البحث عن المثقف التنويري المشترك...!الباب: مقالات الكتاب
منير مزليني - كاتب من الجزائر |
كلما كانت هناك مناسبة ثقافية ما، سواء أكانت إعلانًا عن تظاهرة ثقافية، أو موت أحد الكتاب، أو ترشيح أحدهم لجائزة ما أو غيرها من المناسبات الثقافية، إلا وظهر على إثرها بعض المناوشات الكلامية والصدامات الفكرية، التي تنم عن تواجد صراع فكري ثقافي غير معلن بين فئتين متباينتين من المثقفين والمبدعين، تتلخص فيما يعرف بأنصار الحداثة، وأنصار التراث، والذي هو في الأصل صراع كلاسيكي متجدد، لا يكاد يخلو منه عصر ولا مصر. إلا أن الإشكال لا يطرح في وجود هذا الصراع الجدلي الحتمي كما رأينا، بل في كيفية طرحه ونوعية تواجده؛ فبينما نجده في المجتمعات المتحضرة والمتطورة يطرح على طاولات النقاش ومنابر الإعلام بشكل تحاوري عقلاني، نجده في بقية المجتمعات الأخرى يطرح بشكل فوضوي صراعي حاد وعنيف يصل حدّ الاقتتال ونشوب الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية، والتاريخ شاهد على ذلك والأحداث كثرى لا يحبرها بحر من مداد. لكون الصراع ليس ثقافيًا أدبيًا بمفهوم الشعر الحداثي في مقابل الشعري الكلاسيكي، بل هو صراع عقائدي وجدال فكري يستغرق المفاهيم العامة والأفكار الشمولية الواسعة ينتهي عند حدود مفهوم الدولة وبنائها والقانون الذي يحكمها. وبالتالي حينما تستمع لأحدهم وهو يطرح فكرة الحداثة والشعر الحديث مستعينًا أو مستعملاً بالأصح بعض المفردات والمصطلحات النقدية وهو جاهل بمرجعياتها الفكرية والفلسفية والعقائدية، معتقدًا أنها أصيلة الشعر والأدب، وكذلك الحال بالنسبة للمدافعين عن القصيدة الكلاسيكية وهم بحماسة المحارب الواثق من نفسه وثوق المؤمن بقرآنه، مع أنه شعر من إنتاج بشري محض تسري عليه سنة التطور والتغيير بشكل طبيعي ومنطقي. وأن التشبث والعصبية التي هو عليها ليست من المنطق ولا من الصواب في شيء. وهذا يفرز لنا صورتين نمطيتين متناقضتين متضادتين. فيبدو دعاة الحداثة في صورة المثقف المتعالي المستنير المتمدن والذي يرى في نضيره الكلاسيكي صورة التراثي القديم المتعصب وتذهب إلى حدّ القذف بالإرهابي المتطرف. في حين يبدو المثقف الكلاسيكي المحافظ في صورة المثقف المدافع عن التراث والحق والأصالة والتاريخ واضعًا نصب عينيه ذلك الحداثي في صورة المثقف الهش المدعي المنبهر بثقافة الآخر وقد تصل حدّ العمالة والخيانة والإلحاد والكفر. ناسين أو متناسين أن الكل يسبح في بحر المفاهيم الفكرية والعقائدية العميقة والتي تتطلب رباطة جأش وتنوير عقل، ولذلك نجد أن الأديب الكبير (طه حسين) حينما وضع كتابه (في الشعر الجاهلي) عام 1926 قد تطرق إلى مسألة قداسة النص وطبق عليه منهجه (الشك المنهجي) واضطر من خلاله إلى التشكيك في بعض النصوص القرآنية مما أدى إلى مساءلته أمام المحكمة الشرعية ثم أعاد طبعه بعد حذف الفصل المعترض عليه والمتعلق بالمساس بالنص المقدس، بعنوان في الأدب الجاهلي، والقضية معروفة ومشهورة.. إذًا المسألة أكبر وأشمل من الشعر والأدب وتتسع لما هو حضاري إنساني شامل. وأن أصل الصراع الدائر في العالم اليوم وعبر كل الأزمنة متعلق بهذه المسألة والتي دعنا نسميها مبدئيًا (تفاعل الحضارات) لكون هذه التسمية في الأصل هي محل ّ خلاف بين الفئتين، فدعاة الحداثة وما يمثلهم من الدول الغربية المتقدمة تطلق عليها اسم (حوار الحضارات) في حين يراها دعاة الأصالة والتراث (صراع الحضارات) لما يرونه فيها من هيمنة وغطرسة واحتلال، وبين هذا وذاك تتولد المصطلحات والمفاهيم، وتبنى الرؤى الواقعية للأشياء والأحداث.
