فلسفة اكتشاف العادي!الباب: مقالات الكتاب
منير مزليني - كاتب من الجزائر |
في حياتنا اليومية تمر علينا الكثير من الأشياء، منها ما يتكرر معنا يوميًا ومنها ما يتخللها من حين لآخر، ولشدة اعتيادنا عليها وعلى رؤيتها ومعايشتها نقول عنها أنها أشياء عادية أو أنها أشياء طبيعية، فالشمس تشرق علينا كل صباح وتغيب كل مساء، والهواء نستنشقه على مدار الثانية شهيقًا وزفيرًا، ونرى الناس تمر من أمامنا جيئة وذهابا، وتنقل إلينا الحواس بمختلف أنواعها مشاهد وأصوات وأذواق وملامس شتى ومتباينة، كما تمر بأذهانا العديد من الأفكار والقراءات والأحاديث، إلا أننا لا نلقي لها بالاً ولا نسدي لها اهتمامًا. وكأننا لم نرى أو نسمع شيئا، فقط لأننا اعتدنا عليها، ولأن العادي بالنسبة إلينا أصبح مرادف اللاشيء، لا قيمة له ولا أهمية، مع أنه يحمل في طيّاته أسرار الحياة وخفايا الحقيقة والوجود كله. وبدل ذلك أصبحنا لا نهتم إلا بما هو مختلف وشاذ وخارج عن قانون الطبيعة وناموس العاديّ. وقد غشينا ما غشينا من الغفلة والجهل فأصبحنا غير مبالين أو غير مدركين بأهمية هذين اللفظين أو المفهومين. كما أن الكثير منا يخلط بينهما فإذا كان العاديّ كما يعرفه أصحاب الاختصاص "أنه الأمر الذي جرت به العادة وأصبح معهودًا"، فإن "الطبيعيّ هو الشيء الذي ينسب إلى الطبيعة والسوي المنسجم مع بيئته". ولهذا الكلام مدلولات كبيرة ومهمة تفوق التصور العادي وتتجاوز التفكير المعتاد. فالشمس التي نراها كل يوم ولا نلقي لها بالاً هي من الاعجاز العلمي ما لم تتمكن من بلوغه العقول العبقرية المبدعة. والهواء الذي نتنفسه دون مشقة أو عناء هو من الأهمية والضرورة بمكان حيث تتوقف عليه الحياة كلها، وهو لا يخالف في ذلك القطر الذي تغيثنا به السماء، بل قد يفوقها ضرورة واستعجالاً، فأنت إن كنت تصبر على الماء أيامًا فإنك لن تستطيع الصبر على الهواء لأكثر من بضع دقائق، إلا أننا لا نعي ذلك إلا بعد أن نعيش الموقف أو الأزمة. ولا زلت أذكر عبارات أحد أصدقائي المقربين وهو يقولها بحرقة، بعد أن أصيب في شرايين القلب، حين عدته في المستشفى ورأيت على قميصه دمًا فسألته عنه، فقال لي: "البارحة استيقظت مفزوعًا بعد أن انقطع عليّ التنفس فقمت أتخبط وسط الليل، محاولاً استنشاق الهواء، وقد بدت لي القاعة على اتساعها خالية منه، ثم لمحت كوة في الحائط الزجاجي، أسرعت إليه وأخرجت أنفي عليّ أستنشق شيئًا من الأكسجين، لكن لا هواء، فرحت أتخبط في جنون، أطرق كل الأبواب حتى سقطت مغشيًا عليّ، ولولا أن أسعفني أطباء الإنعاش في حينها وأعادوني للحياة لما وجدتني حيًّا هذه الصبيحة". ولكن الأزمة عاودته بعد أن عاد للمنزل ومات وهم ينقلونه إلى المستشفى.
