محاكمة عقل..! (بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 09:19:13

منير مزليني

- كاتب من الجزائر

قياسًا على مقولة "لماذا تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟!"، كنت دومًا أطرح على نفسي هذا السؤال: لماذا الغرب يبتكر ويخترع ويبدع الجديد من الأفكار والفلسفات، ونحن نكتفي دومًا بالانبهار والتقليد؟ بحثًا عن جواب لهذا السؤال، رحت أبحث وأطالع كل ما وقع بين يديا من أعمال هؤلئك العباقرة من الغرب مما تفلسفوا وأبدعوا وجددوا، فاكتشفت بعد تمحيص وتمعن أن السرّ الكامن وراء نجاحهم، هو أنهم يفكرون ويبدعون بكل حرية ودون تفكير في الآخر، أو شعور بالنقص. وكأن العالم ملكهم، كتاب مفتوح بين أيدهم يفكرون فيه بالشكل الذي يريحهم وبالطريقة التي يرونها مناسبة دون عقدة أو قيد أو رقيب. إنها الحرية، حرية التفكير وحرية الابداع! صحيح أن فيهم من توصلت به الجرأة لأن يضع فضلاته في علبة ويدخلها المتحف، لكن في الجهة المقابلة هناك الكثير منهم من استطاع أن يقطف قطعة من الشمس!

وحينما فكرت في حالنا وجدتها على خلاف ذلك تمامًا، إذ اكتشفت أننا مكبلون بقيود الخوف ورباط الوهم، فلا نفكر إلا من خلال الآخر، ولا يقدم أحدنا على التفكير في شيء أو فعله، إلا وقد وضع نصب عينيه رقيبين عتيدين، أحدهما داخلي والآخر خارجي. أما الداخلي فهو الضمير بنوعين الفردي والجمعي، أو بما يطلق عليه علماء النفس بـ (الأنا الأعلى) والذي تخزن فيه مجموعة من الأفكار المنبثقة من العادات والتقاليد والمعتقدات والتي نستقيها من ثقافتنا الاجتماعية والفكرية التي نشأنا فيها وتربينا عليها، فتقف بداخلنا في هيئة "طوطم" مقدس لا يقبل النقاش أو الجدال، وهو رقيب معنوي. أما الثاني فهو رقيب خارجي مادي ممثل في (الآخر)، هذا الآخر الذي يمكن أن يكون الناس الذين نحيا بينهم في وسطنا الاجتماعي الصغير(القطر) أو المجتمع الإنساني الكبير(العالم)، أو السلطة التي تراقبنا وتحاصرنا بقوانينها وقواعدها الردعية.

وكلا الرقيبين ـ الداخلي أو الخارجي ـ قوتان مرتبطتان ببعضهما البعض، وكل واحد منهما يؤثر في غيره بشكل أو بآخر. فضمائرنا وعقولنا تتغذى من ثقافة ومعتقدات المجتمع، كما أن المجتمع يتغذى بدوره من أفكارنا وتحليلاتنا التي نظفيها على الظواهر المحيطة بنا وفهمنا لها.

بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل:

فالأصل في الإنسان هو الحرية وشرطه المسؤولية، فلن تعدّ مسؤولًا حتى تكون حرًا، ولن تكون حرًا حتى تتحلى بالمسؤولية. فالحقيقة المطلقة والأفكار الصادقة لا تخشى الحرية والتفكير، بل تحثّ عليهما وتصرّ، لأنهما الطريق الوحيد والصحيح للإيمان والاعتقاد الصادق، أما غيره فهو تفكير وثني وتقليد أعمى مآله الظلال والانحراف، لأنه ليس مبني على قواعد سليمة وأرضية متينة. ومن المفروض أن تكون المجتمعات الإسلامية آخر من تخشى ذلك، لأن دينهم وقرآنهم أول ما جاء به هو الحثّ على القراءة والتفكير وتحرير العباد من عبادة العباد والأوثان إلى عبادة ربّ العباد والأكوان. والتاريخ يحفظ لنا تلك الأيام التي كان الغرب فيها غارقًا في ظلام الجهل إبان القرون الوسطى، بينما كانت الحضارة العربية الإسلامية في أوج رقيها ومجدها أين كان مجلس الخلفاء والأمراء لا يعقد إلا وقد حفه العلماء والفقهاء وزينه الأدباء والشعراء، وقد جرت على ألسنة جلسائه أعمق الأفكار وأبلغ الأشعار وأملحها! فكانوا أقرب للسلطان من سيفه، وكان هو أقرب إليهم من قرطاسهم ومدادهم، وراعيًا لهم ومستنصحًا بهم.

