حوار مع الفيلسوفة فرنسواز داستور.. الوجود، العدم، والزمنالباب: مقالات الكتاب
يحيى بوافي المغرب |
حوار مع الفيلسوفة فرنسواز داستور 1 الوجود، العدم، والزمن2
أجرى الحوار أوكتاف لارماناك ماثرون Octave Larmagnac-Matheron
ترجمة: يحيى بوافي
ترسم فرنسواز داستور بانورما للفكر الهندي الذي ظل نشطًا منذ ما يربو على ثلاثة الآلاف سنة؛ فكرٌ يَنْزَع ُإلى تحرير الإنسان من قيوده وأغلاله عبر عتقه من أناه. وسواء ارتبط الأمر بالهندوسية أو بالبوذية، فإن كل مدرسة منهما تقترح نظرة هادئة ومطمئنة للموت وللزمن، حيث نجد للعب حصته التي تظل غائبة من الفلسفات الغربية والديانات التوحيدية.
هل يمكننا استعمال لفظ الفلسفة من أجل تحديد التقليد الهندي؟
"الفلسفة" لفظ وضعه أفلاطون، ولئن هو كان أساسيًا لفهم التقليد الغربي، فلست أعلم ما إذا كان من الملائم تطبيقه على تقاليد أخرى. كما أن الحديث عن الفلسفة بالنسبة للهند ينطوي، بنظري، على مخاطرة بممارسة ضرب من التعسف على الوقائع، وإن شئت قُلْتَ بأنه يمثل شكلاً من أشكال النزعة الاستعمارية. لنشر سريعا إلى أن لفظ "الهندوسية Hindouisme" نفسه يبقى ابتكارًا بريطانيًا حصل إبَّان الحقبة الاستعمارية. أما فيما يخصني، فإنني أفضل الحديث عن الفكر الهندي، بالمعنى الواسع جدًا، وهو ما يفسِّرُ لماذا لا تتُور ثائرتي عند استعمال أحدهم لتعبير "الفلسفة الهندية!".
هناك أسباب قوية تدفع إلى تسجيل هذه المؤاخذة تتمثل في أن التقليد الهندي قد عَرف سِتَّ مدارس فكرية كبرى، كما شهد أيضًا العديد من الجدالات والخلافات بين الهندوس والبوذيين. وهو تقليد ممتد يغطي أكثر من ثلاثة الآلاف سنة من الفكر، أضف إلى ذلك أننا غالبا ما نجهل أن الجامعة الكبيرة الأولى قد تم إنشاؤها بالهند في مدينة نالاندا Nalanda. خلال القرن الرابع وليس بأوروبا، حيثُ كان الطلبة يُهيِّئونَ فيها أطروحات تماما مثلما هو حاصل اليوم؛ وفضلاً عن ذلك لم تكن هذه الجامعة تكتفي بتعليم الفلسفة فحسب.
ماذا عن لفظ حكمة؟
داخل فلسفتنا الغربية، يحيل هذا اللفظ إلى الحكيم سواء أكان أبيقوريا أو رواقيًا. أما سقراط فلم يكنِ حكيمًا ولا هو كان يريد أن يكون كذلك. من هنا إبداع لفظ فيلسوفوس philosophos [فيلسوف] الذي يعني محب الحكمة، ذاك الذي يبحث عنها دون أن يكون ممتلكًا لها. وهي، عند أبيقور، تستدعي نوعًا من الاتزان والرزانة المفعمة بالسعادة، القائمة على حساب اللَّذات، ممّا يُمثِّل بكل تأكيد درسًا بليغًا لمجتمعاتنا اليوم، التي تواجه الأزمة المناخية، غير أن ذلك ليس ذا علاقة كبيرة بالهند، بل من المؤكد أن لها تقاربًا أكبر مع الرواقية؛ لأن الرواقي هو من يعتلي القدر ويحبه، ومن هنا جاءت عبارة نتشه "حب القدر amor fati"، وفي نفس الاتجاه تؤكد حكاية التاميل على أن "كل شيء كائن من أجل الأفضل"، وإذن فالحكمة ستكون هي الاعتراف بأننا لا نقوى على تغيير مسار الأشياء ومجراها وبالتالي فالأفضل لنا هو التلاؤم معه بدل أن نحزن أو نأسى عليه، مهما كان حجم الذي يحصل.
