمع أنواع الإثارة والفتنة إلى إتقان الإغراء والمعرفة بأسرار المضاجعة. وهي الآلة التي تجسد الصورة الجنسية للشرق عند فلوبير ومن قبله لين، ففي هذه الصورة الشرق (مصر هنا) هو الجنس، والجنس هو هذه الآلة الجنسية كشك المصرية الرعناء.

هناك تناقض في صورة المستشرقين عن الشرق بين أن يكون فضاء للجنس والقذارة الأصيلة، وإثارة الرغبات واللذات الغير متناهية؛ فهو حالة توحي "بالوعد الجنسي، والحواسية التي لا تشبع والشهوة اللامتناهية، والطاقات المتراكمة العميقة"، وأن يكون مسيئًا "للاحتشام الجنسي...ويفوح بالجنس الخطر، ويهدد النظافة"؛ وقد جدت فيه "الصور القذرة حتى في أعماق التاريخ الغابر"، وبين الطهر؛ بين رؤية لين ورؤية جوتة في قصيدته التي اقتبسها سعيد. (الإحلات إلى سعيد تعتمد ترجمة كمال أبوديب مع المقابلة على الأصل).

وهناك تناقض آخر يراه سعيد في حالة الفتاة كشك هانم، بين خارجها العاهر وباطنها النقي الذي يمنح اللذة والمتعة بغير حدود. هذا التناقض يتجلى في التضاد في الدلالة اللغوية لـ"عالمة"، فهو، في رأيه، مؤنث "عالم"، الدالة على الفقه، والمعرفة، والدلالة الشعبية للكلمة وهي "عاهرة" بالإضافة إلى ما تقوم به. هذا التناقض في الدلالة في رأي سعيد يأتي من مراحل التحول التي مرت بها اللفظة بين الدلالتين، حيث كانت تدل على العالمة المتفقهة ثم أصبحت المرأة المجيدة لإنشاد الشعر (المغنية) ثم أصبح يطلق على العاهرة.

ويبدو أن سعيدًا يفترض أن العالمة (العاهرة) تجمع في تكوينها وإعدادها لهذه المهنة "الخطيرة" هذه الضروب من المعارف: وهي الفقه، والأدب وإنشاد الشعر والعهر أو الدعارة حتى تستحق أن تسمى "عالمة" على طريقة "الجشا" اليابانية التي لا تصل إلى هذه المرحلة إلا بعد إعداد وتربية وتعليم وتهذيب وعملية تدريب طويلة تتم على أيدي أناس مهرة مختصين بهذا الحقل.

هذا التناقض في صورة الشرق، والتناقض في حالة كشك هانم في رأي سعيد، يؤسس لبناء تناظر بين هذه العاهرة والشرق (مصر في هذه الحالة)، فالشرق جنس خطر، والجنس هو هذه الآلة الجنسية الصامتة الرعناء المصرية كما يصفها فلوبير. مما يعد -بلا شك- محاولة تجميل هذا النموذج الشرقي الجنساني المصري، والدفاع عنه خاصة حين يربطها بملكة سبأ، وينسب إليها القول: "أنا لست امرأة أنا عالم"، وحين يجعلها الأساس التي نشأت عنها جميع شخصيات فلوبير النسائية فيما بعد، سواء سالامبو أو سالومي، أو التي مثلت ما تعرض له القديس انطوان من إغواء جسدي أنثوي، وكأنها حين تنطق -على طريقة سعيد- بأنها "العالم"، فإنها تعني عالم الإغواء والعهر والبغاء، والجنس الخطير -على طريقة لين-، ونفهم كيف يربطها بملكة سبأ، فهي ملكة بنات جنسها (يتكرر الربط بين الشرق والجنس والشرق والفتاة البغي في الاستشراق في ص200، 201).

لكن هذه الجنسانية لا تبدو، في الحقيقة، كذلك في وجهة نظر فلوبير، فهو حين انسحب إلى داخل نفسه ضعيفًا -كما يصفه سعيد- يتأمل حياته، لم يتذكر سوى "مواخير باريس" ومن فيها من البغايا. ولا يصح أن يقال: لأن الإغواء في كشك هانم يشبه إغواء شخصياته الأخرى، فهذا يعني أنها تشبههن بكل شيء، لأن "الإغواء" بحذ ذاته هو جزء من صنعة هذه الفتيات اللاتي يعملن في هذه الأماكن، فلا يكفي وحده دليلاً على اتحاد النموذج.

ولوقارنا موقف فلوبير من كشك هانم وأغنياتها بموقف أبي تمام من المغنية الفارسية، لأدركنا أن الفارق بين الموقفين يعكس شعور كل واحد منهما من المغنية أمامه، فأبو تمام يقول:

ولم أفهم معانيها ولكن

                                ورت كبدي فلم أجهل شجاها

في حين أن فلوبير يقول فيما يوريه سعيد: "وفكرت أيضًا، برقصتها، وبصوتها وهي تغني أغنيات كانت بالنسبة إلي دون معنى بل حتى دون كلمات يمكن تمييزها".

