الإبداع بين الممكن وما يجب أن يكون ...!الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 11:09:33

منير مزليني

- كاتب من الجزائر

بين الكائن والممكن وما يجب ان يكون يتوزع الفكر البشري وتتفرق الطموحات والآمال، فمنهم من هو متعلق بما هو كائن، فلا يخرج عن إطار المحيط وما تدركه حواسه ويستوعبه عقله، وهذا النوع تمثله الشريحة الواسعة من الناس، ومنهم من هو متعلق بالممكن أوما يمكن أن يكون، وهو ما يمكن التفكير فيه ويتطلع إليه العقل، وهذا النوع من التفكير يهتم به العلم وتعتمد عليه البحوث العلمية والتجريبية في مختلف الشعب والمجالات. ومنهم من هو متطلع لما يجب أن يكون وهذا النوع من التفكير يهتم بحقل القيم سواء أكانت قيمًا أخلاقية أو جمالية أو غيرها، وهذا ما تشتغل عليه الفلسفة والدين. لأن الانسان بالأساس يتشكل من ثلاثة عناصر يتغذى كل عنصر منها بما يوافقه طبيعة ووظيفة، أولها الجانب الفيزيقي ويتمثل في الجسد وغذاؤه مادي، وثانيها الجانب العقلي ويتغذى على المعرفة والعلم، وثالثها الجانب الميتافيزيقي يتمثل في الروح وغذاؤه التعاليم الدينية والقيم الأخلاقية.

ولذا فالإبداع يعكس شخصية صاحبه ويأخذ لون التفكير الذي هو عليه، وهو يتجاوز ما هو كائن إلى ما هو ممكن وما يجب أن يكون باعتبار الابداع هو" القدرة على انتاج أو خلق شيء من العدم ". ومن تعريفاته أيضًا هو تجاوز للواقع ولما هو كائن بالفعل. كما أن الابداع يعتبر تحدي للذات وللمحيط بما يحمله من ثقافة بشكل عام. وفيما يخص التحدي الذاتي، فهذا الفنان الهولندي الشهير فينست فان غوغ يدعو الفنان قائلاً: "إذا سمعت صوتًا بداخلك يقول لا.. لا يمكن أن ترسم ففي تلك اللحظة يجب أن ترسم لتقاوم هذا الصوت. وبمجرد أن تفعل عكس ما سمعته، سيصمت هذا الصوت للأبد". أما تجاوز المحيط أو الثقافة السائدة بما تحمله من عادات وتقاليد وأيديولوجيات مكبلة، فإن من تعريفات الابداع أيضًا أنه "القدرة على التفكير خارج الصندوق". إلا أنه يجب التفريق هنا بين الابداع والابتكار. حيث تقول الأكاديمية النفسية الأمريكية (تيريزا أمابيل) والباحثة في الابداع الفردي "أن الابداع هو انتاج للأفكار في حين أن الابتكار هو تطبيق لها". ولذا فالإبداع الحق يكن في تلك المماحكات أو المحاورات الواقعة بين الممكن وما يجب أن يكون، أما تفكير ما هو كائن فهو متروك للدهماء والعامة، رغم المقولة الشهيرة التي يرى بأن "الابتكارات العظيمة هي وليدة الأفكار الساذجة، فلولا أن فكر أحد الأولين بسذاجة في التحليق في السماء لما جاء في الآخرين من اخترع الطائرة!". ويبقى الأشكال قائمًا بين التفكير الممكن وتفكير ما يجب أن يكون، أي بين الممكن المنوط بمحدودية وقدرة العقل البشري وإلى ما ينتهي إليه، وبين ما يجب أن يكون أو العقل الأمثل والقيم المطلقة التي تتجاوز الممكن إلى التقييم أو التقويم. وبتعبير آخر ففيما يهتم فكر الممكن بتجاوز ما هو كائن عن طريق خلق أو ابداع الجديد المختلف، يهتم التفكير الثاني بما يجب أن يكون عليه هذا الابداع والخلق. وهذا النوع الثاني من التفكير هو محل جدال ونقاش بين النقاد والمفكرين، فمنهم من يرى فيه قيدًا للإبداع والتفكير الحر وسلطانًا مكبلاً له، ومنهم من يراه مقومًا ومرشدًا. وبين هذين الاتجاهين يثار الجدال ويحتدم.

