«حرب أوكرانيا: أحاول ألاَّ ينال يأسي من أملي»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 13:27:53

يحيى بوافي

المغرب

إدغار موران

ترجمة: يحيى بوافي

بالنسبة للفيلسوف إدغار موران، كلما خلَّفت الحرب الأوكرانية المزيد من المآسي الإنسانية، كلما حجبت ما يتعين علينا مواجهته من مشكلات حيوية، كما هو الحال بالنسبة للربح المُطلَقِ العنان الذي يُحتِّمُ الأزمة البيئية ويُفاقم من حدَّة الأزمة المُعَمَّمة للـديموقراطيات.

 إن الحرب تفاقم من خطورة ديكتاتورية بوتين، ربما تستثير انقلابًا يطيح بحكمه، غير أنه احتمال يبدو عسِير التحقق  نظرًا  لرقابة البوليس السري اللصيقة، يستعيد بوتين لصالحه كلاًّ من قيصر وستالين دون أن يكونَ أيَّ واحد منهما، فهو يُمجَّد بحماسة تقديس روسيا القيصرية المُقدَّسة والعظيمة، ولو أنه لا يتمسك بعبادة شخصيته فإن ذلك لمْ يحُلْ دون استعراضه أحيانًا لرجولته؛ فصار تدريجيًا أكثر فأكثر سلطوية وردْعًا، هو يتَأَلَّم لانهيار الاتحاد السوفياتي مع يقينه بعجزه التام عن  بعثِهِ من جديد، وإن أَمْكنَهُ التصريح قائلاً: "من لا يتأسف على الاتحاد السوفياتي لا قلب له،  ومن له أمَلٌ في بعْثِه فاقد لعقله"، فإنه يتمسك على الأقل بإرادة تعْضيد نواة الاتحاد السوفياتي السلافية دون أن تُبارح قدَمُه القوقاز أو يحيد بصره عنه  ولو قيْد أنملة.

 وفضلاً عن ذلك نجد أن الواقع الأوكراني قد فرض نفسه، بينما بوتين لم يَرَ فيه إلاَّ تجمعًا من الروس الصِّغار (الاسم التقليدي الذي كان يطلق في روسيا على الأوكرانيين في الماضي) ومن الروس. فهو لم يدرك في أوكرانيا وحدة وطنية، ولا خَطرَ على باله أن يكون العدوان الروسي سببًا في إتمام هذه الوحدة وتَمْتِينِها.

لكن على الرغم من ذلك تبقى أوكرانيا منطوية على تعقيدٍ هائل، فحتى لو استبعدنا منها إقليم الدونباس،  ستظَلُّ فيها أقليَّة (من المستحيل تحدِيدُها بالأرقام) متحدثة الروسية تَنْقسِم بين العَدَاء لروسيا الديكتاتورية والمُدَمّرة وبين الانخراط  التَّام في الوطن الأم، وفي هذا السياق نَقلت فلورانس أوبيناس Florence Aubenas في جريدة "لوموند" خبر مظاهرة صغيرة بتاريخ 9 مايو/أيار في مدينة كييف مؤيِّدة لروسيا، إلى جانب ما يكتنف تقدير بانديرا Bandera   من غموض والتباس عبر نصب تماثيله بوصفه زعيمًا لاستقلال أوكرانيا، هو الذي هاجر إلى ألمانيا أولاً ثم صار متعاونًا مع النازيين ومتواطئًا معهم في جرائمهم طيلة احتلال أوكرانيا من طرف الفيرماخت (اسم القوات المسلحة الموحدة لألمانيا) la Wehrmacht، لتخلِّف بذلك النزعة البونديرية Le banderisme إرثًا نازيًا؛ وحتى لو صَحَّ أن هذا الإرث لا يعدو أن يكون أقلية، فإن ذلك لا ينفي أن الفاشيين الأوكرانيين هم من  تزعموا  الحرب ضد  الانفصاليين في إقليم الدونباس عبر تواجدهم في خطوطها الأولى، مرتكبين تجاوزات وخروقات؛ فجماعة أزوف كانت تحت القيادة الفاشية، ثم تَمَّ دمْجها أثناء الحرب في الحرس الأوكراني. صحيح أن أوكرانيا صارت ديموقراطية وتمدَّنت وصارت غَرْبيَّة في نزعتها الاستهلاكية نتيجة لما حققته من نمو اقتصادي، كما تضاءلت المعاداة الشعبية التقليدية لليهود في الريف الأوكراني، وتم انتخاب شخص يهودي رئيسًا لها. كل هذه التناقضات خمدت وهدأت حين اشتعلت الحرب.

هل هناك تسوية ممكنة؟

كي يكون هناك سلام استسلامٍ مثل سلام فرنسا في سنة 1871 وسنة 1940، لابد من وجود مُنهزم هزيمة تامة وإلاَّ فإن السلام لن يكون إلا قضية تسوية يتم وضعها تبعًا لتقلب موازين القوى ولدقة التحركات الدبلوماسية.

في الوقت الراهن نجد موازين القوى متكافئة تقريبًا مع الصعوبات التي تواجهها روسيا في احتلال كامل إقليم دونباس؛ وحتى لو كان هناك احتلال محتمل لهذا الإقليم وتَغيَّرت على إثره موازين القوى، فإن أوكرانيا لن تنهزم، كما يمكننا كذلك تصور هجوم أوكراني يقوم بإرجاع الجيوش الروسية إلى الحدود، لكن حتى في هذه الحالة ستظل روسيا قوة عسكرية كبيرة مهدِّدة لأوكرانيا.

