عـن المـدنيـة الـعـربيـة أتـحـدث!الباب: مقالات الكتاب
منير مزليني - كاتب من الجزائر |
ارتبط مفهوم المدنية بالحضارة الغربية على أساس أنها مبدعته والمقننة له. وقد كان أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق يحدثنا بافتخار واعتزاز ونحن في الصفوف الأولى، على أن الفقيه الفرنسي (مونتسكيو) هو مبدع القوانين المدنية وواضع أسسها، وأن الفقيه المصري عبد الرزاق السنهوري هو من أخذ عنه ذلك حينما ذهب في بعثة للدراسة بفرنسا ونقله للأمة العربية ووضع القوانين المدنية.
وكنت أتساؤل حينها كيف كانت تعيش الأمة العربية الإسلامية؟! وكيف كانت تسير أمورها مدنيًا وتجاريًا والشريعة الإسلامية لم تأتي مفصلة في تشريعاتها بالشكل الذي نعرفه اليوم؟! ثم اطلعت بعد ذلك على فلسفة الفقيه "شارل لوي دي سيكوندا" وهذا هو الاسم الحقيقي لمونتسكيو (1689- 1755) صاحب نظرية "الفصل بين السلطات" التي تبنتها بعد ذلك أغلب دساتير العالم الغربية منها والعربية، ومؤلف الكتاب الشهير "روح القوانين" الصادر عام 1748م، وهو من قام بتقسيم شعوب العالم إلى شماليين وجنوبيين معتمدًا في ذلك على نظرية المناخ وأنه سبب الاختلاف بين الشعوب لما للمناخ من تأثير في سلوك وتفكير الشعوب وبالتالي في معتقداتهم. وقد أسس لهذه النظرية من خلال كتابه "الملكية العالمية" الصادر عام 1734. كما أن له مؤلف ثالث لا يقل أهمية بعنوان "رسائل فارسية" انتقد فيه الأنظمة الأوروبية بأسلوب ساخر صدر عام 1721م.
وبالرجوع إلى مصطلح المدنية والذي يعني بشكل أو بآخر كل ما هو ضد الديني أو ما يقابله في الحياة المدنية التي يسود فيها نظام فصل الدين على الدولة. الأمر الذي يحيلنا إلى سؤال وجيه: هل يمكن الحديث عن المدنية في ظل مجتمع عربي إسلامي؟
إن هذا السؤال أوسع وأعمق من أن يطرق في كذا مقال أو دراسة، بل قد لا يفيه حقه كتاب كبير من عدة أجزاء، كما أنه من الشوائك العالقة في حلق الفكر العربي الإسلامي لما ينم عليه من طرح خطير ولب عسير. ولكن لا بأس من أن نثير التساؤل حوله ونشير إلى بعض الطروحات والاشكالات المتعلقة به.
صحيح أن المدنية كمصطلح قد تناولتها القواميس الحديثة بمعنى النظام المقابل أو المضاد للطرح الديني، أي الحكم وفق التشريع البشري وليس التشريع الديني أو الإلهي. ومردّ ذلك راجع إلى مسألة تاريخية مهمة وهي متعلقة بالحضارة الغربية والعالم المسيحي خصوصًا، وهنا مربط الفرس كما يقال، وتلك هي المساحة التي يسمح لنا بالخوض فيها إسلاميًا وعربيًا دون عقدة أو حكم مسبق.
