السفر عبر الزمن..!الباب: مقالات الكتاب
منير مزليني - كاتب من الجزائر |
حدثتني والدتي ذات يوم ونحن نجوب بالسيارة متجولين فٍرأت بعض الكتب والمجلات مبعثرة على المقاعد الخلفية فقالت: "ألا تمل يا ولدي من القراءة منذ الصغر وأنت منكب على الكتب!؟" ورغم مبالغتها في القول قليلاً لأني لم أكن بهذه الصفة التي توحي بها العبارة، إلا أني أجبتها بقولي: "أنظري يا أمي إن الإنسان البسيط يعيش عمره المقدر له بالسنين فقط، أما الإنسان الذي يقرأ فإنه يعيش عمره وعمر من يقرأ لهم .. ثم رحت أشرح لها العبارة مع طول الطريق..".. ولم تمضي أيام حتى صادفتني مقولة للمفكر والأديب الكبير محمود عباس العقاد تصب في الفكرة نفسها، إذ يقول فيها: "لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقديري الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة ـ دون غيرها ـ هي التي تعطيني أكثر من حياة، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق".. وبقدر ما تأسفت لأنني لم أكن السباق لهذه الفكرة، بقدر ما شعر بغبطة وطمأنينة كبيرين لأنني أحذوا طريقة تفكير مثل هؤلاء الكبار، خصوصًا وأنها لم تكن الفكرة الأولى ولا المفكر الأول الذي أحاذيه! إذ لم أكتفي بالوقوف عند هذا الجزء من الفكرة فحسب، بل حدثني خاطري على أن فكرة السفر عبر الزمن التي وضع لها العالم أينشتاين معادلتها ولم يستطع تحقيق الوسيلة أو الآلة التي تجسدها على أرض الواقع، أنها موجودة ومتوفرة منذ القدم، ولكن الكثير منا لم ينتبه إليها ولم يدركها، ألا إنه الكتاب!
صحيح أن الكتاب لا ينقلك جسدًا كما تحبذ النظرية الفيزيائية، ولكنه ينقلك روحًا وعقلاً، فالكتاب وحده من يسافرك بك عبر العصور والأمصار، ويخترق بك الزمان والمكان، من حاضر قريب إلى ماضي سحيق، ومن مكان مقيم إلى مصر نائي بعيد.. ألا تعد قراءتك لمؤلفات أفلاطون سفر لليونان وتجوال بين أروقة قصور أثينا ومعابدها؟ أو ليست قراءتك لكتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" لأبن خلدون سفر في التاريخ الفكر والحضارات وتجوال في البلدان والأقطار؟ كما أن الكتاب وسيلة تجعلك تتجول بين العصور والأمصار، من اليونان إلى الصين، ومن قبل الميلاد إلى العصر الحديث. ذلك يحدث بمجرد فتحك لكتاب فيأخذك إلى ذلك العصر أو ذلك المصر، بل قد يزيد عن ذلك بأن لا يكتفي بالعوالم التاريخية الواقعية التي عاشها الناس حقًا وفعلاً، فيأخذك إلى عوالم داخلية وسحرية والتي حلم بها الشعراء والكتاب والمفكرون، فتسافر في الزمن مرتين طولاً وعرضًا، واقعًا وخيالًا!
لكن قد يعترض أحدهم هذا الرأي ويقول: أن هذا توهم وخيال، فالسفر الحقيقي فعلاً وبدنًا ليس كالسفر عبر الخيال أو القراءة، فهناك تأكل وتشرب وترى بعينك المجردة وتلامس الأشياء وتتحدث إلى الناس وتتفاعل معهم، وقد تفعل، وتفعل، وتفعل .. فأقول له صحيح هناك فرق، لكنه فرق عارض، لأن كلا المسافرين يلتقيان في الأخير عند حقيقة واحدة وهي الذاكرة والخيال. وقد أسعفني القدر ذات عام وسافرت إلى الصين وتجولت بصورها العظيم، وزرت قصرها المحرم، ودخلت إحدى معاهدها الأدبية والفنية، وزرت بعض متاحفها التاريخية، وأكلت في مطاعهما وشربت مختلف الأنواع والأذواق، ونمت في أبهى فنادها وتجولت في أكبر شوارعها وأفخم أسواقها وأجمل أنهارها، لكنها مرة كالخيال وظلت مجرد ذكرياتي تجول بعالم الخيال وكأني لم أمشي إليها ولم أزرها! ففهمت أن الجوهر ليس فيما تطأه أقدامنا أو تجمعه بطوننا أو تلمسه أيدينا أو تسمعه آذاننا، بل كل ذلك عارض والجوهر يكمن فيما يبقى عالق بأذهاننا وأفكارنا وخيالنا. بل السفر الحقيقي، والسفر العميق والمفيد هو ما كان عبر الروح لا الجسد والعقل لا البطن. لأن الإنسان هو إنسان بروحه لا بجسده ومتميز بعقله لا ببطنه. وأنت حينما تقرأ لا تزيد لعمرك أعمارًا أخرى فحسب، بل إنك تضيف أيضًا لحياتك حيوات كثيرة وتمدّ زمانك بأزمنة عديدة، وبالتالي تزداد خبراتك وتتعمق أفكارك وتجاربك. كل ذلك لأنك تمكنت من السفر بالقراءة عبر الزمن وتخلصت سحن الجسد وقهر البعدين.
