الحياء... لباس التقوى الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-01-31 13:26:31

أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الحياء Modesty مفهوم متداول ومألوف في الكثير من الأدبيات والطروحات العلمية، والفكرية، فهو من الإيمان في التصور الإسلامي، ومن خصال الجمال والعفة في الأدب والشعر، والحياء عنصر هام في التربية والصحة النفسية. فالحياء في اللغة يعني الحشمة، وضدها الوقاحة، وعندما يوصف الشخص بأنه حيي، فذاك وصف إيجابي. ومعنى الحياء انقباض النفس عن فعل القبيح، وتركه، وهو تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويُذم. حالة الانقباض والانكسار هذه، تظهر علاماتها على الوجه، من خلال تعبيرات الاشمئزاز والضيق، من مجرد التفكير في تأييد القبيح من القول والفعل، ناهيك عن القيام به. يقول القسطلاني، عند شرحه لحديث عمران بن حصين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحياء لا يأتي إلا بخير" لأنه يحجز صاحبه عن ارتكاب المحارم، ولذا كان من الإيمان، لأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله به، وانتهاء عما نهى عنه". ويرى الغزالي أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم "قد أراد أن يجعل من حساسية المسلم بما في الفضيلة من خير وبما في الرذيلة من شر، أساسًا يدفعه إلى الاستمساك بالأولى، والاشمئزاز من الأخرى، حياءً من ترك الخير، ومن فعل الشر، بغض النظر عن الثواب والعقاب". يقول الله جل شأنه، في سورة الأعراف الآية (26) (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)، ومن تفسيرات لباس التقوى، الحياء، وهو خير من الثياب، لأن الفاجر إنْ كان حسن الثياب فإنه بادي العورة، حسب تفسير بحر العلوم للسمرقندي.

والحياء من الأخلاق الراقية، والصفات الفضلى، التي لا تكتسب معانيها الجليلة، فقط من خلال دورها في تهذيب النفس، بل لاتصالها بالله سبحانه وتعالى، فالحياء من صفاته عز وجل. وحياء الله تعالى "وصف يليق به، ليس كحياء المخلوقين، الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه؛ فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه وأضعفه لديه، ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الرب سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه يستحي من هتك ستره وفضيحته، فيستره بما يهيئه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر".

وهناك جدل بين المختصين حول مفهوم الحياء، فالبعض يرى أن هناك حياء محمود، وحياء مذموم، والبعض يرى أن هناك حياء فطري، وآخر مكتسب ومتعلم، كما أن هناك خلط بين مفهومي الحياء والخجل. وبالنسبة للحياء المحمود، فهو ما تم وصفه أعلاه، من أنه يمنع الإنسان من ارتكاب المستقبح من القول والفعل، وأما الحياء المذموم، ففيه تفصيل، فالبعض ينظر اليه على أنه شدة الحياء في بعض المواقف التي لا تتطلب ذلك، مثل الحياء من قول الحق مسايرة للآخرين ومداهنة لهم، أو الحياء من التفقه في الدين، أو طلب العلم، أو الحياء من السعي في طلب الرزق، وكل ذلك لا يعتبر خلقًا مطلوبًا، بل هو من الحياء المذموم. وبالنسبة للحياء الفطري، فهو الذي خلقه الله في النفوس كلها، كالحياء من كشف العورة، وأما الحياء المكتسب، وسمي بالحياء الإيماني، فهو أن يمتنع الإنسان عن فعل المعاصي خوفًا من الله، وكذلك حياء الإنسان عن قول أو فعل غير اللائق أخلاقيًا أو اجتماعيًا، كقول جرير في رثاء زوجته:

لولا الحياء لهاجني استعبار   

                             ولزرت قبرك، والحبيب يزار

ويعتبر الخجل Shyness من الموضوعات الشائكة، نظرًا لارتباطه بالحياء، كخلق كريم من جهة، ونظرًا لكونه مشكلة نفسية من جهة أخرى. والواقع أن الخجل يرتبط عادةً بالهدوء، والشعور بعدم الأمن، كما أن له علاقة بالقلق الاجتماعي. وللخجل أعراض سلوكية، وأخرى جسدية، فالأعراض السلوكية تشمل التصرف بهدوء وسلبية، وتجنب المواقف الاجتماعية، والحديث الهادئ المشتمل على سلوكيات عصبية، مثل اللمس المتكرر للشعر والوجه، والنقر بأصابع القدم على الأرض، والنقر بالقلم مرارًا وتكرارًا، وقضم الأظافر، وما إلى ذلك. وتشمل الأعراض الجسدية، الشعور جسديا بضربات القلب السريعة، وجفاف الفم، والتعرق، والشعور بالدوار، وتقلصات المعدة، كذلك فإن الخوف من فقدان السيطرة، أو الخوف من الإصابة بنوبة هلع تعتبر من أعراض الخجل الشديدة.

ويغذي الخجل وربما يصاحبه مجموعة من الأفكار السلبية عن الذات والآخر، وعن الموقف، ومن هذه الأفكار، الرغبة في المثالية لتجنب الحكم والتقييم من قبل الآخرين، وينطوي الخجل على لوم النفس، خاصة بعد الموقف الاجتماعي، كما أن اعتقاد الشخص بأنه أضعف من الآخرين (ضعف تقدير الذات)، والتفكير من قبيل "أنا غير مناسب" أو "أنا غير جذاب"، تعتبر من الأفكار غير الصحية المصاحبة للخجل. ومن المشاعر أو الأحاسيس المصاحبة للخجل، وربما هو مصدرها، الشعور بالحرج، والشعور بالسخف، والحزن والوحدة، والمشاعر الاكتئابية.

