نوستالجيا Nostalgiaالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-10-01 10:36:22

أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

بعض الأفراد مسكونون بالماضي، يرسم الحزن ملامح شخصياتهم، عاديون يعملون وينتجون، بل إن الكثير منهم مبدعون، إنهم لا يغتالون الايجابية، بل العكس يحاولون التمسك بلحظات الفرح والبهجة. حزنهم لا يشعرهم بالعجز، ولا يصيبهم بالتقلب المزاجي، أو الإعاقة الفكرية، لكنه هناك كامن في اللاوعي يتحصن بحزم ٍمن ذكريات الماضي، وتغذيه آهات مكبوتة من التوق لذلك الزمن الجميل الذي مضى، وأبدًا لن يعود.

إنه الحنين إلى الماضي، أو (النوستالجيا)، تلك المشاعر المريرة التي يمر بها البعض عندما يفكرون في تجربة الماضي التي كانت أفضل من الحياة التي يعيشونها الآن... إن كل من يحن للماضي مفضلاً إياه على الحاضر، يكون ذو شخصية يغلب عليها طابع الحزن، فالحنين مرتبط وجوديًا بالحزن، وما يدور في فلكه من انطواء واستغراق في الذات، وشعور بالفقد... إن المتعلقين بالماضي، أصحاب المزاج الحزين، يختلفون عن ذوي الطاقة السلبية؛ المتذمرون، ذلك أن نظرتهم للأشياء تتسم بالهدوء والرومانسية، لذلك فهم مغرقون في الخيال، وما يشبه أحلام اليقظة Day-dreaming.

وقد قيل، إن الذكريات هي من يدمر الإنسان، سواء الذكريات السعيدة، أم تلك التي تتشح بالحزن والكآبة! إن من تسيطر عليه النوستالجيا يرى الماضي جميلاً، بل يراه مثاليًا، انه يعيش حالة انفصال الذات عن الحاضر، وتحليقها في دروب الماضي وتعاريجه. إن معيار الصحة النفسية لوسم حالة التلبس بالماضي والحنين إليه، بصفة المرض النفسي أو عدمه، ينطلق من كون هذا التلبس إما سمة شخصية ملازمة للفرد، ولها تبعات غير صحية تؤثر على توافقه الذاتي والاجتماعي، أو إنه حالة مزاجية عابرة تستثيرها بعض الأفكار والمواقف. وبالطبع فالحالة العابرة لا تنطوي على اعتلال نفسي.

وقد شهد العقد الماضي تطورًا، وإن كان محدودًا في الأدبيات والدراسات العلمية التي تناولت مفهوم النوستالجيا، حيث لوحظ في الدراسات التجريبية والأبحاث التي تقوم على الملاحظة المقننة، والهادفة إلى دراسة وقياس الذاكرة الإنسانية، لوحظ أن هناك نزعة لتذكر الأحداث والمواقف ذات الصبغة الوجدانية المليئة بالشجن. وتنطوي الأدلة البحثية التجريبية في تفسيرها لظاهرة النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي، على اتجاهين؛ أما الاتجاه الأول، فيرى أن الحنين للماضي شعور عاطفي إيجابي، له تأثير في تعزيز المزاج، والشعور بأن للحياة معنى. وذهبت بعض الأبحاث في هذا الاتجاه إلى أن من لديهم النوستالجيا يكونون أكثر تقديرًا لذواتهم، ومن المفارقات، أنهم متفائلون بالمستقبل، رغم تشبثهم بالماضي.