حيث وبالرجوع إلى تاريخ الحضارة الأوروبية أو الغربية لاسيما خلال فترة القرون الوسطى سوف نكتشف نواة هذه الإشكالية وسبب ظهورها وانتشارها والمتمثلة كما هو معروف لدى القاصي والداني في هيمنة الكنيسة أو رجال الدين على الحكم أين أحكموا سيطرتهم على الملوك ومنه على باقي الرعايا وبات الحكم في أيديهم، يشرعون كما يحلوا لهم ووفق أهوائهم ورغباتهم ومصالحكم الخاصة وبمعتقدات خاطئة الدين منها براء. ولم يكتفوا بذلك بل زادوا وأن وقفوا في وجه العلماء والمفكرين وكل من يعارضهم فكرًا أو مصلحة وحاربوهم بشدة وسلطوا عليهم أبشع الأحكام وأشنع العذاب. وأظنني في حلّ من التذكير بمأساة غاليلي وبقية العلماء والفلاسفة الذين طاردتهم الكنسية وحاربتهم باسم الدين. مما أدى إلى ثورة مدنية علمانية على الكنسية قادها الفلاسفة التنويريون والعلماء وسعى خلفهم الناس والدهماء رادين عن أنفسهم الظلم ومرجحين كفة العقل والمنطق والعلم على منطق الخرافة والأهواء والطمع. وقد تبعهم في ذلك الحكام بعدما كانوا في صف الكنيسة التي أحكمت عليهم الخناق لسنين عديدة.
وعليه إذا دققنا النظر في المسألة جيدًا لاكتشفنا بأن الخلاف لم يكن بين الدين كمرجع خالص والمجتمع بكافة شرائحه، وإنما هي مسألة رجال انحرفوا عن المسار الصحيح وأسسوا لأنفسهم أطماعًا ومكاسب باسم الدين. وبالتالي هناك فرق جوهري وأساسي لابد من ملاحظته والانتباه إليه، وهو أن رجال الدين لا يعنون بالضرورة الدين. أو أن الدين لا يعني بالضرورة الاجتهادات والفهم البشري لهذا الدين، أو بلغة الشريعة لابد من التفريق بين الدين والخطاب الديني أو بين الدين وممارسات المنتسبين إليه. تمامًا مثل قول وجوب التفريق بين العلم وأخطاء العلماء. فالطبيب حينما ينحرف عن أخلاقيات المهنة مثلاً ويرتكب جرائم باسم الطب كسرقة الأعضاء وزرعاها لدى آخرين دون وجه حق، فهذا لا يعني تشويه العلم أو الطب.
كما أن هناك ملاحظة منهجية أخرى يجب الوقوف عندها، تتعلق بأحداث تاريخية وأوضاع سياسية وقعت في أوروبا والعالم المسيحي وهي ليست بالضرورة تنطبق على الدين الإسلامي والعالم الإسلامي وبقيت الشعوب الأخرى. ومن هنا انطلقت المغالطات المغرضة المناوئة لهذا الدين والطعن فيه دون وجه حق أو دليل علمي قاطع وصريح.
وفي هذا السياق لابد من الأخذ بحذر شديد الفرق التاريخي والحضاري والعقائدي والسياسي بين الحضارتين، فالمدنية التي نتحدث عنها في الغرب أو العالم المسيحي ـ إن ظل هناك عالم مسيحي ـ ليست هي بالضرورة نفسها في العلم الإسلامي، كما أن التسمية ليست شرطًا أساسيًا، ويمكن للفقه العربي والإسلامي أن يجد حلاً للمسألة وإيجاد مصطلح جديد بدل المدنية والقانون المدني مثل قولنا "الحضرية" في مقابل "المدنية" و"قانون المعاملات" ونقسمه إلى عامة وخاصة في مقابل "القانون المدني" وبالتالي الخروج من عنق الزجاجة التي يحاضرنا بها الغرب وأدعياؤهم من أبناء جلدتنا.
ورغم ذلك كله، فلم أكن أتصور يوما أن حضارة مثل الحضارة الإسلامية امتد نفوذها لقرون من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وكسرت شوكة أعتى حضارات ذلك العصر (الروم) و(الفرس) لم تكن لها حياة مدنية وتشريعات معاملاتية يومية ترقى لمستوى تلك الحضارة العريقة وذلك الامتداد الحضاري الشاسع.