وهو ما يعني أن اكتساب الحكمة ليس هو هدف الوجود داخل الفكر الهندي؛ بل ما يمثل هدفا وغاية هي موكشا3 la MOKSHA وتحرير الإنسان من القيود التي تُغِلُّهُ، وهنا نجد برنامجًا مغايرًا تمامًا هو الذي يجد تجسيده في تجرُّد المرء من أناه، ومن شخصيته الفردية الصغيرة، وداخل الهندوسية نجد الاندماج الأسمى وفي المطلق، أي براهما4 LE BARAHMA هذه الفكرة التي تقضي، بشكل من الأشكال، بوجوب تضحية المرء بنفسه من جهة كونه كائنا فرديًا، هي شيء مختلف جدًّا عما نجده في الغرب، ذلك هو المحرك الأكبر للحياة، لأن الموشكا Lamoksha هي وحدها التي تتيح الانفلات من الحلقة الجهنمية لدورة الميلاد والموت والانبعاث والحركة المستمرة - سامسارا5 la samsara- التي يتم عيشها بوصفها مأساة وتعاسة. وإجمالاً، أعتقد أن هناك شيء أكثر اتصافًا بالطابع المفارقاتي plus paradoxal وأقل تسْكينا وتهدئة في الهند: فالأمر، على الحقيقة، لا يتعلق ببلوغ حالة الإشباع والرضى والسعادة الفردية، كما أكدنا في الغالب؛ لأن "الكل يظل أكثر تعقيدًا في الشرق".
كيف نخلق حوارًا بين التقليدين مع محافظتنا في ذات الوقت على اختلافاتنا؟
إنه أمْرُ في غاية الصعوبة والعسر! أعتقد أنه من اللازم التفكير وفقًا لعبارات "نقط التَّصَاديpoints de résonance"، وإحدى المرجعيات الكبرى بالنسبة لي في هذا العمل، مثلها هايدجر؛ هذا المفكر الذي أراد تفكيك [تقويض] التقليد الغربي، اهتم على وجه التحديد بآسيا، لاسيما الصين واليابان، كما اهتم بالفكر الهندي في المرحلة الأخيرة من حياته حتى وإن كان ذلك بقدر قليل، نتيجة لتأثير ميدارد بوس Médard Boss [محلل نفسي سويسري ولد سنة 1903 وتوفي سنة 1990، وهو تلميذ انشق عن أستاذه فرويده وأسس تحليل الدازاين Binswanger]، فهذا المفكر الذي نربطه دائمًا بسؤال الوجود، بينما هو يُمثِّلُ بالأحرى مفكِّرَ العدم، والذي سيتخلى عن لفظ الوجود في الجزء الثاني من عمله، إن التقليد الغربي لاسيما أرسطو الذي مثل المرجعية الكبرى لهايدجر في بداية مساره جعل فكْرَه يتمحور ويتمركز حول سؤال الوجود هذا، بينما الفكر الشرقي تجلَّى بوصفه تفكيرًا وتأملاً في العدم، وقد انتهى الأمر بهايدجر، في مشروعه لتفكيك الفكر الغربي، بأن أدرك في صور الفكر الآسيوي، وجود سبيل صوب تجارب أخرى، تتيح تجديد الفكر وتوفير موارد جديدة له.
