جماليات القبيحالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-02-05 10:37:26

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد

الفرق بين القبح والقبيح أن القبح هو الاسم الذي يطلق على الصفة التي تجعل شيئًا ينعت بأنه قبيح، في حين أن القبيح هو الشخص أو الذات الذي يحمل هذه الصفة، فالقبح معنى مجرد، في حين أن القبيح ينشأ حين تتجسد صفة القبح في شخص ما أو أداة.

وفي بداية الحديث ينبغي أن نحدد «القبح» أو أن نحدد «القبيح»، وقد يبدو للوهلة الأولى أن الفارق بينهما لا يعدو ما ذكر آنفًا، بيد أنه -الفرق بينهما- يذهب إلى أبعد من ذلك، أو ربما تكون الصلة بينهما تعود إلى أبعد من ذلك، فالقبح حكم، وهو شعور يعتري الرائي عندما يرى شيئًا ما، فالشعور وحده لا يمكن أن يتحقق أو أن يثور إلا من خلال أداة معينة، يتجسد فيها القبح، ومن غيرها لا يصير إلا معنى مجردًا. والمعنى وحده صعب أن يثير اشمئزاز المتلقي، فهو خاضع لما تخضع له الأفكار من معيقات التصور الكامل، إذ يحتاج بعضها الخيال حتى تتكون فيه، وبعضها وهو الأفكار والمعاني يحتاج شروط الصحة، والمقبولية حتى تتحقق في ذهن المتلقي بإثارة شعوره بالاشمئزاز، ويمكن أن نستعير المثال المشهور عند البلاغيين في تشبيه ذهني بذهني، لما يحتاج الخيال، وهو التشبيه برؤوس الشياطين حيث إن المقصود -كما يقولون- إثارة الاشمئزاز والنفور من الزقوم، ولأن الشياطين تبلغ الغاية في القبح لدى العرب، فإن طلعها يشبهه. وليس من الممكن البحث عن صفة تبين لهم مقدار هذا القبح، أو تظهر أثره دون الاستعانة بالقبيح الذي تتجسد فيه الصفة.

أما المعاني والأفكار فإن الحكم على قبح شيء منها يتطلب -كما قلت- شروطًا يجعلها تنحصر في دائرة القبح، ويمكن أن نضرب على ذلك مثلاً بالكذب، وهو قبيح بجميع الشرائع، ولكنه قد يكون جميلاً، وذلك حين يكون له ما يسيغه، وكذلك القتل، وهو إزهاق الأرواح، فقد يكون له ما يبرره، وهذا يعني أن قبح المعاني يتصل بالقيم اتصالاً كبيرًا، فما كان مذمومًا في القيم، والأخلاق فهو قبيح، وما لم يكن كذلك فهو غير قبيح، وهذا يشبه الحديث المروي عن النبي في ذم الربا، وفيه أن أهونه أو أصغره مثل «أن ينكح الرجل أمه في قارعة الطريق»، فهذا الفعل جمع عددًا من القبائح: أولها أنه نكاح محارم يتصل بالأم بحيث لا يكون له وجه مقبول من الوجوه، ثم المجاهرة فيه، ثم لا تنتهي المجاهرة إلا عندما تكون على مرأى ومشهد من الناس.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يجد ما يمكن أن يصف به قبح «الربا» إلا أن يشبهه بهذا الفعل المنكر، ما يعني أنه يستعين بمنظومة القيم، وما تحدده من قبيح أو حسن لتقبيح الأفعال أو تحسينها، ما يؤكد أن القول بقبح المعنى أو الفكرة مرتبط بالقيم، وبأن القيم تمثل مصدرًا من مصادر القبح، فما يكون ذا قيمة اجتماعية، أو يكون ذموماً في المنظومة الأخلاقية يصبح قبيحًا، وعلى هذا فإن القول في الأخلاق والقيم ينطبق على القول بالقبح.

وبالعودة إلى المثل الذي ضربه البلاغيون في تشبيه ذهني بذهني، نجد أن التشبيه يقوم على تقبيح «الزقوم» بناء على ما تثيره رؤوس الشياطين من خوف وفزع في نفوس المتلقين، ما يعني أن إثارة الفزع والخوف من أسباب الحكم بقبح الشيء، ومكون من مكوناته.