وما أبعدنا اليوم عن ذاك المجد وذاك السؤدد! فأينما وليت وجهك صدّك الجهل والتعصب، وأوقفك المنع والترصد، فمن جهة دعاة الأصالة وحراس العقيدة، ومن جهة أخرى دعاة المعاصرة وأنصار الحداثة، فتجد نفسك بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل! وما هما من الماضي والمستقبل في شيء. بل كلاهما مقلد وتابع لا يملك حرية ولا يقدر مسؤولية. وإن بدوا لك في الظاهر مختلفين فهما في الجوهر أخوين في العبودية وشقيقين في التبعية. فهذا مشدود لماض لا يحركه، وذاك مندفع لمستقبل لا يحققه. وكلاهما أخطر من غيره، وأشد تعصبًا ومراء!

فإن حدثت المتعصب للأصالة والتراث عن الابداع والتجديد والمعاصرة رماك بالابتداع واتهمك بالظلالة! وفي الجهة المقابلة إن دعوت مدعي الحداثة المتعصب للحضارة الغربية إلى مجّ القطيعة وتأصيل الأفكار الجديدة وتفعيل الموروث الفكري والعلمي والثقافي بما يليق من منهج وعصرنته، اتهمك بالدروشة والعرفانية ومعاداة العقل والعلم! 

لقد كان صراع المثقف والمفكر في السابق واضحًا ومحددًا، وحربه مع الجهل التقليدي بيّن وصريح. ولكن مفكر ومثقف اليوم يجابه جهلين ويواجه حربين، أحلاهما مرّ، وأسلمهما مهلك فتاك! وإن كانا في الظاهر والتوجه يبدوان خصمان متصارعان ولكنهما في الباطن والنتيجة متفقان ومشتركان، ومصيبتهما تقع على رأس الأمة ومصيرها! فذاك يعمل على جمودها وتحنيطها باسم التراث والدين، والآخر يعمل على تفكيكها وتبديدها باسم الحداثة والعلم، والنتيجة نفسها والمآل واحد وإن اختلفت أداة الجريمة وأسلوب التقتيل! فليس أخطر من الجاهل المتعصب، إلاّ المتعلم المقلد! فكلاهما ضار مهلك وإن ظنّا في نفسيهما المدافع المنقذ أو المستنير المجدد! وقد خاض في هذه الجبهة جملة من المفكرين والفلاسفة العرب المعاصرين، وحاولوا أن يرسموا طريقًا جامعًا بين التيارين المتنافرين المتجادلين أو أن يرسموا طريقًا ثالثًا أو جديدًا يكون بديلاً لهذا التنافر والتمزق الفكري والثقافي، إلا أنهم لم يوفقوا ذلك التوفيق المنشود، بل منهم من وجد نفسه منحازًا إلى تيار ضد آخر من حيث لم يخطط ولم يحتسب. ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المفكرين والفيلسوفين المغربيين "محمد عابد الجابري" و"طه عبدالرحمن" والمفكر اللبناني "نصيف نصار" وقبلهما المفكر الجزائري "مالك بن نبي" وغيرهم. كما حاول قبل ذلك فيلسوف الأدباء توفيق الحكين من خلال "الوسطية" والذي سئل ذات مرة، عن كيفية إحياء التراث؟ فإجاب مستنكرًا، وهل مات التراث حتى نعمل على احيائه. إن الثقافات والحضارات لا تموت وإنما تتفاعل وتتراكم لتشكل حضارة جديدة، وما الحضارة الغربية اليوم إلا نتاج تراكم وتفاعل الحضارات السابقة، والتي هي مبثوثة اليوم بداخلها تجري منها مجرى الدم في العروق، وكذلك الحضارات التي سبقتها وهكذا دواليك.

