التحيز في الأدب 1-2الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-02-03 02:29:24

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد

كنا قد قرأنا إبان دراستنا الأدب في عصر بني أمية ظاهرة الأدب السياسي، وكان المقصود بها تلك الآداب التي ينحاز فيها أحد الأدباء إلى فئة اجتماعية، يرى أنها أحق بسياسة الأمور من سواها؛ فيجند أدبه لهم، ولأفكارهم، ومن يحبهم؛ فظهر الشعراء والخطباء الذين يميلون إلى الخوارج، ودعوتهم، والذين يميلون إلى ابن الزبير، أو أهل البيت، أو الأمويين.

وهذا التحيز يشبه أنواعًا أخرى، ظهرت بشكل جلي في الأدب القديم، كالموقف من السود الذين كانت الثقافة العربية القديمة تنظر إليهم نظرة دونية، كما في قصة عنترة المشهورة، والسليك بن السلكة وغيره، ممن كانوا يسمون بأغربة العرب، وكما في الحكاية التي جاء فيها أن نصيبًا الشاعر مدح عبدالله بن جعفر بن أبي طالب فأعطاه مالاً كثيرًا، وكسوة، ورواحل، فقيل له: أمثل هذا الأسود يعطَى هذا المال؟ مما يدل على النظرة الدونية التي ينظر بها المجتمع لهم.

ويلحق بهذا النوع من التحيز الموقف من المرأة في الثقافة العربية، وهي قضية تحدث عنها النقاد والدارسون النسويون كثيرًا، ومظاهرها امتلأت بها كتب الأدب، ابتداء من وأد الإناث إلى اعتبارهن عبئًا وعارًا يحسن التخلص منه.. ويمثله أكبر تمثيل قول الشاعر وهو يرثي ابنة أخته:

                        قد كنت أخشى عليها أن تقدمني

                                       إلى الحمام فيبدي وجهها العدم

                       فــالآن  نمت  فــلا هــم  يــؤرقــني

                                         يهدا  الغيور  إذا ما أودت الحرم

ففي الوقت الذي يرثيها يبدي سروره بموتها؛ لأنه لن يقلق بعد ذلك على انكشاف وجهها بعده؛ وهو ما يجعله ينام قرير العين، هادئ البال. وهذا السرور الذي أصابه بوفاتها ليس خاصًّا به، بل هو عام بكل غيور يرى في وفاة محارمه راحة له وطمأنينة.

ولا يقتصر الأمر على ما يتصل بالعار، والعيب، والغيرة مما يدور حول صلة المحارم بالرجل الأجنبي، بل يتجاوز إلى الشك بعقل المرأة، ومسؤوليتها، وعجزها عن إدراك حقائق الأمور، وتفضيل الصبيان عليها؛ ففي كتاب البيان والتبيين يروي الجاحظ بعض الآثار التي تؤكد هذه الحقيقة كقولهم: «لا تدع أمك ولدك تضربه، فإنه أعقل منها وإن كان طفلاً»، أو المقولة الأخرى التي فيها النهي عن مشاورة ومحادثة النساء، لتأثير ذلك على عقله.

وتنعكس هذه النظر على الواقع؛ فنجد النهي عن تعليم النساء القراءة والكتابة شائعًا، من جهة، ومن جهة أخرى نجد قلة رثاء الرجال للنساء في الأدب القديم الذي سودت النساء صفحاته في بكاء الرجال، وتخليد مآثرهم، وتعدادها، حتى إن القدماء لم يفضلوا النساء في الشعر إلا في الرثاء. وهناك سبب آخر لتفضيلهم المرأة بهذا الفن، لا يخرج عن الصورة الكلية للتحيز، بل تؤكدها، وذلك أنهن يرثين الرجال، ويذكرن مفاخرهم؛ فأشعارهن دواوين تمتلئ بصفاتهم، لا تختلف عن دواوين الفخر، أو المديح. هذا التدوين للصفات بعد الممات لا يقدر عليه كثير من الرجال الذين قال قائلهم حين سُئل: ما بال مدائحكم أجود من مراثيكم؟ فقال: لأن المدح على الرجاء، والرثاء على الوفاء، والوفاء عزيز، وجاء في شعر النساء على أكمل وجه.