وفي حالة غياب نقط التَّصادي، فإن ما يعنيه ذلك هو أننا سنكون عاجزين عن تحقيق الفهم وإقامة الحوار، والأمر لا يتعلق بالقول بأن هذا التقليد كما الآخر يُرَدُّ إلى نفس الشيء، وأنهما يقولان معًا الأمر ذاته بلغتين مختلفتين، وأن السبيل من أحدهما في اتجاه الآخر سبيل سالكة وواضحة، كما أن الأمر لا يعني إطلاقًا القول بأنهما بكامل البساطة غير متوافقين، كما لو أنه لا وجود لأي شيء مشترك بين الناس، بل الأحرى هو إبراز وتَجْليَّة إمكانات العبور، مع الإشارة في نفس الوقت إلى ما يواجهه هذا العبور من صعوبات. وهو ما يمثل بديهية بالنسبة لي، بوصفي مترجمة أيضًا، بديهية؛ لأن فعل الترجمة لم يكن ليكون ممكنًا، حتى وإن كانت كل ترجمة خيانة، إلا لأن إمكانات الحوار تظل قائمة. بيْد أن ذلك يقتضي تفكيرًا وتأملاً في هذا العمل المتمثل في الترجمة، ولننظر، في هذا السياق، إلى ما فعله هايدجر مع الفلاسفة السابقين على سقراط، بوصفهم مفكِّرين، فهو يظل، بكيفية من الكيفيات، أقرب إلى الشرق أكثر من الغرب، إذ أن ما قام به هو أنه ترجم فكرهم بكيفيته الخاصة، من خلال تأويلهم بكثافة محاولاً تحقيق اللقاء مع المعنى الأصلي لكلامهم، وهو ما يستلزم الانفصال عن الترجمات السابقة التي كانت تسحب هذه الأفكار إلى داخل الأفق المفاهيمي للغرب. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن بعض المعابر تظل أسيرة الإرساء والإنشاء؛ لأن اللغة السانسكريتية هي لغة هندو أوربية، ولها بنية شبيهة باللغات الأوربية، بينما اختلافاتها عن اللغة الصينية واللغة اليابانية أكثر وضوحًا وجلاء.
هل يمثل الغرب، بصورة عكسية، مصدرًا للفكر الآسيوي؟
أظن ذلك، ولا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن الهنود كانوا مستعمرين وهو ما غيَّرَ تمامًا منظورهم إلى تقليدهم الخاص، كما اهتموا هم أنفسهم كثيرًا بالتقليد الغربي. وقد سبق لحنة أرندت أن قالت بأن أحد أفضل المؤلفات التي كُتبت حول هايدجر، كان مؤلفًا كتبه كاتب هندي والأمر يتعلق بكتاب الكاتب جارافا لول ميهتا Jarava Lol Mehta الذي يحمل عنوان: «Martin Heidegger: the way and vision» (مارتن هايدجر: السبيل والرؤية، وقد صدر سنة (1976)، فما يمتلكه الغرب من فكر مفاهيمي غاية في التطور يمكنه أن يغذي التقاليد الفكرية الأخرى. مثلما هو حاصل في الهند على سبيل المثال، لأن الفكر الهندي ليس فكرًا مفاهيميًا بالمعنى الدقيق للكلمة. ونفس الأمر يبقى محافظًا على كامل الصحة حين يتعلق الأمر بالفكر الياباني؛ فـ"نيشيدا Nishida" بوصفه الوجه الأساسي لمدرسة كيوطو KYOTO، يعرف بشكل جيد الفكر الألماني من هيغل إلى هوسرل، بل كان له طموح دفعه إلى البحث عن نقطة اتحاد الثقافتين الغربية والشرقية، ليخلق على أساس ذلك "ثقافة عالمية جديدة".
وفضلاً عن ذلك كان نِشِيدا مفكر عدم، وهي الموضوعة التي كرَّستِ لها آخر كتبك، فما المعنى الذي يغطيه هذا المفهوم في آسيا؟
لقد شاركت مؤخرًا بمدينة تورز Tours ضمن فعاليات ندوة انعقدت لتدارس موضوعة: "فجوة العدم la «béance du néant»؛ حيث تحدثت، من بين مواضيع أخرى، عن شكل الفراغ في الفن التشكيلي، أو عن الصمت في الموسيقى كذلك. ويبقى الأساسي لأجل التفكير في العدم والفراغ واللاَّشيء هو التحرُّر من الفكر الأرسطي حول الجوهر بوصفه ما يدوم ويستمر في الوجود في ما دون الصيرورة، وكما يقول ذلك هايدجر، العدم هو « le-ne-ens » (اللاَّ-موجود) le non-étant، وعليه يكون ما يتأمله فكر هايدجر هو ما ليس موجودًا، إنه "الإضاءة أو الإنارة l’éclaircie Lichtung، والتي لا يتعين فهمها انطلاقًا من الضوء بالألمانية licht، بل يتوجَّب فهمها بالأحرى انطلاقًا من الصفة leicht التي تعني الخفيف léger، فما يشير إليه العدم هو الفراغ الذي تتلاشى فيه كثافة الأشياء، لكن منه يكون انطلاقها، وعنه كل شيء يصدُر. وبهذا الشكل يكون التفكير هو محاولة المساءلة الجدرية لما يوجد في أساس المنطق ذاته: أي البُنْية الحمْليَّة للقضية، التي تُرْجِعُ الفكر إلى الزوج موضوع (جوهر) sujet- subjetum، ومحمول prédicat.