إذًا فالخجل يعتبر اضطراب في الشخصية، خصوصًا إذا زادت حدته، وإلا فإن القليل من الارتباك والتردد، عند مقابلة الآخرين، أو عند البدء بإلقاء كلمة، أو التحدث في جمهور من الناس، يعتبر طبيعيًا. وهذا يقود إلى أن للخجل بعد اجتماعي، أو لنقول إنه يستثار اجتماعيًا، فقلما يشعر الإنسان بالخجل وهو بمفرده. كما أن ثقافة المجتمع تحدد مفهوم الخجل، بمعنى الأمور والموضوعات المثيرة للخجل، فما يعتبر مخجلاً في ثقافة ما، قد يبدو طبيعيًا في ثقافة أخرى. ويستخدم بعض مثقفي العالم الثالث مصطلح "ثقافة العيب"، ويقصد بها الخجل، ويسقطها على كل فعل تلقائي يعبر فيه المجتمع عن مقاومته للتغيير وفق بعض الأطروحات الفكرية المستوردة من العالم المتقدم.

وعودة للخلط بين مفهومي الحياء والخجل، فإن البعض يرى أن الحياء المذموم هو الخجل، فهما يشتركان في خاصية إعاقة أو منع الشخص من قول الحق، أو طلب العلم، وغير ذلك. لكني أعتقد أن الأمر ليس بهذا التسطيح أو البساطة، لأنه يعني أن شدة الحياء التي منعت صاحبها من قول الحق هي في الواقع خجلاً! هذه النظرة تضع الحياء كصفة حميدة، في وسط متصل طرفاه رذيلتان؛ قلة الحياء أو الوقاحة من جهة، وزيادة الحياء أو الخجل من الجهة الأخرى. ولا يمكن لزيادة الحياء أن تكون صفة مذمومة، فالحياء لباس التقوى، كما لا يمكن للخجل أن يكون رذيلة.

 

أهم المراجع:

- السمرقَنْدي، أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد (1413هـ- 1993م). تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

- عبدالله، معتز السيد (2009م). الخجل. مجلة عالم المعرفة، الكويت.

- عبدالمعطي، حسن مصطفى، قناوي، هدى محمد (2022م). علم نفس النمو. الناشر: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع.

- العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر (1379هـ). فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله البخاري، الجزء الأول والجزء العاشر. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.

- الغزالي، محمد (1408هـ، 1988م). خلق المسلم. دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، جمهورية مصر العربية.

- القسطلاني، شهاب الدين أحمد بن محمد (ب ت). إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، الجزء التاسع. دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

- النملة، عبدالرحمن، سليمان (1426هـ، 2005م). الخجل: أسبابه وعلاجه. دار الفضيلة، الرياض، المملكة العربية السعودية.

- Burstein, M; Ameli-Grillon, L; Merikangas, K. R. (2011). Shyness versus social phobia in US youth. Pediatrics. 128 (5): 917–25

- Ehring, T. & Watkins, E. R. (2008). Repetitive negative thinking as a transdiagnostic process. Int J. Cogn. Ther. 1, 192–205.

- Xinyin, Chen (2019). Culture and shyness in childhood and adolescence. New Ideas in Psychology, Vol. 53: 58-66.

- Zimbardo, P. G. (1977). Shyness. What it is? What to do about it? Addison- Wesley Publishing Company.


عدد القراء: 4217

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 3

  • بواسطة ا.د. سماعيل الفقي من مصر
    بتاريخ 2022-02-03 14:21:19

    بارك الله فيكم أخي العزيز سعادة البروفيسور النملة ونفع بكم وبعلمكم

  • بواسطة د.محمد إبراهيم العبدالكريم من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2022-02-03 11:55:07

    سطورٌ عالية القيمة وإضاءة فكرية تفصل بين شعورين يخلط بينهما كثير من الناس؛ فالشعور بالحياء من كل ما قد يخدش القيم والقيمة، مكمن إرادة وقوة أخلاقية وكفاءة نفسٍ عارِفةٍ واعية بمحاسِن السلوك وكريم التعاملات. وفي الخجل انهِزام إرادة وضعف انكسارٍ واضطراب هوية، تدفع السلوك نحو الاختباء المرضي والارتباك التفاعلي مذموم العواقب؛ فالخجل يجعل النفس مخزنًا للمشاعر السلبية والتراكمات المؤذية للذات والآخرين، مولِّدًا للتحاملات الاستنتاجية هادِمًا للعلاقات. ومما لا شك فيه أن الحياء بنقائه وقوة حضوره التزامًا بالفضائل، يُعدُّ لَبِنة التقوى وهما شريكان يتكاملان ولا ينفصلان. عظيم الشكر لكم سعادة أ.د.عبدالرحمن النملة على هذه المفارقة الثمينة والمعاني الكريمة الجليلة.

  • بواسطة S_ALZAHRANI من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2022-02-03 07:57:39

    يعترينا النقص مهما بلغت بنا مسببات الكمال، قد يكون الحياء فينا بناحية غير مناسبة له، ولكنه في نهاية المطاف قد ينقذنا من أمرٍ شائك. و بالتأكيد أن الحياء الذي يتضمن لباس التقوى يحمل في طياته الثقة؛ والثقة لا تأتي إلا بالخير.. و علينا أن نضع الجرأة في مكانها الصحيح عندما نجتاز أفق الحياء.

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-