وقد نتفق مع توفيق الحكيم في هذا الطرح، مع الأخذ بالاحتياط والتحفظ على أن كل حضارة في زمانها حاولت التنكر للحضارات التي سبقتها بإضفاء لونها وطابعها على تلك الحضارة ولفها في لباس خاص يعطي الانطباع بما تحاول ان تظهره من احتكار. كما تحاول الحضارة الغربية اليوم، بطمس كل الحضارات والثقافات السابقة ومحوها وسرقة منتجاتها وكنوزها بمختلف الوسائل والأساليب المباشرة منها كالاستعمار، وغير المباشرة عن طريق زرع ثقافة الهيمنة المعولمة بدل الثقافات المحلية الثابتة، معتمد في ذلك فلسفة الثابت والمتحول، أي خلخلة الثابت وتثبيت المتحول! ولكن هيهات تفعل أو تحاول فالثقافات الأصيلة والحضارات العميقة مبثوثة في عقول وأرواح أصحابها وهي تجري منهم مجر الدم في العروق.

وقد لا يخفى على المفكر الواعي والمثقف الحصيف محاولة إخفاء وتجاهل الاسهامات العربية والإسلامية في الحضارة الغربية المعاصرة في جميع المجالات، والتي لا يمكن انكارها أو طمسها مهمًا فعلنا أو حاولنا. وقد أجد من الغبطة أن أذكّر هنا الأجيال الجديدة للأمة والتي لا حظ لها من دراسة تلكم الأعلام في برامجها المدرسية إلا في مراحل متقدمة ومتخصصة، مع أنه يجب أن تقدم مع حليب الرضاعة لأطفالنا حتى يربوا على القدوة الحسنة والأنفة الشامخة لا على نواكس الهزيمة وقيود التبعية! وأشير بافتخار هنا إلى تلك الأسماء الساطعة والثابتة في سجل تاريخ الفكر الإنساني والعربي الإسلامي، ومنهم: (ابن النفيس وابن سينا في الطب، وجابر بن حيان والرازي في الكيمياء، وابن الهيثم والخوارزمي في الرياضيات والفلك والهندسة، والغزالي وابن رشد في الفلسفة والفكر، وابن خلدون في التاريخ والعمران، والجرجاني وابن رشيق في اللغة والبلاغة والنقد، و،،و،،و،،،و،،،،)، ولا أكتفي هنا بما سبق منهم، بل أنوه أيضًا بما تسهم به الكفاءات والعقول العربية والإسلامية اليوم في مخابرهم من اكتشافات واختراعات وإبداع، والتي لم تجد الأرضية الخصبة والفضاء الموائم في أراضيها الأصلية المكبلة والمسيجة بالجهل من جهة وبالعمالة والتبعية الاستعمارية من جهة ثانية. وهم منتشرون في كل أصقاع العالم شرقًا وغربًا. وليس هذا من باب البكاء على الأطلال أو التفاؤل الزائد، وإنما هو تذكير ضد التغافل والنسيان وتثبيت ضد التجاهل والنكران. كما لا ألقي اللوم في ذلك على الغرب أو على أي قوي مهيمنة أخرى، وإنما ذاك ديدنهم وتلك فلسفتهم وسياستهم فهي قوى استعمارية تسعى إلى السيطرة على العالم ووضع اليد على ثرواته، وفلسفتها البراغماتية تبرر لها ذلك التصرف لأنها الأقوى علمًا ووسيلة، وترى في نفسها الوصي على العالم وعلى الإنسانية جمعاء، والحامي من أي