في حين أن الشاهد الآخر وهو حديث النبي اعتمد في تقبيح الربا على أداة النفور والاشمئزاز، فالناس يشمئزون من نكاح المحارم، وهذا يعني أن النفور والاشمئزاز من الشيء مما يكون سببًا في الحكم بقبحه، والإعراض عنه.

وفي الوقت الذي يمكن أن يزول سبب الخوف أو الاشمئزاز بالتعود الذي يجعله يخرج من دائرة القبح إلى المقبولية، (يؤكد الصلة السابقة بين القبح والقبيح وألا وجود لأحدهما دون الآخر) فإن القبح الذي تنتجه مخالفة القيم لا يزول بالتعود، إذ الحكم فيه لا يقوم على الانطباع الذاتي المباشر وحده، وإنما يقوم بتضافر عدد من العناصر المختلفة يأتي التعود أو العادة واحداً منها. الأمر الذي يجعلني أعد النقائض الهجائية التي دارت بين شعراء عصر بني أمية، وكان كل واحد منها يسعى لإلصاق المقابح بالآخر، ونفيها عن نفسه أو إثبات المحامد لها. أجعل هذه النقائض نموذجًا قبيحًا لأنها تجسد الشتيمة، وتحشدها سعياً لإثبات قبح المهجو، ونفي القيم الجميلة عنه، وإلصاق المذام فيه كما هو عادة الهجاء،

تقوم النقائض في أغلبها على التهاجي، بأن يقول أحد الشعراء قصيدة في ذم رجل أو جماعة من الناس، فيردون عليه السيئة بمثلها، سالكين الأسلوب عينه الذي سلكه الشاعر، فتأتي القصيدة على الوزن والقافية التي جاءت عليهما السابقة، وربما تجاوز الصلة بينهما ذلك ليقف الشاعر اللاحق على الصفات التي أثبتها الشاعر الأول فينقضها واحدة واحدة، ويثبت عكسها له، فتأتي قصيدته وكأنها استجابة للقصيدة الأولى تحاكيها في البناء والموضوع، والأفكار.

وكنت أظن أن هذه النقائض بما أنها شعر، تنطوي على جانب كبير من الفن، والأدب والجمال، فتحمل صورة مضحكة، أو سخرية مرة، أو نحو ذلك على طريقة ما اشتهر منها من أبيات كقول جرير:

والتغلبي  إذا  تنبه  للقرى

                        حك  استه  وتمثل  الأمثالا

أو قول الأخطل:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم

                         قالوا لأمهم بولي على النار

ولا  تجودي  بكل  البول مسرفــة

                         ولا تبولـي  لها  إلا  بمـقدار

يقول المبرد: يقال: إن جريرًا توجع من هذا البيت، وقال: جمع بهذه الكلمة ضروبًا من الهجاء والشتم، منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذالها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء» (الكامل:3/1406).

لكنني حين رجعت إلى النقائض أبحث فيها ما يصلح لأن يكون مادة للدراسة وجدت أن ما هذه الأبيات فيها إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وأن غالب القصائد هي إلى السباب المباشر أقرب منها إلى الشعر وأدواته كقول جرير:

أمـا  الـبـعـيث  فقد  تبين  أنـه

                              عبد فعلك في البعيث تماري

أو قوله في هجاء الفرزدق:

ليست كأمك إذ يعض بقرطها

                              قين وليس على القرون خمار

ثم تذكرت ما قاله بعض مؤرخي الأدب في حديثهم عن النقائض أن أهميتها تعود إلى ما فيها من معلومات عن أيام العرب وأخبارهم وقبائلهم قبل الإسلام، بناء على أن الشعراء كانوا يعودون إلى تلك المثالب ليبنوا عليها أهاجيهم، أو مفاخرهم، فكأنها الديوان الذي جمع ما لم يجمع من أخبار الأولين، ويغطي النقص في حرص العرب على تدوين تاريخهم القديم تدويناً تفصيليًا، وكأن ما ذكره هؤلاء هي القيمة الوحيدة لهذا الشعر، وهي المنطلق في الحديث عن جمالياته، بمعنى الكشف عن جانب الجمال في هذا الشعر.