ولم تمس هذه الظاهرة الأشياء المادية والطبيعية فحسب بل شملت أيضًا الأفكار والمعتقدات، فأصبحنا بلهين بما كنا نعرف ونردد من أفكار وعقائد، ونتناقلها من باب العادة بمفهومها السالب غير مدركين مدلولاتها ولا عاملين بتعاليمها وقواعدها رغم أهميتها وعظمتها. فنقول الدين ونحن لا ندرك فحواه، ونقول الخير ولا نأخذ مسعاه، ونقول الحب ولا تهزنا أشجاه، ونقول، ونقول ونكرر ولكنه مجرد كلام، أو كلمات نلوكها أو نجمّل بها حديثنا أو نشنف بها أسماعنا ولكن لا نعيها ولا نعمل بها ونأخذ بقواعدها. ولكن بالمقابل نندهش وننبهر ونهتم للمختلف الذي يخالفها ويناقضها أو حتى يكفر بها. فقط لأنه غير عادي وغير طبيعي. وقد فهمنا بشكل خاطئ أو بصورة مغالطة أن الابداع هو المختلف المغاير للعادي والطبيعي في حين أن الكون والحياة تسير وفق تلك القوانين والنواميس والأسرار التي نقول عنها عادية وطبيعية. وأذكر مرة أنني صادفت مجموعة شعرية لأحد الشعراء المنتسبين للحداثة الشعرية بهذا العنوان: "اكتشاف العادي" فأخذته وكلي أمل في أن أجد به تلك الفلسفة التي أطلع إليها وأوشى لي بها العنوان. فرحت أقرأه بشغف واهتمام، لكنه خيب ظني وفجع أملي في تطلعي، واكتشفت أن العنوان في وادي والمحتوى في وادي آخر، فكان مخالفًا تمامًا لما توسمته فيه من فلسفة وعمق، فوجدته يسبح في مستنقع الغامض ويهيم في دهاليز المبهم والغبش. في حين أن الإعجاز والإبداع في معرفة أسرار الطبيعة واكتشاف الجمال الذي يتوارى خلفها، وفيما نراه من حولنا من عادي ومعهود. لكن ذلك لن يتأتى لكل عقل ولا لكل عين.
اكتشاف العادي:
نحن لو أدركنا أهمية العادي والطبيعي وعرفنا حقيقتهما وأسرارهما لما استطعنا التقاط أنفاسنا من الدهشة والحيرة والإعجاز، لأنها الطبيعة التي خلقت لأجلنا وخلقنا كي ننسجم معها ونحياها دون عناء أو مشقة بشكل مستمر ومعهود، أو كما نقول بشكل عاديّ وطبيعي. ولكن الإنسان بطبعه متسائل مشكاك فهو يميل إلى المترد على الطبيعة وعلى ما هو معتاد ومتعارف عليه، وبدل أن يجتهد في فهم الطبيعة واكتشاف أسرارها يعمل على معاكسة التيار وتحدي الطبيعة والكينونة بدافع الكبر والنرجسية، فهو لا يحتمل الوضوح ويسميه السذاجة، ولا يقبل البساطة ويسميها السطحية، ويرفض الواقع ويتشبث بالوهم، ويتجنب الحقيقة ويطارد الخيال.
الحقيقة التي يعرفها كل الناس بالنسبة له ليست حقيقة، والجمال الذي يميل إليه كل الناس بالنسبة له ليس جمالاً، والخير الذي يتعارف عليه كل الناس بالنسبة له ليس خيرًا. والإله الذي يعبده كل الناس بالنسبة له ليس إله. فقط لأنه يريد أن يكون المتميز الوحيد، وهو لا يرى هذا التميز إلا في المخالفة بدل الاختلاف، وفي التمرد بدل التكيف، وفي الانعزال بدل الاندماج والتماهي. وفي الكفر والتمرد بدل الإيمان والطاعة. فيما أن التميز الحقيقي والصائب يكون في الدرجة والعمق لا في المخالفة والانعزال والكفر.
فإن كانت الناس تتفق على حقيقة معينة فهي تختلف في درجات فهمها وقدرة استيعابها لا في رفضها ومقاطعتها. والجمال الذي يعجب الناس فهم فيه بنسب مختلفة ودرجات متفاوتة، فمنظر الشروق أو الغروب مثلاً، لا تستمتع به جميع الناس بنفس الدرجة ولكن لا أحد منهم يستطيع أن يدعي بأن ذلك المنظر غير جميل، والسرّ هنا كامن في جمال الشيء الذي حرك حاسة تذوق الجمال الكامنة فيك بشكل طبيعي، وليس كما يدعي البعض بأن الجمال يكمن في الرائي لا في الشيء المرء، أو كما يذهب الرأي المعاكس في أن الجمال كامن في الشيء لا في الإنسان. لأنه لو لم يكن للإنسان حاسة تذوق الجمال بالفطرة لما استطاع رؤية جمال الشيء وإدراكه، ولكن هذه الحاسة تكون لديه بدرجات متفاوتة تنمى وتتغذى بالدربة والبحث، فكلما كانت معرفتنا بفلسفة الجمال أكثر أدركنها أكثر وكلما دربنا بصرنا أو حاستنا الجمالية أكثر كلما تذوقناها أكثر. ورغم أن المنظر يتكرر كل يوم وبشكل عادي فهذا لا يجعله مملاً ولا قبيحًا، بل إن ذلك يتوقف على مدى قدراتنا الاستعدادية في رؤية الجمال وتقبله، أو إدراك الحقيقة وفهمها.