التفسير الثاني يرى أن الحنين إلى الماضي أكثر عمقًا من أن يستنتج ويُفهم من خلال تجارب أو ملاحظات مقننة تُجرى في المختبرات النفسية، ويقود هذا الاتجاه ديفيد نيومان وفريق عمله في جامعة جنوب كاليفورنيا (David Newman, et al. 2020)، حيث يجادل نيومان، بأن هذه التأثيرات قد تكون ناجمة عن الإعداد التجريبي أكثر من الطبيعة الحقيقية للحنين. والواقع أن هناك أصوات تنادي بتغيير المنهجية العلمية في الدراسات النفسية الخاصة ببعض الظواهر السيكولوجية، وذلك بعدم اعتمادها فقط على التجارب المصممة التي تحوي مواقف معدة سلفًا، بل خروجها من المعامل إلى الحياة اليومية الطبيعية للإنسان ومتابعة تصرفاته وحالاته المزاجية في مواقف الحياة المختلفة. ذلك أن الموقف المصطنع من خلال التجربة يكون محفزًا للشخص بتوجيهه نحو الاستجابة أو رد الفعل المتوقع، وبالتالي فإنه لن يكون دقيقًا في إعطاء صورة صادقة للظاهرة المراد التحقق منها وتفسيرها. فعندما يواجه المفحوص موقفًا تجريبيًا يتضمن سؤاله عن أسعد لحظات حياته التي يمكن أن يتذكرها بالتفصيل، وبعد استغراقه وعيشه في ذكريات اللحظة السعيدة، يطلب منه المشاركة في استبيان يهدف إلى قياس حالته المزاجية، ومدى تقديره لذاته، وثقته بنفسه، ودرجة تفاؤله بالمستقبل. ومن المتوقع هنا أن يجد الباحثون، بشكل عام، النتائج الإيجابية التي يبحثون عنها، نظرًا لتشبع الموقف بالحالة المزاجية الرائقة والأجواء الإيجابية المحفزة.

ونتيجة لذلك، ركزت مناهج وطرق البحث في الآونة الأخيرة على دراسة السلوك الإنساني في مواقف الحياة الطبيعية، ومن ذلك ما قام به نيومان وزملاءه من أبحاث ودراسات عن النوستالجيا انتهجت أسلوب متابعة المشاركين بالدراسة خلال حياتهم اليومية، وذلك بتزويدهم بتطبيق ذكي يستخدمونه لمدة أسبوع. ويتيح لهم التعبير عن حالاتهم المزاجية ومستوى التفاؤل اللحظي الذي عايشوه، وكذلك الضغوط التي يتعرضون لها، وأماكن وجودهم، ومع من كانوا، وأيضًا وهو المهم، يحددون الحالات التي استغرقوا فيها بذكريات ماضوية اشعرتهم بالحنين.

وأسفرت الدراسة عن نتيجتين رئيستين؛ الأولى أن المشاركين شعروا بالحنين إلى الماضي عندما كانوا مع العائلة والأصدقاء، أو عندما كانوا على مائدة الطعام، أكثر مما كانوا عليه عندما كانوا في العمل أو المدرسة. وكانت النتيجة الرئيسة الثانية، أن الأفراد يكونون أكثر ميلاً للشعور بالحنين إلى الماضي، عندما يشعرون بالاكتئاب. وعلى نحو أدق، فان الناس يشعرون بالحنين للماضي عندما يعيشون حالة مزاجية تنخفض فيها المعنويات، ويزيد فيها الإحباط، فيبدو الحاضر كئيبًا، والمخرج هو تمثل الماضي والاستغراق في لحظاته السعيدة.

ويرى البعض أن العقل البشري هو من يبدع في جعل الماضي أجمل لدى أولئك الذين يستغرقون في النوستالجيا، ذلك أنهم بمجرد أن يصلوا إلى مسافة جمالية من الماضي، يدركون أنها ليست ذكريات حقيقية على نحو محض، بل هي إبداعات عقلية. والسبب أن الذكريات الإنسانية يعاد بناؤها في كل مرة تُسترجع فيها، لذلك فهي سجلات غير موثوقة بشكل مطلق للحقائق الفعلية لماضي الإنسان. ولأن الغرض من الحنين للماضي هو المتعة وليس الدقة في استعادة الذكريات، فانه مسموح للذاكرة بأن تقوم بتعديل نفسها بالطريقة التي تلقى صدىً أقوى في مراكز اللذة في الدماغ. 