وهل هذا يلتقي مع فكر اللاَّدوام الذي يفصح عن نفسه خصوصًا في البوذية؟
نعم ذلك مؤكد، لأن التفكير في العدم [أو فكر العدم] هو تفكير في الزمن بشكل وثيق لا تنفصم عُراه، لذلك ليس من باب الصدفة أن يأتي أول مؤلف لهايدجر حاملاً لعنوان: "الوجود والزمان"؛ لأن المشروع لم يكن هو إقامة التعارض بين الإثنين (الوجود والزمان)، بل إبراز أن الوجود هو الزمان. وداخل البوذية كل شيء يمضي ومَا من شيء يُكتب له الدوام في منظورها، وهنا نلفي تصَادِيًّا أو تردادا للرجع أو الصدى لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه، والذي تم إخراجه والتعبير عنه بشكل جيد في كتاب ستيفن هايني Steven Heine، المتخصص الأمريكي في بوذية الزن boudihisme zen، والذي يحمل عنوان: Exustential and antological Dimensions of Time in Heidegger and Dogen (الأبعاد الوجودية والأنطولوجية للزمن عند هايدجر ودوجين [1985])، الذي ألفه حول المعلم البوذي الياباني دوجين Dogen.
بين الزمن والموت لا يوجد إلا قيْد أنملة، فكيف يتم التفكير في الموت بالهند؟
إن العلاقة بالموت في الهند مختلفة جدًا، وما كانت لتكون كذلك، إلا لأن الانبعاث يظهر بوصفه شرًا وفكرة سامسارا somsera [الحركة الدؤوبة والتدفق المستمر] هذه تبدو حديثة الظهور نسبيًا؛ لأننا لا نجد لها ذِكْراً في نصوص الهند القديمة، نصوص الكتاب المقدس للديانة الهندوسية فيدا les veda، غير أنها صارت فكرة أساسية سواء في البوذية أو في الهندوسية، طبعًا مع وجود اختلاف في ما عدا ذلك يتمثل في أن البوذية مادامت تلغي وجود جميع الجواهر، بما فيها الأنا le moi، فإن ما يشهد انبعاثه، ليس هو أنا شخصية وفردية بعينها، لأن سامسارا la samsara بالنسبة للبوذية ما هي إلا مجموع (sam) لما يجري ويتدفق (يسيل) (sar) على غرار ماء النهر. ومهما يكن من أمر، فما من شك في أن فكرة الميلاد من جديد هذه، تُفسِّرُ تفسيرًا جزئيًا عدم عيش العلاقة بالموت بشكل دراماتيكي كما هو عليه الحال في الغرب؛ ذلك أن الموت يشكل جزءًا من الحياة، فأن يحيا المرْءُ "بشكل أصيل" [أو بأصالة] لا يكْمُن في مجابهته لقلق الموت، وأنا نفسي أعيش مع رجل هندي، صحيح أنه زرادشتي الديانة، لكن على الرغم من ذلك يظل انفصاله عن الموت عسير القبول بالنسبة لامرأة غربية التنشئة مثلي6. ففي الغرب طبعنا التقليد المسيحي بشكل عميق جدًا بوصفه تقليدًا جعل من الموت مأساة، وجعل الإله مصلوبًا ورمزًا لأحزان الموت بامتياز.