خطر داهم أو مصير مجهول! ولو راح ضحية ذلك بعض المستضعفين وقلة من المعرقلين، فإن الغاية تبرر الوسيلة في سبيل الإبقاء على النوع والحفاظ على الكيف!.. وإن عدّ المستضعفين والمعرقلين بالآلاف والملايين! فتوجهاتهم السياسية وخلفياتهم الفكرية والفلسفية تقوم على المصالح الاقتصادية والغايات المادية الحسية. وكل شيء عندهم يقدر بالنسب المئوية والكميات التقديرية، وهو ما يخالف روح ومبادئ القيم الانسانية والأخلاقية. وانما يجب أن نلقي اللوم هنا، كل اللوم على أنفسنا وما ارتضيناه لأنفسنا من ذل ومهانة وتبعية، وهذا لا يعني أننا نرفض الحضارة الغربية بحذافيرها أو ننكر ما حققته من إنجازات علمية وقفزات تكنولوجية عظيمة، فهذا ليس بالأمر الوارد إطلاقًا، ولكن هذا لا يجعلنا نتغافل عن مخاطرها ونقائصها وما يعتريها من خلل وعيب حملها على أن تكيل بمكيالين و جعلها تعرج جراء اكتفائها بالوقوف على قدم المادة والعلم لوحدها متجاهلة قدم الروح والدين معتقدة في ذلك أن عصى الأخلاق الإنسانية والعقلية يمكن أن تعوضهما كما أقر بذلك فيلسوفها الكبير "ايمانويل كانت" وتبعه في ذلك كل من أعقبه من فلاسفة الغرب والشرق. وتلك فلسفة عميقة لا مجال للخوض فيها في هذا السياق ولكن الإشارة إليها ضرورية وملحة. وهناك توجهات فكرية مغالطة تصر على لغة الاقصاء وتعتمد في ذلك على دحض الفكرة بواقعها، وضرب الدال بمدلوله! فواقع الأمة الإسلامية اليوم لا يترجم بالضرورة روح ومبادئ عقيدته، ولا يرتقي إلى مستوى تطلعاته وطموحاته. كما أتصور أن واقع الغرب اليوم لا يترجم بالضرورة آمال وتطلعات شعوبه المتعطشة للقيم والمبادئ الروحية تعطش شعوبنا للرفاهية المادية والحسية! فالإنسان واحد في طبعه وتكوينه وفطرته وإن ما يفسد عليه طبيعته وفطرته ويجعله مغايرًا ومتباينًا تلك الفلسفات الهدامة والسياسات المفرقة، لاسيما تلك المناوئة منها لوحدة وسلام البشرية، والحريصة على بث فتن الاختلاف وزرع ألغام التشظي والتفرقة، لأمر في نفس بعض من آل يعقوب!

فالشعوب الغربية أو الشرقية ليست جميعها على دين ملوكها وليست هي في توافق معها فيما تختار من سياسة ومنهج للحياة، فلا الشعوب الغربية ترضى بهذا الظلم والاستعمار والنهب، ولا الشعوب الشرقية المستضعفة راضية بهذا الخنوع والرضوخ.

وإذا كان المفكر الفرنسي "روجيه بول دروا") (Reger Pol Droit يرى بأن "الغرب ليس مجرد اتجاه جغرافي"، فإننا نذكره أيضا أن الشرق ليس مجرد آبار بترول وثروات سائبة، وإنما وراءه أيضًا حضارة عريقة وعقيدة راسخة، قد ينالها الكسل ولكن لن يمحوها النسان!


عدد القراء: 3713

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-