إن ارتباط الحنين إلى الماضي بالحزن، نابع من حالة الفقد التي يعانيها الإنسان عند رحيل من يحب، والماضي رحل وحمل معه أشخاص وأشياء ومواقف جميلة، تستدعيها الذاكرة، فتتمثل أمامها بصورها التي يعلوها الضباب، ويحاول الإنسان الإمساك بسرابها ليستعيد نبض اللحظة الجميلة والصورة البهية، ولكن هيهات للماضي أن يعود، وهذا منبع الحزن والكآبة، وألم الفقد. وفي دراسة نيومان وزملاءه، آنفة الذكر، ظهر ارتباط الحنين للماضي بحالات من الكآبة تمتد على الأقل ليومين.

حالة النوستالجيا ليست تجربة فردية فقط، بل انها قد تتجلى على نحو جمعي، فهناك ثقافات تؤسس للحزن وبشكل ممنهج، حزن يتكئ على ثقافة العيش في الماضي والتحسر على فقده، والسخط والغضب على الحاضر بكل ما فيه، ناهيك عن استشراف المستقبل وما يكتنفه من ضبابية. فالذاكرة الجمعية هنا لا ترى الماضي إلا مثاليًا. مثل هذه الثقافات تعيش حالة من التأزم النفسي بكل ما ينطوي عليه من الصراعات ومشاعر القلق والاكتئاب، حتى بات التأزم سمة ملازمة لإنسانها. فتبدو النوستالجيا هنا عبارة عن خلل في المنظومة الادراكية والوجدانية للأفراد والشعوب في تلك المجتمعات والثقافات، مما يعيق محاولات المضي قدماً لصناعة مستقبل واعد.

ومن نافلة القول أن النوستالجيا كحالة وجدانية، حاضرة وبقوة في الشعر والفنون، وفي مجالات الابداع. حيث هناك محاولات في شتى أنواع الفنون لإحياء الماضي، والتصالح مع الحاضر بطرق إبداعية. 

وبشكل عام، يبدو أن تجربة الماضي التي كانت أفضل من الحياة الآن، وجزئية التفضيل أو ترجيح الحياة الماضية على أنها الأفضل لدى بعض الناس، مسألة لا تخضع للمعايير الموضوعية، بل هي ذاتية محضة.

 

أهم المراجع:

 

- Coontz, S. (2013).  Beware Social Nostalgia. Retrieved from:

https://www.nytimes.com/2013/05/19/opinion/sunday/coontz-beware-social-nostalgia.html

- Fivush, R. & Nelson, K. (2004). Culture and Language in the Emergence of Autobiographical Memory. Psychological Science, Vol. (15), (9), 573--577  .

- Ludden, D. (2020). The psychology of nostalgia: New studies show why we reminisce about the past. Retrieved from: https://www.psychologytoday.com/intl/blog/talking-apes/202003/the-psychology-nostalgia?eml

- Newman, D. B., Sachs, M. E., Stone, A. A., & Schwarz, N. (2020). Nostalgia and well-being in daily life: An ecological validity perspective. Journal of Personality and Social Psychology: Personality Processes and Individual Differences, 118, 325--347.

- Wang, Q. (2016). Remembering the self in cultural contexts: A cultural dynamic theory of autobiographical memory. Memory Studies, Vol. (9), (3), 295--304.


عدد القراء: 5462

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة S_ALZAHRANI من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2020-10-03 01:00:45

    النفس البشرية معقدة بشكل مبهر ، و باستفهام دائم . تفهمها اليوم ، و غدًا تطرح سؤال لوجود مسألة مختلفة فيها . أصبت يا دكتور ، و اتسعت بعلمك مداركي ؛ وهنيئًا لك حصيلة هذا التميز الذي يحيط بك .

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-