وما الذي يحدث لمن يفلت من دورة الميلاد والموت والانبعاث؟
هنا يوجد اختلاف أساسي بين البوذية والهندوسية، لأن هذه الأخيرة تنطوي على فكرة عن المطلق هي براهمان 7le brahman [الحقيقة المطلقة] باعتبارها أصلاً لكل الأشياء، وهو مطلق تتعذر تسميته ولا يوصف، فهو "ليس هذا و لا ذاك"neti neti، ويتعذر علينا تمثيله، وهو ما يجد له صدى، بشكل يبعث على الفضول، مع فكرة اسم الله الذي لا يمكن نطقه أو التلفظ به التي نجدها في الديانة اليهودية! والإنسان الذي يبلغ درجة موكشا la moksha [التحرر والانعتاق] ينفصل عن أناه الفردية، التي ما هي إلا وهمٌ، مكتشفًا بذلك وحدة ذاته الحقَّة–l’atman- (أتمان) مع الذات الأسمى-البرهمان - le brahman-.
إذن لا وجود لنجاة فردية فيما وراء دورة الموت والانبعاث؟
ليس هناك بعث للأجساد، فهذه الفكرة التي تتكرر في الديانات التوحيدية الكبرى، هي فكرة منحدرة من الديانة الزرادشتية، وقد تلونت هنا بنزعة تفاؤلية كبيرة، لأن كل شيء ينتهي بصورة حسنة، ما دامت المغفرة، بالنسبة للزرادشتيين، تعُمُّ وتشمل الجميع في الآخرة، بمن فيهم أولئك الذين كانت النار مصيرًا لهم. وبالتالي فداخل هذا الأفق الفكري يكون بإمكان الإنسان أن يعيش فرديا لُجَّة هذه الدراما التي هي الموت، وهو الأمر الذي يبقى غريبًا بالنسبة للفكر الهندي.
بما في ذلك الديانة البوذية؟
إن البوذية لا تعترف، بأي شكل من الأشكال، بوجود أنا جوهراني، تمامًا مثلما لا تفترض بلوغ أصل العالم. ليكون الوجود من منظورها موسومًا بثلاث سمات: أنتمان Anatman: غياب الذات أو النفس وأنيتيا anitya: اللادوام وعدم الثبات، ثم الدوكخا أو الدوكها Dukha: استحالة بلوغ حالة الإشباع التام والنهائي. وبهذا المعنى تكون البوذية أقرب إلى معنى مفهوم التناهي داخل التقليد الغربي؛ والذي يعني أن وجودنا ما هو إلا معبر [لا مستقر] كما أن هايدجر بدوره قد تخلى عن مفهوم الذات بمعنى ذات فاعلة sujet، لكنه احتفظ بفكرة الذات soi، ولأن الذات soi انعكاسية، تظهر وتتجلى في فضاء المفعولية، وهو ما يشرح فكرة كوني لست ذاتًا فاعلة بمعنىsujet لما يحصل لي. وليست "الذات عينها" le soi-même، كعلامة نحو مبدأ جوهراني، بل الذات هي على العكس من ذلك، نتيجة وحصيلة.
بمعنى ذات لا تتمتع بالسيادة في اللعب؟
الواقع أن هذا المفهوم؛ أي مفهوم اللعب lila 8 مفهوم مهم في بالهند، لأن الإنسان ليس هو سيد الأحداث، بل دوره يقف عند حدود إيجاد الحلول فحسب وأن يواجه مجرى الأشياء ويتعامل معها تعامله مع الألاعيب! على غرار ما يكونه الأمر بالنسبة لِلاَعب هو ذاته ملعوبُ به ومأخوذُ بداخل نسيج أو حبكة الأحداث التي يتعين عليه استخدام الحيلة لفكها. وقد سبق لـ كوسطاس أكسيلوس KOSTAS AXELOS أن أمعن التفكير جيدًا في هذه اللعبة، انطلاقا من هيراقليط، فالسؤال الحق هو الذي نصُّهُ: كيف نجعل اللعبة في خدمتنا، بينما نحن أنفسنا ملعُوب بنا؟ ذاك هو السؤال. وهو ما يفسر حب الهند للحكايات وتعلقها بها: لأن ما يرتبط به الأمر في الحكاية هو دائما سحب الذات من القضية بكيفية ألمعية، والخروج من مجموع الأحداث التي لا يكون للإنسان تحكم فيها.