إبداع ما يجب أن يكون:

إذا كان الإبداع بأنواعه المختلفة سواء الإبداع التكنولوجي أو الإبداع العلمي او الإبداع الأدبي أو الإبداع الفني والإبداع الاقتصادي وغيرها مجاله الفضاء الممكن وما يتوصل إليه العقل البشري والمتخيل الإنساني، فإن إبداع الما يجب أن يكون مصدره العقل الخالق ومرجعيته القيم المطلقة والتي تشكل القواعد والأسس التي يقوم عليها الابداع وينتهي أو يرمي إليها، وهي منوطة بالقيم المطلقة قيم الخير وقيم الأخلاق وقيم الجمال، ولأن هذه القيم ينظر إليها من زوايا مختلفة بحسب كل ثقافة وعقيدة، فهي ليست بالضرورة قيم العالم المثالي التي دعا إليها الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون. فلكل ثقافة وحضارة فلسفتها المرجعية وثقافتها الخاصة التي تنظر من خلالها لهذه القيم. ونحن في عالمنا العربي الإسلامي لنا فلسفتنا ومرجعياتنا الفكرية والثقافية التي ننظر بها لهذه القيم. وهي بالطبيعة ليست مثل الفلسفات الأخرى الشرقية أو الغربية في نظرتها، ففي حين كانت الفلسفة الشيوعية والاشتراكية تقيد وتحد من هذه القيم من خلال أيديولوجياتها الشمولية الراديكالية المكبلة للحريات والمقيدة للحقوق باسم المساواة والعدالة الاجتماعية، وبين الفلسفة البراغماتية الرأسمالية الليبرالية المتحررة والتي أطلقت العنان للحريات والحقوق دون قيد أو شرط أدت في النهاية إلى طغيان القوي على الضعيف وفرض منطق القوي على المستضعف وهيمنة فلسفة القوة المادية والاقتصادية على حساب القيم الروحية والعدالة الاجتماعية. فإن الفلسفة الإسلامية والعربية تدعوا إلى السمو بالأفكار والسلوكيات البشرية إلى المبادئ العليا والقيم الأخلاقية السامية بخلفية تجسيد المقدس، بخلاف الفلسفتين السابقين اللتين حاولتا تقديس الواقع المجسد، من خلال تقديس العقل الإنساني وجعله المحور الأساس الذي يدوم حوله الكون في حين هو جزء منه ومستغرق فيه، ولا يمكنه بالتالي استغراق ما هو مستغرق فيه بالأساس. وواقع الحال يؤكد هذا الأمر يوما بعد يوم، إذ ما توصل إليه العقل البشري من تطور علمي وتكنولوجي وابداعي لم يحل مشكلات الإنسان ولم يصله بعد بالسعادة المرجوة والحياة التي يحلم بها، بل كلما زاد العلم تطورًا زادت همومه ومشاكله ومصائبه وكانت أكثر تعقيدًا وخطورة، مما جعل الكثير من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين الغربيين قبل الشرقيين يدعون إلى أخلقت التكنولوجيا والعلم والعمل على نشر القيم الأخلاقية السامية الداعية إلى الأمن والطمأنينة الروحية والراحة النفسية. لكن السؤال التي بات يطرح نفسه بإلحاح شديد في هذا السياق هو: ما الحل لجعل الإنسان المعاصر يعيش في راحة وطمأنينة؟ وإذا لم يكن بد من الإبداع، فما نوع الإبداع الذي يجب؟

الما يجب أن يكون بين المقترحات والحلول:

قلنا فيما سبق ذكره أن المستغرق لا يمكنه أن يستغرق ما هو مستغرق فيه أصلاً، والمحمول لا يمكنه أن يحمل الحامل، كما أن المخلوق لا يمكنه أن يستوعب الخالق، وكما ذهب في القول الفيلسوف العربي الكبير طه عبدالرحمن في القول بأن الفعل البشري ليس هو جوهر في حدّ ذاته كما أن العقلانية ليست واحدة بل هي متعددة نعجز عن عدها، وقد فصل في كتابه "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" بين عقلانيتين:

1ـ العقلانية البرهانية وهي التي تحكم الممارسات العلمية.

