الدِيـن والتَـدَيُّن: نظـرة سيـكولوجيـةالباب: مقالات الكتاب
أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية |
منذ زمن ليس بالبعيد؛ وقد انشغل علماء النفس ونادوا بأهمية الدين في حياة الإنسان، وأكدوا على دور الدين في بناء الصحة النفسية وتحقيق التكيف النفسي والاجتماعي للأفراد، مما يساعدهم على حل مشكلات الحياة ويجنبهم القلق الذي يتعرض له كثير منهم، وبخاصة إنهم يعيشون في عصور متقلبة يسيطر عليها الاهتمام الكبير بالحياة المادية، والتنـافس الشديد في المصالح والمغريات الاجتماعية والاقتصادية، وتفتقر في الوقت نفسه إلى الغـذاء الروحـي؛ ممـا انعكس على حياة كثير من هؤلاء الأفراد سلبًا فأصبحوا عرضة للإصابة بالأمراض والاضطرابات النفسية والأزمات الاجتماعية. وقد توصل هؤلاء العلماء إلى أن الدين يؤدي دورًا إيجابيًّا في الوقاية من أعراض هذه الاضطرابات فيؤدي إلى صحة نفسية أفضل، وقدرة أكبر على مجابهة الأمراض والتغلب على آثارها السلبية، وسرعة الشفاء من الأعراض النفسية والقدرة على تحمل الضغوط الناتجة عن أحداث الحياة اليومية.
فالدين يمنح الثقة والقوة لمواجهة التحديات والأزمات التي تعترض الفرد في مجرى حياته، فيكون الملاذ وقت الشدة، الذي يشعره بالأمان وعدم الخوف. ومن هنا فقد زخرت الدراسات الغربية بتأكيدات على دور الدين، وضرورة الالتزام به في تقويم السلوك الفردي والجمعي للإنسان وإحداث تكيفه مع بيئته.
وهذا التكيف الذي يحدثه الدين هو حالة أعمق في مسار التوافق النفسي؛ فقد عرفت موسوعة علم النفس والتحليل النفسي التكيف بأنه خطوة أبعد من المواءمة على طريق التوافق سواء في المجال البيولوجي أو الاجتماعي أو النفسي، وهي تمثل تغييرًا في البناء أو السلوك لمواجهة متطلبات البيئة المحيطة.
فمما لا خلاف عليه أن الدين يزوِّد الفرد بنسق من القيم والمبادئ والمعايير التي توفر له التكيف مع كل ما حوله، حيث إن سلوك الإنسان لا يضطرب لوجود قيم ومعايير ضابطة يرجع إليها؛ وإنما يضطرب عندما يبتعد الفرد بتدينه عن هذه المعايير وعن فطرته التي خلقه الله تعالى عليها، هذه الفطرة التي تؤثر تأثيرًا مباشرًا على صحته النفسية وتمتعه بالسعادة والرضا والتوافق النفسي مع الحياة والمجتمع.
وإذا كان الدين كنسق من القيم والمبادئ والمعايير هو الذي يبني الإنسان، فإن التدين هو منتج هذا الإنسان؛ فهو يمثل انعكاسًا لرؤية الفرد وخبراته الدينية وخصوصيته الذاتية، ومحاولاته لترجمة فهمه للدين على أرض الواقع في شكل سلوكي؛ لذا نجد أنماطًا متباينة من التدين، هذا التباين الذي يرجع إلى اختلاف الفهم والتطبيق للدين.
ومن هنا نجد أنماط التدين متفاوتة من فرد إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى، ومن ثم فإن أنماط التدين هي أحد مظاهر التطور الإنساني، فهي تمثل انعكاسًا لمنظومة القيم والطبيعة الذاتية والظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها الإنسان في البيئات الاجتماعية المختلفة، والتي تفرز أنماطًا من التدين هي وليدة هذه التفاعلات الذاتية والبيئية. فالتدين إذن منتج بشري اجتهادي؛ ولأنه بشري فهو يتسم بسمات البشر، ولأنه اجتهادي فهو يصيب ويخطئ.
ولا أجد حرجًا في النظر للتدين على مستوى الفرد أنه ليس أمرًا مقلقًا؛ لأنّ ذلك من طبيعة الإنسان بشكل عام، في جميع المجتمعات، خاصةً الغربية، حيث تجد شخصًا كان إلى اليمين أقرب ثم تحول إلى اليسار، ومن هنا لابد من الابتعاد في المجالات التربوية عن المبالغة في التلقين، وتربية الشخص على المفهوم العقلاني المناسب، وليس المخالف حتى يتم قبول الفكرة عن قناعة تامة.