إذا كان الأساسي هو التلاؤم مع مجرى الأشياء، لن يكون هناك إذن هوام امتلاء دون جسد؟
في كل الأحوال ليس ذلك بذات المعنى الذي نجده بالغرب؛ لأن الانتباه لا يرادف الموت، فضلاً عن أن التوسط يعني ويقتضي ممارسة للجسد - le yoga و النرفانا le nirvana - تعني l’extinction "إخماد الجسد" وبالتالي فهي تحيل إلى موضوعة أساسية في الفكر الهندي هي التنفس la respiration، وفصلاً عن ذلك يؤكد أعظم المفكرين البوذيين، أعني ناغارجونا Nagarjuna [عاش قرابة القرنين أو الثلاثة قرون من حقبتنا] على أنه لا ينبغي إقامة فرق بين الحياة اليومية وبلوغ اليقظة والانتباهatteinte d’éveil ، وبلوغ النرفانا عن طريق التأمل. لأن الأمر لا يرتبط إطلاقًا بمغادرة هذا العالم، بل يرتبط، على العكس من ذلك، بمواصلة ومتابعة العيش في لُجته ومعمانه.
هل تصدِّقون أن واحدًا من المعلمين اليابانيين هو دوجينDogen، أثناء إقامته بالصين كان طباخًا للدير، [عند عودته من إقامته أسس في القرن 13 مدرسة ساتو sato لبوذية الزن zen في اليابان]! أن يعيش المرء داخل حياة تافهة ومبتذلة لا يقصي إمكانية نفاده إلى اليقظة أو الانتباه، لأن التحرر والانعتاق لا ينبغي أن يكون حكرًا على البراهمانيين وامتيازًا موقوفًا عليهم، وعلى من يكرِّسون حياتهم للدرس، فأعظم عبرة ودرس للبوذية تعارُضها الدائم مع نظام الطوائف.
ومن جهة أخرى نجد في البوذية ممارسات خاصة بالتحكم في شهوات الجسد وإذلاله وهو ما يترجم إرادة أن يصير الإنسان روحا محضة وأن ينعتق من إسار الجسد؟
ذاك ما يبقى بالأحرى أقرب إلى هوام أو فنتقاسم امتلاك القدرة الكلية والذي يجد صورته في التحكم في الجسم والسيطرة عليه بما يمتلكه المرء من قوة، ولحدود اليوم لا زال بعض الزُّهاد يقضون أربعين سنة، لينتهي بهم الأمر في نهاية المطاف إلى لاستسلام، بينما البعض الآخر منهم لا يتحرك إلا على قدم واحدة، بوذا بدوره سبق له أن تخلى عن حياة الزهد وتركها لأنها لم تتح له بلوغ مرتبة الانتباه واليقظة، ليختار بعدها "سبيل التوسط"؛ والذي يعني ألا نعاكس مجرى الأشياء وتيارها، بل أن يكون كامل حرسنا منصبًا على الاقتران به والتوافق معه.
إذا كانت العبرة الحقة هي المتمثلة في الاقتران بمجرى الأشياء ومسارها، فهل معنى ذلك وجود فكرة القدر في الهند؟
سبق لي أن طرحت هذا السؤال على نفسي لأمد طويل، ومثلما سبق لي القول، فإن الفكر الهندي هو فكر التحرر والانعتاق. فنحن على شاكلة من هم بداخل كهف أفلاطون، تُغلُّنَا القيود، والحال أن القدر [أو المصير le destin] هو دائمًا تقييد enchainement وعملية سَلْسَلة. ولنفكر هنا في أوديب الذي لم يفلح في الخروج منه، أو على الأقل لم يخرج منه إلا بعد أن فُقأت عيناه. عندئذ صار ما هو عليه بالفعل، أي أنه صار أعمى؛ ليعثر عندها على ضرب من الطمأنينة والسكينة الداخلية التي ربما تشبه النرفانا. عن أوديب في كولونيا، نقول أنه استقال وتخلَّى. غير أن الأمر يتعلق بشيء أقوى؛ هو ضرب من الفرح والسرور المتوهج والمضيء ونوع من السكينة والراحة النفسية لأنه تَصَالح مع القدر. وفكرة القدر تنغرس عميقا داخل الثقافة الإغريقية والثقافة المسيحية، كما أن القدر يتوافق مع كلمة «moïra»، التي تعني "الحصةpart " و"القِسْمة lot" و"النصيبportion " الذي يستحقه كل واحد في استقلال عن رغباته وإرادته. وما يسميه الإغريق بهربيس hurbis، الغلو والشراهة، وإرادة خرق وانتهاك القدر؛ بأن يريد المرء أكثر من حصته أو نصيبه، الأمر الذي تتم معاقبته من خلال انتقام الإلهة نيميزيس Némésis [إلهة حارسة على لأقدار الأشياء، وحامية للآلهة من رذائل البشر]، وانتقامها يُرغم كل من سوَّلت له نفسه التجاوز على الاعتراف بحدوده.