فأنت قد تسافر فعلاً وتتنقل إلى بلد ما فتقضي به أياما أو شهور أو حتى سنينا لكن في النهاية تبقى الذكريات، مجرد ذكريات تعيدها على مخيلتك، تمامًا كما نتخيل ونعايش الأماكن والأحداث التي نقرأها عبر الكتاب. بل إنك ببدنك لن تستطيع التنقل أكثر من زمانك المقدر ومكانك المحدود لأنك مرتبط بمقولة الزمان والمكان والذين لا ولن تستطيع الخروج عن مجاليهما والتهرب من قبضتهما إلا عبر الخيال الذي يستدرجك إليه الكتاب وتأخذك إليه القراءة. وقد لا يسعفك العمر بأن تتعرف على الناس بقدر ما تتيح لك القراءة ويعرفك به الكاتب. فبالاعتماد على السفر الجسدي الفزيائي وحده سوف تجد نفسك حبيس زمانك وسجين مكانك فلن تستطيع الإفلات منهما أو التفاعل خارج مجالهما. فلن تتعرف على سقراط ولا أفلاطون ولسوف تحرم من مجالسة الجاحظ ومنادمة أبي الحسن ابن هانئ والمتنبي، ولن ترى ولادة وابن زيدون وغيرهم، وغيرهم.. بل إن قدرتك ومكانتك قد لا تسعفانك بالتقرب من الملوك والسلاطين ولن تدخلك بلاط هارون، ولن ترى عرش بلقيس.. بل الأكثر من ذلك تعرف الأنبياء والرسل ومعجزاتهم ولا الصحابة ولا الأحبار ومآثرهم، كما ستحرم من عجائب الدنيا وجمالها فلن ترى موكب فرعون وهو يعبر النيل إلى الأهرامات، ولا جمال كليوباترا وهي تتجول بين قصور الأقصر، و،،و،،و،،،
إن الحياة التي يوفرها لم الكتاب وتمتعك بها القراءة أبعد بملايين السنين الضوئية مما يحققه لك جسدك المحدود. لأن الإنسان بعقله لا ببطنه، وبروحه لا بجسده، فببطنك وجسدك تعيش ولكن بعقل وروحه تحيا!
وشتان بيت العيش والحياة! فإن كان الإنسان يشترك مع الحيوان والنبات وبقية الكائنات في العيش فإنه ينفرد وحده ككائن بمعنى الحياة.. وقد تناول هذا المعنى الكثير من الشعراء والحكماء وأئمة فقهاء كل من وجهة نظره.. فقيل في معنى كم ميت حي، وكم من حي ميت!
فقيل:
ما مات من كان حيا ذكره أبدا
وفي الدفاتر قد تتلى فوائده
ولم يزل ذكره في الناس منتشرا
وينفع الخلق في الدنيا عوائده
وقال النابغة الذبياني:
المرء يأمل أن يعيش
وطول العيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى
بعد حلو العيش مره
وقيل أيضًا:
موت التقي حياة لا نفاذ لها
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
كما قال أحد الشعراء الجاهليين (عدي بن علاء الغساني):
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الجدة بين سلطة الحكي ومتعة التلقي!
- لماذا يشقى المفكر ويسعد الجاهل؟!
- عـن المـدنيـة الـعـربيـة أتـحـدث!
- بين الفكر الإيماني والفلسفة البراغماتية...!
- السفر عبر الزمن..!
- البحث عن المثقف التنويري المشترك...!
- فلسفة اكتشاف العادي!
- الإبداع بين الممكن وما يجب أن يكون ...!
- محاكمة عقل..! (بين سندان الماضي ومطرقة المستقبل)
- الإبداع في الفن ..! (بين الحریة والمسؤولية)
اكتب تعليقك