وقد أكد العلماء أن نشاطات الإنسان النفسية يمكن حصرها في ثلاثة جوانب: الجانب المعرفي الفكري، والجانب العاطفي الوجداني، والجانب المتعلق بالسلوك، وبناء على هذه الجوانب المتعددة لشخصية الفرد وسلوكه يمكن اشتقاق نماذج أو أنماط من الخبرات الدينية التي نلحظها في حياة الأفراد وقد حدد العلماء بعض أمثلة منها:
"التدين المعرفي الفكري": حيث يعرف الفرد من هذا النمط الكثير من أحكام الدين ومفاهيمه محصورة في المستوى المعرفي الفكري ولكنه غير ملتزم بهذه الأحكام في حياته اليومية وسلوكياته.
"التدين العاطفي الحماسي": والفرد ضمن هذا النمط يبدي عاطفة وجدانية جارفة نحو التعاليم الدينية لكنـه لا يمتلك الأصول المعرفية لها مما يجعله غير قادر على الحوار والمناقشة المرنة، فتحدث هوة بين حماسيته واندفاعه من ناحية ومحدودية المعرفة لديه حول مضامين التعاليم الدينية وأبعادها من ناحية أخرى، فيصل في أحيان كثيرة إلى حالة من التطرف.
وتتعدد أنماط التدين وتتباين، ويعد "التدين الأصيل" هو أكمل أنماط التدين وأكثرها توازنًا فالتدين الأصيل: هو النمط الأمثل من بين أنماط التدين حيث يتوفر لدى الفرد هنا مظاهر الدين من جوانبه المختلفة بشكل متوازن معرفيًّا وعاطفيًّا وسلوكيًّا، ويصبح الفرد منسجمًا مع ذاته وسلوكه، ومتفقًا قوله مع فعله، وظاهره مع باطنه، وهذا النوع من التدين يوصل صاحبه إلى الأمن والاستقرار والتوازن النفسي والاجتماعي، ويشعره بالطمأنينة والتسامح والصبر والرضا.
وإذا نظرنا للتدين في مجتمعنا السعودي فإنه يمكننا القول إن المجتمع السعودي يتسم مثله مثل بقية المجتمعات العربية والإسلامية بأنه مجتمع قيمي عقيدي تملؤه الدعوات إلى التمسك بضوابط الإسلام والاحتكام لتعاليمه وشريعته، ويكون الحكم على مدى تدين المجتمع من عدمه بقبوله فكرة منهج الإسلام كنظام للحياة والمجتمع، وإذا كانت المجتمعات تتعرض لعوامل التغيير المختلفة بفعل التطور البشري والتي ينتج عنها مواجهات واستقطابات من أنماط فكرية متباينة، فإن بعض المجتمعات قد يستجيب لها، لكن مجتمعات أخرى لا تتأثر بمثل هذه الاستقطابات والمواجهات وعادة ما تلفظها، وربما لخصوصيات ومقومات تميز بها المجتمع السعودي عن غيره من المجتمعات.
فكان رفض المجتمع وعدم تقبله لنوع من التدين الجديد على المجتمع تمثل في (حركة الإخوان) في مطلع القرن العشرين والتي قوبلت برفض مجتمعي عارم، صاحبه سلوك تصحيحي من جانب الدعاة والوعاظ لبيان وتوضيح شطط هذا التدين للناس وبعده عن أصول الإسلام الأصيلة.
ثم تأتي المواجهة الثانية مع محاولة احتلال الحرم المكي عام 1400هـ فيما عرف بــ (حركة جهيمان) التي تم القضاء عليها ودحرها، لتشهد الجمعة التالية للقضاء عليها إقبالاً كثيفًا من المصلين لم يكن معتادًا آنذاك في صورة مجتمعية رمزية تعكس الرفض المجتمعي لهذا النوع من التدين المتطرف. لذا فالمجتمع السعودي دائمًا يثبت مقدرته على لفظ الأفكار الهدامة والتدين المرفوض والمتطرف؛ فلم تلق أي صورة من صور هذا التدين قبولاً لدى المجتمع السعودي.
غير أننا لا يمكننا وبصفة علمية أن ننفي عن المجتمع السعودي حالة من الانفصام التي يعيش فيها البعض؛ بين المناداة والمطالبة بضوابط وقيم مستمدة من الدين؛ وبين الحياة الفعلية لهؤلاء البعض التي هي بعيدة تماماً عمَّا ينادون به من أفكار.
وإذا كانت عملية التوجيه الإنساني بشكل عام لاتخاذ سلوك معين ليست بالأمر الهين؛ وتزداد العملية تعقيدًا كلما زاد قدر وأهمية السلوك المطلوب، وإذا كانت الحياة هي أغلى ما لدى الإنسان، فإن عملية التوجيه للتخلص من هذه الحياة عبر الانتحار أو تفجير الشخص ربما تكون من الصعوبة الشديدة، لكن من يقوم بهذا التوجيه يتجه في الأساس لجانب حيوي ومؤثر كامن في الشخص المراد التأثير عليه وهو جانب التديـن.