على هذا النحو يبدو القدر بمثابة قوة لا ترحم وقوانينه مكتوبة منذ الأزل. وهي الفكرة ذاتها التي نجدها في الديانات التوحيدية؛ لأن الإله الواحد الأحد قد تم تصويره بوصفه كلي العلم وكلي القدرة؛ فعلمه يحيط بكل ما سيقع، وما من شيء يمكن أن يحصل في العالم باستقلال عن إرادته.
وهو ما يطرح مشكلة حرية الاختيار...
منذ اللحظة التي نطرح فيها سؤال مسؤولية الإنسان عن أفعاله، تصير فكرة حرية الاختيار فكرة أساسية، غير أن المصالحة بين علم الله المسبق وبين الحرية، هي مشكل ثيولوجي عسير الحل، وهو ما يفسِّرُ إمكانية أن نجِدَ، لاسيما في الكالفينية، فكرةَ القدرية والتي تبعا لها، يكون الله قد اختار منذ الأزل، من سيكون لهم الحق في الحياة الأبدية ومن سيكون مصيرهم الهلاك.
وهل هذا المشكل يوجد في الهند؟
بخصوص بمفهوم كارما Karma، لا يسير في البوذية وفي الهندوسية على نفس المنوال؛ فإذا هذه العبارة تعني "الفعل acte" وهي منحدرة من الجدر السانسكريتي «kr» الذي يعني "فعل faire" وكارما karma هي مجموع الأفعال التي قام بها الفرد، وإذن فما يستدعيه هذا المفهوم إجمالاً هو فكرة المسؤولية، فإن الهندوس يعتبرون لأن ما يأتيه الفرد من أفعال في حياته الحالية هي التي ستحدد حياته في المستقبل. وبهذا المعنى يكون الفرد هو ذاته الذي يُحَدِّدُ قَدَرَهُ ويصنعُه، بحيث لا نكون حاصدين إلا لما سبق لنا أن بدرناه بأنفسنا. صحيح أن الحيوات السابقة للفرد هي التي تُحَدِّدُ حياته الحاضرة، لكن كيفيته في التصرف اليوم هي ما سيُحَدِّدُ الصورة التي ستكون عليها حياته غدًا. إن شئنا قول ذلك بتعبير مغاير، لقلنا أن بإمكان الفرد التأثير بهذا المعنى أو ذاك، وأن يُعَدِّلَ في هذا الاتجاه أو ذاك، نهْجَ وِجْهته. غير أن المشكل يبقى ذا تعقيد خاص في البوذية، التي ترفض فكرة الذات؛ بمعنى فكرة تبقى وتدوم مع مرور الزمن. وفي هذ الإطار لا يمكنني الحديث عن "الكارما" التي تخصني mon» karma»؛ لأن ما يولد من جديد ليس نفس الذات كما هو عليه الحال في الهندوسية، بل الأمر يرتبط بسيرورة لا شخصيَّة، ومجموع ما تم إتيانه من أفعال، محمودة كانت أو مذمومة، في الحيوات المتعاقبة، والتي ليست أفعالـ"نا" بالمعنى الدقيق، هو ما يشرط حياتنا الحاضرة، غير أن الأمر لا يتعلق بقدرية [أو بالاختيار المحدد منذ الأزل] destination prédéterminé، بل على العكس من ذلك، يرجع إلى كل واحد أمر تعديل وجهة أفعاله الخاصة في هذا المنحى أو ذاك؛ مما يعني غيابا للنزعة القدرية داخل البوذية، أما كارما KARMA، فتظل أقرب ما تكون إلى إرث، القبول به والعمل على جعله يربو ويثمر هو شأن يخص كل واحد.