بيد أن معنى جماليات شعر الهجاء لا تعني عند المتأخرين من النقدة البحث عن وجوه الجمال فيه، وإنما هو بحث في ماهية الشيء وتكوينه، باعتبار أن الجماليات هي ترجمة أخرى للبوطيقيا (الشعرية)، وسؤال الشعرية هو عما يكون به الشعر شعرًا، والمقالة مقالة، ومن هنا يكون البحث عن جماليات القبيح هو عما يكون به القبيح قبيحًا، بمعنى البحث عن العناصر التي إذا توافرت في الموضوع أخرجته من دائرة الحسن إلى دائرة القبح، فالجماليات بهذا المفهوم ليست في الحقيقة جماليات ولكنها -ربما- قبحيات.

ولأن القبيح هنا هو شعر الهجاء فإن قبحه يكتمل حين يكون هجاءً كاملاً، ولا يكون كذلك إلا حين يوجع المقول فيه، ويبلغ غايته من إيذائه، كما هو في أبيات الأخطل السابقة التي توجع منها جرير وكأبيات الحطيئة المشهورة التي دفعت الزبرقان إلى التظلم لدى عمر بن الخطاب كما تقول القصة المعروفة.

والناظر في هذه الأبيات يرى أنها لم تكن سبابًا مباشرًا، ولا وقوعًا بالأعراض، والأمهات بقدر ما تقوم على صورة فنية جميلة تتضمن الوصف بالشح وغلظ الطبع، أو سخرية وهزءًا يمكن أن يحمل فيه القول على أكثر من وجه كما حاول عمر بن الخطاب أن يفعل حين أنكر معنى الهجاء في البيت وأبيات النجاشي الأخرى.

وفي هذا المثال تتلاقى الجماليات من الجمال بالقبحيات كما قلنا من قبل لأن القبح وهو اكتمال آلة الهجاء وهي قدرته على إيلام المهجو وإيذائه، لا تتم إلا من خلال قدرة الهجاء على التأثير على المتلقي، وهذا التأثير لا يتم إلا عن طريق أن يتوافر للقول شروط التأثير الفنية الجمالية، وهذه حالة خاصة لشعر الهجاء.

ولأن هذا اللون من الهجاء ليس هو الغالب في النقائض كما أسلفت القول من قبل، وإنما الغالب أنها شتائم مباشرة لا تحمل أدنى جمال، ما يجعلها غير قادرة على تأسيس منظومة شعرية فن الهجاء في التراث العربي، فإن هذا السؤال يظل مفتوحًا عن البحث فيما يجعل الهجاء هجاء أو كما هو في عنوان المقالة عن البحث عن جماليات القبيح.

والأمر المهم هو أننا استطعنا أن نحدد القول في جماليات القبيح بأنه البحث في مكونات شعر الهجاء للوقوف على العناصر الدقيقة التي تجعله فنًا راقيًا بعيدًا عن السباب والشتائم، مع أنه يؤدي الغرض منه في إيقاع الأذى بالمهجو والألم في نفسه، وهنا يمكن أن نقول إن السخرية، والاستهزاء، والصورة الكاريكاتورية المضحكة، وبناء العبارات على معاني ووجوه مختلفة هي أبرز هذه العناصر.

ولأن هذه العناصر ليست كثيرة لدى الشعراء جميعًا في فن الهجاء، فإننا يمكن أن نضيف الآن إلى ما ذكره مؤرخو الأدب السابقين عن أهمية النقائض أهمية أخرى ربما تعد في جمالياته في المفهوم العام، وهي أنه يعطي خطاطة مقابلة للصفات الحسنة تبني الصفات المذمومة، ويمكن من خلالها إدراك صورة أخرى عن منظومة القيم العربية القديمة بناء على المقولة القديمة بضدها تتبين الأشياء.


عدد القراء: 6515

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-