هذا هو الباب والمدخل الذي يتم استقطاب الأشخاص المغرر بهم من خلاله، فإذا كانت النزعة الدينية التي تؤيدها السلوكيات المضطربة والفكر المشوش واضحة عند شخص ما، فهو بلا شك مطلب هذه الفئات ومحط أنظارها، فيجدون فيه الأرض الخصبة والفرصة السانحة لبث سمومهم وغرس بذورهم الخبيثة من خلال الاستقطاب المصبوغ بصبغة دينية؛ فيكون التدين لدى هذا الشخص هو مدخل التأثير عليه من خلال رصد ومراقبة سلوكياته عبر أشخاص عليهم سمة الصلاح والتقوى، ويتمتعون بقبول لدى الشخص المغرر به، فيتجه هؤلاء لتعميق التدين داخله بصورة مخالفة للممارسات الدينية السائدة في المجتمع، مع انتقادهم للممارسات المختلفة داخل مجتمعه، وإبراز مدى بعدها وتعارضها مع قواعد الدين من وجهة نظرهم؛ ومن ثم يغرسون الكراهية لدى الشخص لمجتمعه البعيد عن أوامر الله عبر ضرب أمثلة للظواهر والممارسات السيئة التي توجد في مجتمعه، ومن هنا يكون الانطلاق نحو تعزيز فكره لكراهية المجتمع.
بيد أن ليس كل أنماط هذا التدين دافعها خارجي؛ بل قد يكون لبعضها منشأ ذاتي؛ فكثير من الشباب في مجتمعنا يمكن تصنيفهم ضمن هذه الحالة، فهم يشعرون أنهم لم يقدّموا شيئًا للدين؛ مما يدفعهم إلى البحث عن الجهاد؛ في إطار فكرهم الأممي ورفضهم لمفهوم الدولة الوطنية. وهذا نوع من التشدد أفرزته السياقات الاجتماعية السائدة، وأدواتها من تربية وإعلام وغيرهما، حيث لم يكن هناك تأصيل لمفهوم الوطن في السياق الثقافي لدينا منذ الصغر، ولم يتم تثبيت مفهوم الوطنية إلاّ لاحقًا وبطريقة عابرة غير متأصلة.
إن التدين ليس طقوسًا دينية وموسمية فقط، وإنما هو منهاج حياة؛ حياة ترتكز على السلوك السوي القويم، والأخلاق الفاضلة والعبادة الصحيحة لله عز وجل التي لا تنفلت عن أصل الإيمان والمنهج الإسلامي في منابعه الأصيلة فهو عبادة ومعاملة، رقي وتحضر في القول والعمل والفكر.
لذا فنقد التدين وأنماطه البشرية المتنوعة الذي يمارسه الأفراد لا يعني نقدًا للثوابت والمقدسات، بل هو نقد لفهمهم للدين وسلوكياتهم المنتقدة ودعواتهم المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي باسم الدين ورفعة الإسلام، بل إن بعض أنماط التدين تشكل عبئًا وتشويها للدين ذاته. فليس من المقبول تبني خيار العنف والإرهاب سبيلاً لتحقيق رفعة مزعومة للإسلام والمسلمين، فما أسوأ أن تقطع الرقاب باسم الدين!!، وأن تسال الدماء تقربًا لله!، وتذبح الأطفال نصرة للدين!، وتباد المجتمعات لتحقيق رفعة الإسلام!! إنه لا مناص من التخلي عن أنماط التدين المذموم والتشدد المقيت التي تولد الحقد والكراهية ونبذ الآخر المختلف، وتتطور لتتخذ من العنف والإرهاب والتكفير سبلاً لترجمة أفكارها وفرضها على الواقع حتى بات النسيج الاجتماعي للمسلمين مهترءًا وتحول إلى واقع مفكك منكشف أمام إرادات القوى الإقليمية والدولية المتربصة.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- الأمن الفكري: مستويات التفكير واتجاهات التطبيق
- الدِيـن والتَـدَيُّن: نظـرة سيـكولوجيـة
- الإفصاح عن الذات
- التوكيدية Assertiveness
- ثقافة المجتمع والسلوك الإبداعي
- ذاكرة السيرة الذاتية الشخصية Autobiographical Memory
- تقدير الذات Self-Esteem
- الأبعاد الاجتماعية والنفسية للمعاملة الحسنة
- الاغتراب .. أزمة الإنسان المعاصر
- وجهة الضبط Locus Of Control
- الاندفاع والتروي Impulsive and Reflective
- نوستالجيا Nostalgia
- الاستثارات النفسية الفائقة Psycho-overexcitability
- الكفاءة الاجتماعية: قراءة للمستقبل Social competence: Reading of the future
- التفكير السلبي: غموض الرؤية Negative Thinking: Unclear Vision
- الحياء... لباس التقوى
- الذكاء الثقافي: التعايش مع الآخر
- الإيجابية الاجتماعية والإيثار Prosocial Behavior & Altruism
- المناعة النفسية: خط الوقاية الخفي
- أنت وذاتك: الهُوِيَّةُ المفقودة
- سيكولوجية العقل: نشوء البنية الفكرية
- سيكولوجية العقل: (2) معالجة المعلومات
اكتب تعليقك