وبفعل تعصب كل فئة إلى رأيها وعدم سماع الطرف الآخر بشكل جدي وموضوعي والحكم عليه مسبقًا بالصورة النمطية المتحدث عنها سابقًا، يجعل التقدم مستحيلاً والتعايش مستبعدًا، وبقي الحال دومًا على فوهة بركان نائم لا نعرف متى ينشط!!
وقد حاول العلماء والمفكرون حلّ هذه الإشكالية التواصلية بالدرس والتحليل.. وقد ذهب البعض منهم إن لم أقل أغلبهم في تقسيم الناس إلى فئات ثلاث:
- فئة العوام (النقليون) وهم الذين يأخذون بالنص ويتحدثون دومًا بقولهم.. قال النص أو قال فلان.
- الفئة الثانية: هم العقلانيون أي الذين يستندون إلى عقولهم في تفسير الأشياء ويعتمدون على الدليل المادي والعلمي للأشياء، وهؤلاء هم المفكرون والعلماء والمثقفون الحقيقيون.
- وفئة ثالثة هي فئة خاصة متعلق بالمتصوفة والزهاد والذين يقولون بالفيض والكشوفات وما إلى ذلك.
إلاّ أن هناك بعض التحفظ حول هذا التقسيم فيما يتعلق بأهل النقل واعتبارهم من العوام فهذا فيه تجني كبير وتجاهل تام لاسيما وأن الأخذ بالنص يتطلب إعمال عقل في الفهم والتفسير والتدبير، ولو أن أصحاب هذا الرأي يريدون ضرب الأشاعرة في مواجهة المعتزلة عبر الامتداد التاريخي، إذ يرون أن حداثيي اليوم هم امتداد لمعتزلة الأمس، وتراثيو اليوم هم امتداد لأشعرية الأمس. كما يرون أن ضرب المعتزلة على يد المتوكل واحتضان الأشعرية، هو ضرب للعقل العربي وقتل وجمود له، ويعتبرون تلك المرحلة هي بداية انحطاط الحضارة العربية والعقل العربي في مقابل ما كان عليه في عهد هارون الرشيد والمأمون والمعتصم.. واستمر هذا الانحطاط حتى الرعيل الثاني من المثقفين التنويريين في عصر النهضة أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومن تبعهم، إلى أن جاء العصر الحديث مع فئة المثقفين والمفكرين المتحررين الجدد، مثل محمد أركون وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم من اللسانيين الذين لا يقولون بقداسة النص ويخضعونه للنقد والتفكيك والتحليل وما إلى ذلك.. معتبرين أنه لا يوجد نص مقدس بل أن كل نص هو خاضع للنقد وإحكام العقل ما دام هذا النص خاضع للتأويل والتفسير، وأن ما يطلق عليه النص المقدس هي نصوص فيها ما هو عرضي وما هو جوهري، وأنه لا بد من التفرقة بين العرضي والجوهري، ويقصدون بالجوهري كل ما هو إنساني كوني خالد، أما العارض فهو القابل للتطور والتغيير حسب الزمان والمكان.
وهذا الطرح ينم على مسائل وأفكار من الخطورة بمكان ـ بمعنى الأهمية ـ ويفتح أبواب نقاش لا تنغلق أبدًا نظرًا لمدى أهميتها وخطورتها، وفيها من محمولات الكفر والإيمان ما فيها.. وتثير من الأسئلة ما لا ينضب، لاسيما فيما يتعلق بماهية النص المقدس، وهل يجوز أن نقسمه إلى عارض وجوهري، إذا ما اعترفنا له بالقداسة سلفًا؟ وهل يستطيع فكر المخلوق أن يستغرق أو يحيط بفكر الخالق إن جاز لنا التعبير؟ ومن له الحق في التشريع، الخالق أم المخلوق؟ وأيهم الأصلح والأبقى بالنظر إلى مبدأ الزمكان؟ وفي هذا الأمر صار الجدل بين المفكرين المسلمين والملحدين والعلمانيين والماركسيين وغيرهم، وقد ذهبوا في ذلك كل مذهب في مسألة بناء الدولة والتشريع الذي يحكمها، إلا أنه يمكننا أن نقسمهم إلى ثلاثة أراء كبرى:
أ - رأي يقول باستبعاد الشريعة تماما وإنشاء دولة مدنية التكوين والتشريع. (الملحدون والماديون وأغلب الشيوعيين)
ب - رأي يقول ببقاء الشريعة في المسائل الأخلاقية أما المسائل الدنيوية فهي من اجتهاد العباد لكونهم أدرى بمصالحهم الدنيوية العرضية (العلمانيون واللائكيون وبعض المفكرين الإسلاميين).