فالقصائد التي كتبها الرجال في رثاء نسائهم ربما تعد على أصابع اليد في مقابل قصائد النساء، وقد قال البحتري:

                       ولعمري ما العجز عندي إلا

                                        أن تبيت الرجال تبكي النساء

وإذا كان الشاعر السابق يعبّر عن ارتياحه بوفاة قريبته، فإن البحتري يذهب إلى أن يعده من النعم التي ينبغي شكر الله عليها:

                      ومن نعم الله لا شك فيه

                                       بقــاء  الـبـنين  ومــوت  البنات

                     لقول النبي عليه السلا

                                        م: دفن البنات من المكرمات

ولا يقتصر الأمر على الرثاء، بل إن العزاء في النساء أمر معيب؛ فقد روي عن عبدالملك بن مروان وعمر بن عبدالعزيز، وقد مات بعض أهل بيتهما، رفضهما العزاء فيهن، وقولهما: «إنا لا نعزى بالنساء». وذكر المبرد أن الرجل لا يعزى بامرأة ماتت له إلا في أمه. وهذا يؤكد معاملة المرأة معاملة خاصة في كل شيء، قائمة على جنسها، وهو نوع من التحيز.

وهناك نوع آخر من التحيز لا يقوم على المواقف الاجتماعية، وإنما يقوم على المواقف الأدبية، ويؤثر في أحكام القيمة المصدرة على النتاج الأدبي، وكنت قد ذكرت عن الموقف العام من شعر النساء، فقلت: إن العرب لم يروا للنساء تفوقًا إلا في الرثاء، وذكرت أن سبب هذا الموقف لا يعود إلى جودة الشعر، وإنما إلى موضوعه، حيث يكون خالصًا لرثاء الرجل، والبكاء عليه، وتعداد مآثره، ومناقبه، ثم إنها تعطي الصورة المحببة للرجل التي تبدو فيها، وهي تبكي على فراقه، وانحطمت حياتها بدونه، فليس لها قدرة على العيش بدونه، وهذا يتوافق مع النظام البطريركي السائد.

هذا الموقف من شعر النساء لا يعتمد على قيم موضوعية، أو معايير فنية، بقدر ما يعتمد على جنس القائل، وهذا يبدو في المقولة المشهورة المنسوبة للنابغة حين قال للخنساء، وقد أنشدته الشعر في عكاظ، «اذهبي، فأنت أشعر بنات جنسك»، وفي رواية، «فأنت أشعر ذات ثديين»، التي تعني أن الخنساء، وشعرها إنما تقارن ببنات جنسها، وأما الشعراء الذكور فلا يمكن أن تقارن بهم.

وهو الموقف الذي تؤكده المقولة الأخرى المنسوبة إلى بشار بن برد حين يقول: «لم تقل امرأة شعرًا قط إلا تبين الضعف فيه، فقيل له أو كذلك الخنساء؟ فقال: تلك كان لها أربع حصى».

وهذا الموقف لا يتصل بالشعر نفسه بقدر ما يتصل بالموقف من الأنوثة نفسها، التي تحيل إلى الضعف والنقص في المخيال العربي. هذا الضعف وصل إلى وصف كل أنثى بالضعف، ووصف كل موصوف بالضعف بالأنثى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)، وقال الشاعر:

                        إني وكل شاعر من البشر

                                           شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

فالشيطان الذكر مقدم على الشيطان الأنثى، وهو مدعاة للفخر.