الهوامش:
1 - فرنسواز داستور فيلسوفة ومترجمة وأستاذة جامعية شرفية، درست بالعديد من الجامعات منها جامعة السوربون من سنة 1969 إلى سنة 1995، اشتهرت بقدرتها الفائقة على إيضاح وشرح أعسر النصوص الفلسفية كما هو الحال بالنسبة لمارتن هايدغر، لها العديد من الكتب المنشورة، نذكر منها: "(هايدجر وسؤال الزمن) Heidegger et la question du temps, PUF, «Philosophies», no 26, Paris, 1990، La Mort. Essai sur la finitude, Hatier, Paris, 1994
(مواجهة الموت؛ محاولة في التناهي). وآخر كتبها يتمحور حول موضوع الحوار المترجم وقد جاء بعنوان:
Figures du néant et de la négation entre orient et occident, Encre Marine Paris, 2018
صور العدم والنفي بين الشرق والغرب).
2 - L'être, le néant et le temps ; Entretien avec Françoise Dastur, Philosophie magazine(Hors-série) : Sagesses du monde , propos recueillis Octave Larmagnac-Matheron, pp.42- 48 .
3 - الموكشا تعني الانعتاق أو التحرر أو الإطلاق، إنها تدل على الحرية والخلاص من سامسارا، وهي دورة الموت وإعادة الانبعاث
4 - إله الخلق في الهندوسية. ومُوجد الكون وروحُهُ العليا وجوهرُهُ. يُعرف بـ "الخالق". وهو المَعْبُود الأَعْلَى ...
5 - سامسارا: دورة الميلاد والموت والانبعاث، العالم.
6 - إشارة من داستور إلى زوجها الهندي الأصل.
7 - براهمان: أشار هذا المصطلح في الأصل إلى قوةٍ أو حقيقةٍ خلَّاقة متأصلة في الترانيم الفيدية، صار هذا، «أوبانيشاد» ثم في طقوس تقديم القرابين التي تُنشد فيها تلك الترانيم. وعند ظهور المصطلح يشير إلى المبدأ الكوني المجرد أو الحقيقة المطلقة. (المترجم).
8 - يمكن أن يوضع كمقابل لـ Lila (باللغة السنسكريتية:، लीला، IAST līlā) أو Leela على نحو فضفاض: «مسرحية إلهية». وهو مفهوم شائع في الفلسفة الهندية، وأهميته تختلف من مدرسة إلى أخرى من مدارسها، لكنه إجمالا يمثل طريقة لوصف الواقع في كلِّيته، بما في ذلك الكون، باعتباره نتيجة لإبداع المطلق الإلهي (براهمان) (المترجم).
المصدر:
PHILOSOPHIE MAGAZINE HORS-SERIE
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- حوار مع الفيلسوفة فرنسواز داستور.. الوجود، العدم، والزمن
- حوار مع طوماس بيكيتي وقوفًا على أصول عدم المساواة والتفاوت
- حين تصير الأخلاق من اختصاص العلم
- حوار مع الفيلسوف مشيل أنفراي.. الفلسفة الرواقية وصفة لتجويد الوجود الإنساني والارتقاء به
- حوار مع هيرفي شنَيْفِيس .. «عتاة المجرمين يعدِمُون إنسانية الآخر»
- حوار مع أكسل كان: «أُسمي شرًا كل ما يُلْحِقٌ ضررًا بمبادئ التبادلية»
- «حرب أوكرانيا: أحاول ألاَّ ينال يأسي من أملي»
- حوار مع إدغار موران
- خـطـاب نـوبـل آنـي إرنـو
اكتب تعليقك