عمق العادي وفلسفته:
قياسًا على قول المناطقة بأن المقدمات الخاطئة تنتهي إلى نتائج خاطئة، فإن مفاهيمنا الخاطئة وأفكارنا المسبقة حول الأشياء توقعنا في مغالطات كثيرة. بل إن معضلة إنسان العصر أنّ لديه إشكالات معرفية في مهم الكثير من الأمور، والتي يميل إلى فهمها وفق رغباته وأهدافها لا وفق حقيقتها وما هي عليه. ولأن الثقافة المهيمنة والمسيطر في العصر الحالي هي ثقافة تتسم بالبراغماتية والمادية الحسية، فقد جعلت من هذه الفلسفة مقياسًا أو فلسفة تنظر بها للأشياء والمفاهيم، فما لا يحقق مصلحة مادية أو هدفًا ملموسًا فهو خاطئ ويجدر تركه. وقد أدت هذه الرؤية الأحادية إلى قصور الفهم وإنكار نصف الحقيقة أو بالأحرى الجزء الغالب والأهم منها، لكون القيم المعنوية والأخلاقية هي الأكثر أهمية والأكثر خطورة من القيم المادية على أساس أن الإنسان روح لا جسد أو أن الجانب الأهم فيه وما يجعله مختلفًا وراقيًا عن باقي الكائنات الأخرى من حيوان أو نبات والتي يشترك معها في الدورة البيولوجية في الحياة والقدرة على البقاء المادي (النمو والتكاثر)، هو الجانب الروحي والمعنوي، وأن العالم الميتافيزيقي أوسع وأكبر من العالم الفيزيقي بحكم أن هذا الأخير مرتبطة بحدود الحواس وقدرتها الإدراكية، في حين أن العالم الأول يتجاوزها إلى التصور العقلي والخيال الذهني.
ولذلك فالنظر إلى الأشياء بمنظور تلك الفلسفة المادية والحسية لاسيما في الشق الفكري والمعنوي يعرضنا إلى مجانبة الصواب. والنظر إلى مفهوم العادي والطبيعي بالشق المادي دون الذهاب أو الغوص في عمقه المعنوي سوف يوقعنا في الخطء والمغالطة. لأن جوهر الأشياء في معناها الفكري لا في تركيبتها أو بنيتها الجسدية أو المادية. فالإنسان ليس هو الرأس والجدع والأطراف، بل هو الكائن الحي المفكر. كما أن الشجرة ليست هي الجذور والجذع والفروع أو الأغصان بل هي الفكرة التي ترمز إليها تلك العناصر.
ولذلك فإن جوهر العادي ليس هو ما نراها وندركه بحواسنا ونطلق عليه أسماء بفعل ما اتفق عليه أو اصطلح به، ونقول هذا إنسان وتلك شمس وهذا بحر، بل هو الفكرة المجردة والحد المعرف به معرفيًا. ولو أخذنا جزاء من الإنسان وحاولنا تعريفه مثل العقل، أو الإحساس أو ما تعلق به من حرية أو عدالة أو حق، لما استطعنا توضيحه أو تعريفه.
نحن نرى كل يوم أشياء من حولنا، ونقول أشياء تخطر ببالنا، ونمارس طقوس ونقوم بأفعال مختلفة، ثم نقول عنها أنها عادية وطبيعية بفعل العادة والتكرار، فلا نلقي لها بالاً لأنها اكتسبت لدينا خاصية الألية، هذه الألية تجعلنا نهمل التأمل فيها ومعرفتها بحق، لكن ذلك لا ينقص من جوهرها ولا يغير من قيمتها في الواقع. فالناس تذكر الله وتصلي له كل يوم خمس مرات، ومع التكرار تصبح عادة أو فعلا آليا خال من الإحساس والشعور الذي نطلق عليه الخشوع، فتكون صلاة عادة وليست صلاة عبادة. مع أن كل صلاة في جوهرها هي مفصولة عن غيرها مستقلة بذاتها، فهي تجديد للعهد وتطهيرًا للنفس. ولذلك فالعادي الذي نفهمه نحن بفعل العادة والألية ليس هو العادي كما هو عليه في حدّ ذاته وتجريده وجوهره. وحتى نتمكن من هذه الرؤية لا بد من أن نخرج من سياج الألية التي تحيط بنا وتنوم عقولنا، ونرى الأشياء ونعي المفاهيم كما هي عليه لا كما تنقلها إلينا الآلية والعادة. وحينها فقط سوف نكتشف عظمة الأشياء من حولنا وسحر العالم وجماله.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجدة بين سلطة الحكي ومتعة التلقي!
- لماذا يشقى المفكر ويسعد الجاهل؟!
- عـن المـدنيـة الـعـربيـة أتـحـدث!
- بين الفكر الإيماني والفلسفة البراغماتية...!
- السفر عبر الزمن..!
- البحث عن المثقف التنويري المشترك...!
- فلسفة اكتشاف العادي!
- الإبداع بين الممكن وما يجب أن يكون ...!
- محاكمة عقل..! (بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل)
- الإبداع في الفن ..! (بين الحریة والمسؤولية)
اكتب تعليقك