الجدة بين سلطة الحكي ومتعة التلقي!الباب: مقالات الكتاب
منير مزليني - كاتب من الجزائر |
لست أدري ما إن كان قد تطرق لهذا الموضوع من قبل أم لا؟! ولكن ما أنا متأكد منه أنه لا أحد منا ينكر أثر الجدة في ترسيخ ثقافة الحكي لدينا وتدعيم وزرع أسس الحس القصصي في ذائقتنا الأدبية وتنمية ملكة الخيال في أذهاننا ونحن بعد صغار لم نطرق قبلها باب الكتاتيب ولا مكاتب التعليم. ثم استمر ذلك الاستمتاع في التلقي إلى ما بعد تلك المرحلة، فاستغرق الطفولة كلها وما بعدها، أين كنا نسترق السمع من بعيد والجدة تمارس طقوسها السردية مع أطفالنا بمتعة مزدوجة، متعة القص ومتعة التذكر! مع فارق بسيط يصنعه النقد والتحليل الذي اكتسبناه مع النضج العقلي واتساع التجربة الحياتية وتعمقها. لكننا نحتفظ بتلك الانتقادات والملاحظات لأنفسنا لأنها نتاج معرفي محض يطال المضمون ولا ينال من الجانب الفني والإبداعي المتمثلة في متعة التلقي وسلطة الحكي. وهما البابان اللذان يمكن الحديث فيهما في هذا السياق.
لكن قبل ذلك دعنا نشير إلى أن للجدة دور كبير في تنمية العديد من المواهب الأدبية لاسيما القصصية والروائية منها، ولا يمكن انكار ذلك الأثر الذي تركته فينا من خلال أسلوب المشوق والمتميز الذي عودتنا عليه وما كانت تثيره فينا من حماس وقابلية للتلقي، وليس أي تلقي، بل هو تلقي إيجابي ينمي فينا المشاركة الوجدانية والتفاعل الابداعي. وهذا ما يجعلنا نسلط الضوء على هذه النقطة بالذات، ومقاربة أثر الجدة إبداعيا من خلال سلطة الحكي ومتعة أو سحر التلقي.
ولقد أبدلت هنا كلمة متعة بكلمة سحر والتي أراها أكثر تعبيرًا وتمثيلاً لتلك العلاقة التواصلية السحرية التي تحدث بين المتلقي (الطفل) واللاقط (الجدة)، أين يكون الخطاب هنا (القصة) مجرد وسيلة أو تبرير لذلك الانجذاب السحري الذي يربط الطرفين ببعضهما البعض. فالطفل ينجذب إلى الجدة بفعل متعة التلقي، فيما الجدة تنجذب للأطفال بفعل ممارسة سلطة الحكي. تلك المتعة المتبادلة وإن اختلفت في الغرض فإنها تشترك في فعل المتعة وممارسة سلطة الحضور!
فالأطفال يقدمون على الجدة ويحولقون حولها وهم يحملون استعدادات نفسية ومهيؤون مسبقًا لعملية التلقي وتقبل سلطة السرد. وإذ هم يستمتعون بالسمع للجدة وقصصها فهم في الحقيقة يخفون وراء ذلك استمتاعًا آخر أكثر إثارة وهو ممارسة النضج والكبر من خلال لبس أدوار البطولة والتماهي مع شخصيات الحكاية وهم يمارسون من خلالها بطولاتهم ويعبرون عن أحلامهم البطولية، والتي لا يجدون لها مكانًا خارج مجال الجدة.
أما الجدة وهي تمارس سلطة السرد فهي تمارس من وراء ذلك رغبة في اشباع حاجتها الوجودية في الحضور والبقاء عن طريق ممارسة سحر الحكي، هذا الفضاء المتخيل الذي يضمن لها تلك المكانة ويحقق لها ممارسة تلك السلطة السحرية في مملكتها السردية اليوتوبية من خلال الانجذاب السحري الذي يبثه ذلك السرد الفني.
الجدة الرمز!
