سيكولوجية العقل: نشوء البنية الفكريةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 07:12:41

أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

عندما يولد الإنسان يكون عقله صفحة بيضاء، لا يوجد فيه أي نشاط عقلي، من إدراك وتذكر أو تفكير، إنما هي أفعال وردود أفعال انعكاسية، تلقائية، لا يتوسطها أي عملية إدراكية، أو تفكير. ثم يبدأ العقل بتكوين أدواته عن طريق الحواس، والصور الذهنية، فالرضيع عندما يرتاح لبعض الوجوه المألوفة لديه، وينفر من تلك غير المألوفة، فإن هذا النشاط العقلي عبارة عن فعل انعكاسي تم فيه مطابقة الوجوه المألوفة مع صورها الذهنية المختزنة في المستودعات الحسية الانطباعية. وتعتبر انطباعية لأنها سرعان ما تتلاشى إذا لم تتكرر، بمعنى لو غابت تلك الوجوه المألوفة لفترة معينة، لنسيها الرضيع وتضايق من وجودها في حال عودتها.

الذاكرة العرضية موجودة حتى لدى الحيوانات والطيور، فهي تألف أصحابها من البشر، وتذهب وتعود لأماكنها بنفسها، وتستخدم غرائزها للعيش والبقاء. والذاكرة العرضية وما يتبعها من ادراكات حسية انطباعية أخرى، يُطلق عليها العمليات العقلية الدنيا (Lower mental processes)، والتي تعتبر أدوات عقلية بدائية، تنمو وتتطور لدى الإنسان، بفعل عوامل متعددة، من أهمها، استخدام القصدية في العمل والنشاط العقلي، ذلك أن العمليات العقلية الدنيا، تعتبر لا إرادية، تتم بشكل عرضي تلقائي. وعندما يبدأ الإنسان بإعطاء معنى لما يدركه من خلال تصنيفه ضمن مخطط عقلي (Mental scheme)، فإن العقل يطور أدواته من حفظ للمعلومات ومعالجتها، واستخدام المخزون العقلي في التفكير، والحكم واتخاذ القرار، إلى غير ذلك من العمليات العقلية العليا (Higher mental processes).

إن نشوء الأفكار لا يكون من خلال توالدها في العقل، فالعقل يقوم بمعالجة ما تم إدخاله فيه، وتوليد أفكار جديدة، لكن الأفكار، التي شكلت البنية العقلية، تعتبر نتاج لمسار نمائي تفاعلي بين الإنسان والسياق الاجتماعي الثقافي الذي يوجد فيه. وحسب وجهة النظر النمائية، هنالك مساران للنمو العقلي؛ المسار البيولوجي، والمسار الثقافي. فالعمليات العقلية الدنيا تعتبر نتاج لمسار النمو البيولوجي، بينما تعتبر العمليات العقلية العليا نتاج لمسار النمو الثقافي.

في سني العمر الأولى، يُلاحظ أن الطفل عندما يُعرض عليه موقفًا يتطلب حلاً لمشكلة ما، مثل المقاييس والأدوات أو الألعاب التي تتطلب تفكيرًا يقود الأداء للوصول للحل الصحيح، أو المطلوب، ويُعطى التعليمات أو الإرشادات التي تتضمن قواعد العمل، فإن الطفل، في الغالب، وعند استغراقه في التركيز، يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع، ثم همسًا، إلى أن يتحول هذا الحديث أو الكلام إلى حركة الشفتين التي يمكن ملاحظتها. هذا النوع من التفكير اللفظي، اصطلح على تسميته؛ الحديث الذاتي (Private speech)، ويعتبر مرحلة نمائية انتقالية بين الحديث الاجتماعي (Social speech)، والحديث الداخلي (Inner speech). ففي موقف الطفل أعلاه، دار الحديث الاجتماعي بينه وبين من أعطاه التعليمات، ثم ومن خلال الحديث الذاتي تم استدخال (Internalization)، الحديث الاجتماعي، ليتحول إلى حديث داخلي، أي تفكير. وهذا يمثل طرح فيجوتسكي (1934) Vygotsky، في الأساس الاجتماعي الثقافي للعمليات العقلية العليا، وعلى رأسها التفكير. ويمكن القياس على ذلك، واسقاطه على كل التفاعلات والممارسات الاجتماعية الثقافية التي يقوم بها الفرد خلال مسيرة حياته. فالبنية العقلية تعتبر ذات منشأ اجتماعي ثقافي، وبتطور السياقات الاجتماعية الثقافية، يتطور العقل. فعندما يتعلم الإنسان مهارة جديدة، ينشأ في الدماغ متصل عصبي دوره هو الربط بين التعلم الجديد ومواءمته مع المعلومات والخبرات السابقة، ووجد هذا الأمر مع أفراد تجاوزوا سن الخمسين عامًا، بمعنى أن العقل لا يتوقف عن التطور. وحسب بياجيه (1932) Piaget، فإن الأداء العقلي قائم على ثلاثة مبادئ رئيسة؛ الاستيعاب (التمثيل)، والمواءمة، والتوازن، وهي مبادئ بيولوجية استخدمها بياجيه لتفسير النشاط العقلي. حيث يرى أن عملية التفكير مرتبطة فقط بالنشاط الذهني، الذي تم بناءه من خلال العمليات الأدائية للعقل، تلك العمليات التي تمت ضمن المبادئ الثلاثة المذكورة وعلى أساسها، بمعنى نشاط داخلي صرف، وليس ذا منشأ اجتماعي- ثقافي.