وإذن فتسويَّة سلامٍ تبقى أمرًا ممكنا، على الرغم من التجريم المتبادل بين الطرفين ورغم ألوان الكراهية المغالية التي تميل إلى الحُؤول دون قيام تلك التسوية.

إن التسوية تفترض استقلال أوكرانيا باعتباره أمرًا ضروريًا ولا مناص منه لكن هذا الاستقلال لا يعني بالضرورة وحدة الأراضي، وهنا يفرض مشكل إقليم دونباس نفسه، بوصفه منطقة صناعية مجهَّزة وتقطنها ساكنة في معظمها من الروس زمن الاتحاد السوفياتي وهم على صلة وثيقة بروسيا لسانًا وارتباطًا وجدانيًا. صحيح أن عددًا من الناطقين باللغة الروسية قد صاروا حانقين على ديكتاتورية بوتين وكارهين لقسوة الغزو الروسي، غير أن قسمًا كبيرًا منهم انخرط في الحرب التي امتدت منذ 2014 ضد الجيش الأوكراني، لذلك نجد صعوبة في أن نتصور عودة هذه المنطقة بكل بساطة وبشكل خالص إلى أوكرانيا الحالية المناهضة بشدة لروسا، وإن تحقق ذلك، فإن الموالين لروسيا سيعانون من قسوة القمع ولن يتوقفوا عندها عن التمرد، كما يصعب أن نتصور اندماجها في أوكرانيا فيدرالية، لكل ذلك سيكون إجراء استفتاء أمرًا مستحبًا ومستحسنًا لأجل التقرير في مصير إقليم الدونباس، إما بأن يكون جمهورية "مستقلة"، أو يندمج في روسيا- وهو ما لا يمكنه أن يتم، بالمقابل، في غياب ضمان استقلال أوكرانيا عبر اتفاق دولي يكون حلف شمال الأطلسي حاضرًا فيه، مع حياديَّة أوكرانيا على غرار النمسا أو انضمامها إلى الاتحاد الأوربي. وإلى ذلك أضيف أنَّ النَّظر في انضمام روسيا إلى الاتحاد الأوربي مستقبلاً سيكون أمر في غاية الأهمية باعتباره نتيجة إيجابية تسفر عنها العلاقة بين روسيا والغرب.

وبالنظر إلى ما يتمتع به إقليم دونباس من أهمية اقتصادية واستراتجية لأوكرانيا، سيكون من اللازم  في جميع الحالات، توقُّع سيادة مشتركة روسية وأوكرانية مع العمل على التخطيط لها؛ سيادة تعمل على تقاسم ثروات الإقليم. ومن اللاَّزم أيضًا معالجة ساحل بحر أزوف، كما يمكن تعويض المراقبة الروسية بإنشاء ماريوبول وأوديسا كميناءين حُرَّيْنِ مثلما كان عليه الحال بالنسبة لميناء مدينة طنجة. وسيكون مستحسنًا ومستحبًا من جهة أخرى، بمجرَّد توفير الهدنة، إتاحة إمكانية تصدير القمح الأوكراني والروسي للبلدان التي حُرِمت منه، كما أن تكاليف الإصلاحات وإعادة الأعمار لا ينبغي أن تتحملها روسيا لوحدها، بل يلزَمُ أن تتحملها إلى جانبها الدول الغربية التي ساهمت في الحرب لأنها شاركت بضفة موضوعية في عمليات التدمير.

 إن المعاداة الهيسترية  لروسيا ليس في  أوكرانيا وحسب، بل في الغرب  كما في فرنسا من اللازم أن تخمد نيرانها وأن تتم مواجهتها مثل نظيرتها التي قامت ضد ألمانيا وكانت في قيامها تخلط بين ألمانيا والنازية؛ فمن العار منع الفنانين والراقصين والمخرجين والرياضيين الروس، ولحسن الحظ أن صانعي الأفلام الرُّوس لم يتم إقصاؤهم من المشاركة في مهرجان مدينة كان السينمائي رغم الطلب الذي تقدم به السينمائيون الأوكرانيون.

لا بد من التحلي بالأمل في دٌنُوِّ السَّلام في القريب العاجل الممكن، لأن الحرب لا تنتج إلاّ مآسي إنسانية في أوكرانيا يتعذرُ علاجُها، كما تفاقم أيضًا من قسوة شروط العيش في العالم برمته جاعلةً خطر المجاعة يخيم بظلاله على العديد من البلدان.

إن الحرب تخفي المشكلات الحيوية التي يقع على عاتقنا واجب مواجهتها؛ أعني التدهور البيئي للكوكب والاحتباس الحراري، والربح المُنطلِق من عقاله دون رقيب والذي لا يعمل إلا على  جعل الأزمة البيئية أمرًا محتومًا ومن مفاقمة الأزمة المعمَّمة للديموقراطيات واقعًا حاصلاً في العالم؛ تلك الأزمة التي زادتها جائحة كوفيد19 حدَّةً، وهي الجائحة التي لم يتم القضاء عليها، ويبقى إمكان خطر عودتها من جديد قائمًا.

أحاول أن أجاهد باستماته لأخلّي بيْنِي وبين اليأس  ليس لأجل شخصي فأنا في المرافئ النهائية للعمر،  بل لأجل الأجيال الشابة ولأجل حفدتنا.


عدد القراء: 3526

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-