فانعدام المعنى لم يقف حائلاً بين أبي تمام والتفاعل مع الفتاة الفارسية، وإدراك ما تحمله الكلمات من شجن بالرغم من عدم معرفته المعنى المحدد لكلماتها، حتى أصبح واقعًا في غرامها، فصوتها، ونبرتها، وحسن أدائها كان كفيلاً بأن ينفذ إلى روح أو "كبد" أبي تمام، في حين أن هذه الفتاة قد بقيت بعيدة عن فلوبير "لم تستجب لحضوره"، وظلت الحواجز بينهما قائمة، فلم تستطع أن تنفذ إلى داخله بالرغم من صوتها وأغنياتها ورقصها، بل إن كلماتها لا تنغلق في معانيها وحسب، بل تستحيل إلى أصوات وجعجعة لا تتميز فيها السكتات التي بين كلماتها. هذا ما يبعدها عن أن تكون صوت إنسان إلى أن تكون صوت آلة كما وصفها من قبل، ومثل هذه الآلة الصماء لا يمكن أن يكون لها ذلك التأثير الذي تنعكس فيه على شخصياته اللاحقة كلها.

ومن اللافت للانتباه أن سعيدًا حين يذكر "سيطرة" كشك هانم على فلوبير، وضعفه، يذكر أن الذي أعجبه منها "أنها بدت وكأنها لا تطلب شيئًا"، لكن سعيداً لم يخطر في باله أن هذه الحالة التي أعجبت فلوبير وعدها سعيد نوعًا من "الاكتفاء الذاتي"، هي جزء من جنسانية أكبر ترى أن المرأة لا ينبغي أن يظهر منها ما يدل على الرغبة او المتعة (عبدالصمد الديالمي، ص20) فكأن -بصورة أخرى- ضعفها هي وعجزها عن السؤال أو المطالبة بحقها في المتعة والبضاع هو ما أعجبه فيها، أو كأنها ترغب في أن تمثل دور المرأة المحترمة بالتخلق بأخلاقهن بعيدًا عن أخلاق البغايا وأمثالهن من نساء اللذة أمام هذا الغريب.

كما لم يخطر في باله أيضًا أن العرب تسمي الشيء بالاسم وتقصد نقيضه، فتقول: السليم للملدوغ، وتقول: المفازة للصحراء المهلكة، وكذلك تكون العالمة المرأة الجاهلة البغي، وهو ما يعني أن دلالة الاسم لا قيمة لها هنا، ولا يمكن أن تعزز أن "كشك هانم" هي صورة للشرق أو انعكاس له.

أيًا ما يكن، فإن اعتبار "كشك هانم" ممثلاً للشرق، هو نموذج تقليدي في تجنيس العلاقة بين الشرق والغرب، فكثير من النماذج السردية العربية التي تناولت العلاقة بين الشرق والغرب جعلت الغرب بصورة امرأة (انظر: شرق وغرب رجولة وأنوثة، جورج طرابيشي) وكذلك فعل الرحالة الإنجليز في وصف العلاقة بين بريطانيا والهند (عبر الثقافة والهوية، إبراهيم الشتوي، مجلة جامعة الملك عبد العزيز).

وهذا قائم أساسًا على رمزية المرأة في الرواية العربية. هذه الرمزية التي -كما يقول طرابيشي- بدأت من (عودة الروح) وأصبحت موضع التنفيذ عند نجيب محفوظ في (ميرامار) (رمزية المرأة في الرواية العربية). لكن هذه الرمزية لم تكن رمزية بعيدة عن الجنسانية، فالبعد الذكوري الجنسي حاضر فيها، فالعلاقات بين أطراف المعادلة وهذه الرمزية تقوم في جزء منها على مواضعات العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى، ومدلولاتها وثقافتها، وأبعادها الاجتماعية. يبدو ذلك مثلاً في المقولة المشهورة في رواية (بداية ونهاية): "هذه امرأة إذا ركبتها فقد ركبت طبقة بأسرها"، فركوب المرأة يعادل ركوب الطبقة، هذا من ناحية، ثم إن ركوب المرأة يعني أنها في موضع دوني محتقر في العملية الجنسية حيث تقع في موضوع المفعول به، وهو موضع محتقر بالنسبة للوعي الذكوري، وهو ما ينعكس على موضعها في المجتمع الذي يكون صدى لهذا المفهوم، ويبين لنا المعنى المستفاد من تجنيس العلاقة بين الشرق والغرب سواء بجعل الشرق أنثى كما في رؤية سعيد، أو بجعله ذكراً كما في الرواية العربية.

هذا يحيلنا إلى ما يعده ميشيل فوكو بجنسانية الإغريق التي تقوم فيها اللذة والمتعة على أن يكون الإنسان فاعلاً، وأما وضع الاستقبال والمفعولية فهو وضع مهين، يضع صاحبه في الدرجة السفلى حيث يكون موضوعًا لمتعة الآخرين. والأسوء من ذلك أن يستمتع بأن يستمتع به الآخرون، فتظهر هذه الرغبة في أفعاله وأقواله، (A Foucault Primer By Alec McHoul and Wendy Grace). وهنا نفهم لماذا المرأة المحترمة في الثقافة المغربية -كما يذكر الديالمي- لا ينبغي لها أن تظهر المتعة والرغبة، لأنها تظهر المتعة في كونها مفعولاً بها، وهو موضع إهانة ومذلة، واحتقار ينبغي أن تأنف منه المرأة الشريفة، وهذا بدوره يحيلنا إلى كل المواقف التي تصاغ ضد المرأة، وجميع التصورات االمهينة، إذ تعود جميعها إلى هذا الوضع المحتقر في الوعي الجمعي للذكورة المصرية.


عدد القراء: 4235

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-