العقل يحدد أوجه السلوك المختلفة، سواء الأدائية الحركية، أو العاطفية الانفعالية، ناهيك عن النشاط الذهني، الذي يعتبر مناط عمل العقل. فالاتجاهات، على سبيل المثال، تعتبر تنظيمات فكرية ذات صبغة عاطفية، تتضمن الميول والتفضيلات، وما يدور في فلكها من رغبات وخلافه، وإن اختلاف البشر فيها، يُرد عادة إلى اختلافهم الثقافي، بمعنى أن البنية الفكرية التي تمايزت الاتجاهات على أساسها، هي نتاج ثقافي. إن ما قام به فيجوتسكي، هو اثبات أن الخلفيات الاجتماعية الثقافية ليست فقط عوامل مستقلة تؤثر في تفكير وتصرفات البشر، بل إنها عوامل نمائية متأصلة (Ontogenesis) في نمو العقل البشري وتطوره. إن وجاهة هذا الطرح تم اثباتها تجريبيًا من خلال استدخال الممارسات الاجتماعية الثقافية بواسطة اللغة لتشكل التفكير. فاللغة تعتبر الخاصية الإنسانية المتفردة، بمعنى أن الكائنات الأخرى لا تمتلك اللغة بتراكيبها المختلفة، ومنطوقها، ورمزيتها، ودلالاتها. إن دور اللغة يتجاوز كونها أداة للتفكير، إلى صفتها كوسيلة ثقافية لها أثر نمائي في نشوء بنية التفكير. فالهواجس والتفكير ليسا إلا حوارًا داخليًا، بلغة خاصة، صامتة، أو همسًا، تشبه اللغة المنطوقة في جوانب، وتختلف عنها في جوانب أخرى. واختلافها يكون في صياغتها (قالبها)، فهي مختصرة، وسريعة جدًا، سيل من الأحاديث، والمشاعر والهواجس، تتم بلحظة، أو أجزاء من اللحظة. لذلك "نحن لا نفكر باستخدام الكلمات، ولكننا نفكر تحت ظلال الكلمات" (فلاديمير نابوكوف(1)  Vladimir Nabokov).    

 

الهوامش:

  1. فلاديمير نابوكوف روائي وشاعر أمريكي من أصل روسي، توفي في العام 1977م.

أهم المراجع:

-النملة، عبدالرحمن بن سليمان (2017م). أنت وذاتك: الهوية المفقودة. مجلة فكر الثقافية، العدد (38). المملكة العربية السعودية، الموقع الالكتروني:

https://fikrmag.com/article_details.php?article_id=1677

- Al-Namlah AS, Fernyhough C, Meins E (2006). Sociocultural influences on the development of verbal mediation: Private speech and phonological recoding in Saudi Arabian and British samples. Developmental psychology. 42[1]:117.

- Al-Namlah AS, Meins E, Fernyhough C (2012). Self-regulatory private speech relates to children's recall and organization of autobiographical memories. Early Childhood Research Quarterly. 27[3]:441- 6.

- Berk, L. E (1992). Children’s Private Speech: An Overview of Theory and the Status of Research.  In R. M. Diaz & L. E. Berk (Eds.), Private Speech From Social Interaction to Self-Regulation. New Jersey: Lawrence Erlbaum Assoc.

- Piaget, J. (1932). The Language and Thought of the Child. London: Routledge & Kegan Paul Limited.

- Vygotsky, L. S. (1934/1986). Thought and Language. Cambridge, MA: The MIT Press.

- Vygotsky, L. S. (1978). Mind in society: The development of higher mental processes (M. Cole, V. John-Steiner, S. Scribner, & E. Souberman, Eds. & Trans.). Cambridge, MA: Harvard University Press. (Original work published 1930–1935).

- Vygotsky, L. S. (1987). Thinking and speech. In The collected works of L. S. Vygotsky, Vol. 1 (pp. 37- 285). New York: Plenum. (Original work published 1934.)


عدد القراء: 2106

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-