2ـ العقلانية الحجاجية التي تحكم علاقات التعامل اليومية وتشمل الفكر والفلسفة.

ثم ميز في كتابه "العمل الديني وتجديد العقل" بين ثلاث عقلانيات:

1ـ العقلانية المجردة.

2ـ العقلانية المسددة.

3ـ العقلانية المؤيدة.

أما في كتابه "اللسان والميزان" فقد بلغ تعدده إلى عقلانيات لامتناهية لا يمكن احصاؤها، وقد ابتكر مصطلحًا جديدًا في ذلك السياق أطلق عليه مصطلح "التكوثر العقلاني". وخلاصة ما توصل إليه فيلسوفنا المعاصر أن العقل البشري هو فعل من الأفعال البشرية مثله مثل السمع والذوق والبصر والشم، أي فعل إدراكي يقوم به الإنسان في حياته اليومية مثله مثل بقية أفعال الحواس الإدراكية الأخرى. وهو بذلك يخالف الفلسفة اليونانية التي ترى بأن العقل ذات قائمة بذاتها موجودة في الإنسان كما هي مبثوثة في الكون كله والذي يطلق عليه "لوغوس". والخوض في هذا المجال قد يأخذنا بعيدًا عن موضوعنا، لكن خلاصة وما أردنا قوله في هذا الشأن أن الابداع البشري في النهاية المعتمد على الفعل البشر والمتخيل الإنساني لا يمكنه أن يخلق شيئًا من العدم، وإنما بالقياس ومحاكاة للعقل الخالق يمكنه أن يبدع الجديد والمختلف قياسًا واعتمادًا على النموذج الأول أو ما هو مخلوق بالفعل أو سابق في الخلق. فيكون هو المرجع بالأساس والمقوم بالغاية والهدف. ودون الاستغراق في الكلام الفلسفي البعيد دعونا نضرب أمثلة نستكشف بها الرؤية ونستوضح بها المعالم. ولنبدأه بطرح هذا السؤال: ماذا لو عاد المبدعون الأوائل وراجعوا ابداعاتهم وأفكارهم وابتكاراتهم، فما الذي كانوا سيفعلون؟

أغلب الظن أن المثير منهم سوف يغير الضار إلى نافع والقبيح إلى جميل والفاشل إلى ناجح، والشرير إلى خير، بعد برهنت الأيام والسنون على من هو نافع وجميل وناجح وخير. أكيد أن كارل ماركس بعد ما منيت به الشيوعية من هزيمة وفشل سوف يغير من فلسفته ووجهة نظر وإن كان نقده للرأسمالية والاقطاعية صائبًا. كما أن فريدريك نيتشه سوف يعتذر عما دعا إليه من انكار للذات الإلهية والدعوة لمنطق القوة ورجل السوبرمان. بعدما أنجر على هذه الفلسفة من تقتيل ودكتاتورية وتسلط على البشرية. كما أن الكثير من المبدعين في المجال الأدبي والفني الذي ثاروا على القيم الإنسانية ودعوا إلى تشويهها والكفر بها وإنكار أن الإنسان خير والله خير، وابتكروا فنونًا وآدابًا مغايرة ومخالف لتلك القيم والداعية إلى الإباحية وتحطيم كل القيم والقواعد الإنسانية والجمالية السابقة والدينية والقطيعة معها وعدم الثقة في أي شيء. أكيد أنهم سوف يغيرون من نظرتهم للحياة ويستيقظون من ثورة غضبهم على الواقع الذي عايشوه بعدما تغيرت الأحوال والأوضاع وظل الخير خيرًا، والشر شرًا، والنافع نافعًا، والضار ضارًا.

وبالتالي لماذا يتنظر المبدعون اليوم أن يموتوا ليعودوا ويغيروا، ولماذا لا يغير المبدع من ابداعه اليوم وهو حي يرزق فيتمسك بقيم الخير والجمال والأخلاق النبيلة؟!  


عدد القراء: 3759

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-