وكما أصبحت الأنوثة قيمة يعتمد عليها في الحكم على الشعر، والنظر إليه، فإن لون البشرة أيضًا كذلك، فإذا كان لون بشرة نصيب في المقالة السابقة سببًا قادحًا في أهلية حصوله على الجائزة، فإنها في حكاية أخرى كانت قيمة يعتمد عليها في تقويم الأدب، وتحديد مكانة الشاعر الفنية، فقد روي أن نصيبًا كان في مجلس سليمان ابن عبدالملك بحضرة الفرزدق، فأنشد نصيب شعرًا في مدح الخليفة، وحين فرغ من ذلك، سأل الخليفة الفرزدق عن رأيه فيما سمع، فقال: «هو أشعر أهل جلدته»، يقصد السود، فقال: سليمان بن عبدالملك: «وأهل جلدتك أيضًا»، يريد أن اللون لم يغير قيمة شعره، فغضب الفرزدق، فقام وهو ينشد:

                      وخير الشعر أكرمه رجالا

                                        وشر الشعر ما قال العبيد

فشر الشعر هنا منسوب إلى قائليه، وليس إلى قيم فنية أو موضوعية، وهذا هو التحيز.

بل إن بعض الباحثين يرى أن مفهوم الفحولة في الشعر ذو ارتدادات اجتماعية، ويعتمد على مقولة الفرزدق حين سأله ذو الرمة: «ما لي لا أعد في الفحول»، قال: «قصر بك عن ذاك بكاؤك في الدمن، ونعتك أبوال العظاء والبقر، وإيثارك وصف ناقتك، وديمومتك».

والمقصود أنه يطيل القول في موضوع غير ذي بال، وهو الوقوف على الأطلال، وكان الشعراء يكتفون منه ببعض الأبيات، ثم ينصرفون إلى موضوع القصيدة. وهي المآخذ التي قيلت بعد ذلك في نقد ذي الرمة، أنه يجيد وصف الظعائن، والصحراء، فإذا بلغ المدح أو الهجاء أكدى أي عجز.

وهنا بيت القصيد، فالفحولة ليست بناء على جمال الشعر بإطلاق، ولكنها بناء على المقدرة في موضوعات معينة، تتحدد في المقولة الأخيرة، بـ«المدح، والهجاء»، فالمدح لأن الشعر يقال في فئة اجتماعية معينة يمكن أن تمدح، وقد جاء في بعض التراجم القديمة عندما يصفون أحد السادة، يقولون: إنه كان «ممدحًا»، على سبيل الثناء على تلك الشخصية، وبيان مآثرها، فالمدح لا يكون إلا «للسيد ذي الأيادي» كما يعبر أبو تمام، فالمدح والسيادة متلازمتان، وهذا يكسب المدح قيمته.

وأما الهجاء فلأنه إذا غلب شاعرًا معينًا دل على قوة شعره، وقدرته على إفحام الخصوم والظهور عليهم، وبهذا سمي علقمة بن عبدة بالفحل، حين حكمت أم جندب له بالتقدم بالشعر، ولا يهم بعد ذلك إذا كانت قصيدة امرئ القيس كانت أجود.

ويدخل في المديح، ويتصل به الحديث عن القبيلة، فقد كانت العرب تقدم الشاعر الذي يعني بمآثرها، فيمدحها، ويعدد مناقبها، ويرثي موتها، وكذلك كان الشأن في لبيد، فيذكر أبو عمرو بن العلاء أن خداشًا بن زهير أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبى الناس إلا تقدمة لبيد، ويبدو أن سبب ذلك ما ذكره ابن سلام عنه أنه كان خير شاعر لقومه؛ يمدحهم، ويرثيهم، ويعد أيامهم، ووقائعهم، وفرسانهم.

وهذا يعني أن المكانة الأدبية التي نالها لبيد، وبها تقدم على خداش استجابة للمكانة الاجتماعية، وليست قائمة على القيمة الفنية، كما في رأي أبي عمرو، وفي رأي الأصمعي الذي عد خداشًا في الفحول، وقال عن لبيد: «كان رجلاً صالحًا»، وبصياغة أخرى لأن لبيدًا احتلت مكانة عالية في قومه، فإنهم تحيزوا إليه، وقدموه على خداش مع أنه لا يتقدم في الشعر عليه.


عدد القراء: 6744

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-