حتى جاء اليوم الذي اكتشف فيه وثائق هامة وسندًا رسميًا في غاية الأهمية يثبت بالدليل القاطع مدى تقدم الأمة الإسلامية في مجالات المعاملات المدنية ومنها تقدمها مدنيًا وحضاريًا. وتتمثل هذه الوثيقة في نموذج من عقد بيع مستخرج من قبل كاتب موثق للعقود أبرم بين طرفين من دمشق. والمدهش في هذه الوثيقة ليست في صفتها أي مجرد عقد بيع لأن عقود البيع عرفتها كل الحضارات السابقة منها واللاحقة، إلا أن السر يكمن في محتوى صياغة هذا العقد والشروط والعناصر التي يتضمنها، إذ هي لا تفرق عن العقود المدنية الحديثة في شيء بل تزيد عنها أن العرب كانوا يتحكمون في صياغتها وتحريرها شكلاً ومضمونًا. فأن تجد عقدًا صادرًا في القرن الثامن للهجرة مستوفي لجميع الشروط والعناصر المتطلب في عقد البيع الحديث فهو بمثابة أن تجد وثيقة طبية قديمة تصف داء أو وباءا بأعراضه كاملة بدقة متناهية وتحليل دقيق لا يفرق عنه قيد أنملة ما توصل إليه الطب المعاصر والعلم الحديث بكل عدته ومعداته! هذا من جانب المضمون، أما من جانب الشكل فقد كان الموثق يخير المتعاقدين ما أن كانا يريدان كتابة العقد نثرًا أو نظمًا، وهذا يدل على مدى تحكمهم في تحرير العقود وسلاسة التعامل بها والاعتياد عليها.
ومثل هذه الوثيقة والتي وقعت عليها صدفة أو قل نتيجة فضول قرائي، لأنني عثرت عليها في كتاب تراثي غير معروف، وقد لا ينتبه إليها أهل الاختصاص أو المختصين في مجال الحقوق أو العقود لأنها مكتوبة نظمًا في شكل قصيدة عمودية، كما قد لا يعيرها الأدبيون اهتمامًا لأنهم لا يقدرون قيمتها العلمية لاسيما وأنها من النظم المتكلف أدبيًا ولا تجلب الاهتمام. ولذا فكان لزامًا أن يكون المطلع عليها مهتمًا وعارفًا بالمجالين حتى يدرك قيمتها العلمية والأدبية والتاريخية.
أما الكتاب بعنوانه الكامل فهو "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار وعجائب الأخبار ومحاسن الأشعار وعيون الأثار" لمؤلف محمد بن صالح بن الحسن العصامي الصنعاني، تحقيق محمد بن علي بن الحسين الأكوع الحوالي، بيروت دار المسير 1405هـ الجزء الأول ص 317. والذي جاء فيه أن الشيخ (زين الدين الوردي) رحمه الله قعد في سوق الشهود بدمشق فجاءه رجلان ليكتتبا صكًا بمشترى ضيعة فقال: أكتب لكما إن شئتما نظمًا وإن شئتما نثرًا … فقال المشتري: بل نظمًا.. فكتب من غير توقف ولا روية ما تحير فيها قلمه حتى أتمها وهي:
باسم إله العرش هذا ما اشترى
محمد بن يـوسف بن سنـقـرى
من أحمد بن مــالك بن الأزرق
كلاهمـــا قد عرفــا من جُـلّـقِ
فباعـــه قطعة أرض واقعـــــة
بكورة الغوطة وهي جــامعــةْ
لشجــر مختـلف الأجـنــــــاس
والأرض في البيع مع الغراس
وذرء هذي الأرض بالــــذراع
عشرون في الطول بلا نـــزاع
وذرعها في الأرض منها عشرة
وهو ذراع باليـد المعتــــــبرةْ
وحدها من قبـــــل مالك التقــي
وجابر الرومـي حـدّ المشــرق
ومن شمـــال ملك أولاد علـــي
والغرب ملك عامر بن جهبلي
وهـــذه تعـرف مـن قــــــديـــم
بأنهــا قطعـــة بنت الـــــــروم