رغم أن الجدة كانت حاضرة في جميع ثقافات الحضارات السابقة وبشكل متقارب على اختلاف مشاربها وتوجهاتها الثقافية والعقدية إلا أنها باتت تعرف في العصر الحالي تراجعًا رهيبًا، بل اختفاءً مريبًا أمام الملهيات المادية والتكنولوجية الحديثة والتي نجحت بالفعل في مزاحمة بل زعزعة مكانة الجدة الإنسان وذلك من خلال التلفاز وجهاز الكمبيوتر ثم الهاتف النقال مع تواصله بالعالم الخارجي والمتخيل الالكتروني الذي يحققه الفضاء الأزرق عن طريق الإنترنيت الذي دانت له كل الرقابة وانجذبت لسحره كل العقول! لكن بفعل ذلك يكون قد أخذ سلطة الجدة بل تحول إلى (الجدة الرمز) التي كانت دومًا تمارس علينا سلطتها السحرية عن طريق السرد المتخيل لشل حركتنا وربطنا حولها وإلهائنا عما يفعله الكبار والسيطرة على عقولنا لتزرع فينا تلك البطولات الخيالية والقيم والمبادئ الاجتماعية والثقافية والعقائدية. لكن الفارق بين الجدة الإنسان والجدة الرمز، أن الأولى تمارس علينا تلك السلطة لغاية التربية والترابط الاجتماعي وبدافع الحب والرغبة العاطفية، في حين أن الجدة الرمز تساهم في عزل الفرد عن مجتمعه لغاية وجودية مادية وبدافع عقلي بارد. وفي حين كانت الجدة تشغلنا أو تمنعنا عن ازعاج الكبار عن طريق جذبنا حولها والهائنا عنهم، فإن الجدة الرمز تشغلنا عما يدور أو يحام لنا في هذا العالم وتشل حركتنا وتنوم عقولنا بمغرياتها الإلكترونية والخروج بنا من العالم الحقيقي الواقعي إلى العالم الافتراضي المتخيل. عالم نمارس فيه بطولاتنا الوهمية ونرسم فيه شخصيات افتراضية نلونها كما نشاء ثم نخلعها على شخصيتنا الحقيقية لنبدلها بها شيئًا فشيئًا إلى أن نتحول إلى كائن افتراضي عقلاً ووجدانًا وإن كان الجسد حاضرًا في الواقع بالقوة فهو غائب عنه بالفعل!
إن ابتعادنا عن الجدة الإنسان واستبدالها بالجدة الرمز (الافتراضية) قسم ظهر الإنسان وقضى على انسانيته بتحويله من الخيال الإبداعي إلى الخيال الافتراضي. إذ الجدة الإنسان وهي تمارس سلطة الحكي كانت تنمي فينا الخيال الإبداعي لتصنع منا أبطالاً حقيقين في الواقع، رجال المستقبل، فتبث فينا الحماس والشجاعة والإقدام حتى نصبح رجالاً متكاملين وعادلين في حين أن الجد الرمز تمارس سلطتها لتصنع منا أبطالاً وهميين وكائنات افتراضية مغيبة عن الواقع الحقيقي وحاضرة افتراضيا في عالم الخيال.
ولأن البطولة والشهرة في عالم الخيال أسهل وأقرب ومتاحة للجميع الضعيف منهم والقوي، فالكل يتهافت عليها تهربًا من محاولة العيش كإنسان ورجل حقيقي في الواقع الذي أصبح صعبًا في نظرهم بل مستحيلاً كما جعلوهم يعتقدون، فإنهم هربوا إلى عالم الجدة الرمز (العالم الافتراضي) الذي يضمن لك وبكل سهولة وبشكل سريع المكانة والشخصية التي ترغب بها دون عناء أو شقاء وكل ما يتطلبه الأمر هو الإيمان الفعلي بهذا العالم الافتراضي والكفر بالعالم الحقيقي الواقعي!
ليت هذا الأمر كان قصة من قصص الجدة الساحرة ومجرد حكاية تلهين بها عن مشاغبة الكبار، وتمارس هي بها علينا سلطتها وحقها في اثبات حضورها وبقائها. ولكنه الواقع الذي نحن مغيبون فيه عن الواقع الحقيقي المغيب عنا.
وقد يحملنا الفضول على التساؤل، هل كانت الجدة تدرب فينا على التهيئ للولوج إلى العلم الافتراضي؟ أم أن العالم الافتراضي هو التي سرق من الجدة تقنياتها وسحرها للسيطرة علينا؟!
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجدة بين سلطة الحكي ومتعة التلقي!
- لماذا يشقى المفكر ويسعد الجاهل؟!
- عـن المـدنيـة الـعـربيـة أتـحـدث!
- بين الفكر الإيماني والفلسفة البراغماتية...!
- السفر عبر الزمن..!
- البحث عن المثقف التنويري المشترك...!
- فلسفة اكتشاف العادي!
- الإبداع بين الممكن وما يجب أن يكون ...!
- محاكمة عقل..! (بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل)
- الإبداع في الفن ..! (بين الحریة والمسؤولية)
اكتب تعليقك