ج - رأي يقول بوجوب بناء الدولة وفق الشريعة الإلهية بناء وتشريعًا. (علماء الشريعة والإسلاميون عامة)..
وفيما نلاحظ هذا التباين في الموقف والرؤى فإننا لا نجد أرضية حوار مشتركة بينهم على أرض الواقع رغم ادعاء كل منهم بالعقلانية والموضوعية والحق، فالأحكام المسبقة والتهم الجاهزة هي السائدة والغالبة بينهم. وكل جواب عند أحدهم سؤال عند الأخر وهكذا.. فالتفسير يحتاج إلى تفسير والسؤال يؤول إلى سؤال! طبعًا المغزى من ذلك ليس هو البحث والتحري بقدر ما هو الرفض والقطيعة!
وبالتالي حينما يطرح أنصار الحداثة مسألة الحداثة في الشعر (لاسيما دعاة القطيعة مع التراث)، فإنه يتبادر لأنصار التراث كل تلك الأحكام المسبقة حول التخلي عن التراث والهوية وترك الدين وتقليد الغرب في عريه ومسخه وتقفز بالتالي إلى التهم الجاهزة التي تبدأ بالانبهار وتمر بالعمالة وتنتهي عند التكفير! وبالمقابل حينما يطرح أنصار التراث أفكارهم أو مشاريعهم يقف في وجههم دعاة الحداثة بالأحكام المسبقة المتعلقة بالرجعية والظلامية والجمود الفكري مما يترتب عليه التهم الجاهزة والتي تستهل بالمتخلفين وتمر بالمتطرفين وتنتهي إلى الدمويين والإرهابيين!
في حين يجب قبلها أن يقف كل واحد وقفة صدق مع نفسه ويحدد ماهيته ويتصالح معها، فإن كان علمانيًا فيجب أن يلتزم بقواعد العلمانية وشروطها، وكذلك الأمر بالنسبة للملحد، والأمر نفسه بالنسبة للمتدين مدعي التراث.. فلا نجد مثلاً من يطرح أفكارًا إلحادية أو علمانية ثم يدعي الإيمان ومحبة التراث، أو من يدعي نصرة التراث وهو يطرح أفكارًا مضادة له.. يجب أن تلعب اللعبة وفق قواعدها حتى نستطيع أن نتحاور.. فأنت حينما تواجه أحدهم بإلحاده مثلاً لكونه يتبنى أفكارًا إلحادية ويدعو لها، تجده يغضب ويتنكر.. وبالمقابل حينما تصارح أحدهم بأنه رجعي ومتخلف لأنه يطرح أفكارًا رجعية ومتخلفة، يغضب ويتنكر.. إن هذا النفاق الثقافي الذي نحن عليه هو أصل الخلاف في حين يجدر بنا أن نفكر في سؤال جامع ومشترك.. ألا يمكن أن نجد مثقفًا تنويريًا مشتركًا بين الحداثة والتراث دون المساس بالمقدس أو التعصب للموروث؟
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجدة بين سلطة الحكي ومتعة التلقي!
- لماذا يشقى المفكر ويسعد الجاهل؟!
- عـن المـدنيـة الـعـربيـة أتـحـدث!
- بين الفكر الإيماني والفلسفة البراغماتية...!
- السفر عبر الزمن..!
- البحث عن المثقف التنويري المشترك...!
- فلسفة اكتشاف العادي!
- الإبداع بين الممكن وما يجب أن يكون ...!
- محاكمة عقل..! (بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل)
- الإبداع في الفن ..! (بين الحریة والمسؤولية)
اكتب تعليقك