بيعا صحيحـــا لازمـا شرعـيــا
ثـم شـــراء قـاطعــا مرضيـــا
لا شــرط فيـه أبـــدا فـيـفـســـده
وليس فيــه مبطــل ولا عــده ْ
بثـمـــن مبـلغــــه مــن فـضـــة
وازنـــة جــيـدة مرضــيــــــةْ
جارية للنـــاس في المعــامـلـــةْ
ألفان منها النصف ألف كاملةْ
قبضهــا البــائـع منــــه وافيـــةْ
فعـــادة الذمـــة منهـــا خاليــةْ
وسلم الأرض إلى من اشــتـرى
فقـبـض القطعــة منه وجــرى
بـيـنهـمــــا بالـبـــدن التـفــــرق
طـوعـا فما لأحــد تـعـلــق
بعد الوقوف المحض والمشاهدةْ
والنظر الشرعي في المعاقـدةْ
بيعـــا صحيحــا ثابتـــا شرعيــا
ثـم شــــراء لازمـــا مرضيــا
ثـم ضمـــان الـدَرَكِ المشـــــور
فيـــه علــى بائعـه المـذكـــور
وأشهـــد عليهــــا بـذاك فــــــي
سادس عشر رمضان الأشرف
من عام خمسين تليهـــــا عشرة
من بعــــد سبــع مـائة للهجرة
والحمـــــــد لله وصلــى ربـــي
علـى النبــي وألــه والصحــب
شهد بالمضمــون من هذا عمر
بن المظفــر المعـري إذ حضر
فلما فرغ من كتابتها قال لشاهد آخر: أكتب رسم شهادتك نظمًا. فأراد أن يكتب فعجز، فقال: ما اسمك؟ قال: أحمد بن سوار
فقال أكتب: وحضــر العقــدان ذاك أحمـــد
هــو ابـن ســــوار بذاك يشهد؟ "
وما هو مؤكد أنه لو عرضنا هذا العقد ـ المحرر نظمًا في سوق دمشق خلال القرن الثامن الهجري ـ على خبير في العقود وبالأخص في عقد البيع لوجد فيه عقدًا نموذجيًا، يتضمن جميع العناصر والشروط الموجبة في عقد البيع مثل اسم البائع والمشتري ووصف الشيء المبيع وتوصيف حدوده وتحديد الملكية وذكر الثمن والتأكيد على قبضه وتسليم المبيع، ولم يكتفي بذلك بل تعاداه إلى الأثار المترتبة عليه كخلوه من العيب الخفي أو ما شابه، كما أكد على رضا الطرفين وعدم وجود غبن أو لبس في العقد، ثم تدقيق العقد مع الشرع وما إن كان مستوف للشروط القانونية الشرعية أم لا، وفي الأخير ذكر الشهود ووضع تاريخ البيع… وهذا ما يقطع الشك باليقين أن العقود عند المسلمين قديمًا كانت مضبوطة بدقة وأن العقود الحالية ما هي إلا مجرد نسخ عنها ومحاكاة لها بحكم الأسبقية التاريخية والتي تنوف عن خمسة قرون، والأكثر من ذلك أنهم كانوا أشد تحكمًا في كيفية توثيقها إلى درجة أن باتوا يبدعون في تحريرها نظمًا ونثرًا حسب طلب المتعاقدين. وإني لا أرى في هذه الوثيقة المنظومة إلا تحفة فنية ثمينة، ووثيقة علمية دقيقة، خليق بها أن تعلق على بوابات كليات الحقوق في جميع أقطار العالم الشرقي والغربي.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجدة بين سلطة الحكي ومتعة التلقي!
- لماذا يشقى المفكر ويسعد الجاهل؟!
- عـن المـدنيـة الـعـربيـة أتـحـدث!
- بين الفكر الإيماني والفلسفة البراغماتية...!
- السفر عبر الزمن..!
- البحث عن المثقف التنويري المشترك...!
- فلسفة اكتشاف العادي!
- الإبداع بين الممكن وما يجب أن يكون ...!
- محاكمة عقل..! (بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل)
- الإبداع في الفن ..! (بين الحریة والمسؤولية)
اكتب تعليقك