خـطـاب نـوبـل آنـي إرنـوالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 10:00:49

يحيى بوافي

المغرب

ترجمة: يحيى بوافي

من أين أبدأ؟ هذا السّؤال طرحْتُه على نفسي عشراتِ المرَّات قُبالَة الصّفحة البيضاء. كما لو كان واجبًا عليّ العثورُ على جملة، تلك الجملةُ الوحيدةُ التي ستُشْرِعُ لي باب الولوج إلى كتابة كتاب، وستَرْفعُ، بالتالي، من أمامي كل الشُّكوك دفعةً واحدة، إذ هي أشبه ما تكون بمفتاح. واليوم من أجل مُجابهة الموقف وتبديدِ ذهول الحدث – "هل حقا هذا الذي يحدث، يحدث لي أنا؟" -  تقدّمُني وتعرِضُني مُخيلتي بذُعر تزداد شِدّتُه، فالضرورةُ هي عينُها تَغمُرني؛ ضرورة ُالعثُور على الجملة التي ستمْنَحُني الحرية وتَهَبُني الحَزْمَ في الكلام دون أن يَغْشَانِي الارتعاشُ في هذا المكان الذي دعوتموني إليه هذا المساء أو يجتاحَني الارتعادُ.

 هذه الجملة لسْتُ بحاجة للبحثِ عنها في البعيد، لأنها تَنْبَثِقُ في كامل صفائها، وبِأتمِّ عُنفها، بليغةً وحاسمةً. جمُلةٌ كُتِبَتْ منذ ستّينَ عاماً في مذكراتي: "سأكتب انتقامًا من سُلالتي"، مُرَدّدةً صرخةَ رامبو "أنا من سلالة دنيئة منذ الأزل". كان عمري اثنتا وعشرين سنة، وكنتُ طالبةً للآداب في كلّيةٍ بأحد أقاليم فرنسا، بيْنَ فَتياتٍ وصبيان قادمين في الأغلب من الوسط البورجوازي المحلّي. كنتُ أعتقد، بعجرفة وسذاجة، أنني إذا ألّفتُ كُتبًا، وصرتُ كاتبةً ــ كاتبة من نسَب فلّاحين بلا أرض، وعمّال وأصحاب تجاراتٍ متواضعة، وناسُ يُحتَقَرُون بسبب أسلوب عيشهم، ولهجتهم، وقلّة ثقافتهم ــ فإن ذلك سيكون كافيًا لتعويضِ ما يُولَدُ معنا من ظلم اجتماعي، وأن انتصارًا فرديًا سيمحو قرونَ الهيمنة والفقر، داخل وهمٍ تعهَّدَتْهُ المدرسة في نفسي بالرّعاية مع نجاحي الدراسي. بماذا يمكن لإنجازي الشّخصي مهما كان مبَلغُه أن يُعَوّضَ ما تمَّ تحمُّلًه من إهاناتٍ واعتداءات؟ لم أطرح على نفسي هذا السؤال، فقد التمَسْتُ لها بعض الأعذار.

 منذ أن عرفتُ القراءة صارت الكتبُ هي رفقتي، والقراءةُ انشغاليَ الطبيعي خارج المدرسة. أمّي كان لها الفضْلُ في صَقْل هذا التَّوجُّه عندي، وهي القارئة النّهِمة لروايات كانت تقرأها في الفترة التي تفصل بين مغادرة زبون لمَحلّها ومجيء آخر، كانت تُفضّل أن تراني أقرأ بدلَ أنْ أرقّع الثياب وأحوكها، وغلاء الكتب وكونُها موضوع شك وريبةٍ في المدرسة الدينية التي تابعت بها دراستي، جعل رغبتي في قراءتها تَسْتَعرُ وتتَّقِد أكثر.

قرأت روايات: دون كيخوطي (Don Quichotte)، رحلات جاليفر (voyages de Gulliver)، جين آير(Jane Eyre)، حكايات جريم وأندرسن (contes de Grimm et d’Andersen)، ديفيد كوبرفيلد (David Copperfield)، ذهب مع الريح(Autant en emporte le vent)، وفي وقت لاحق  قرأتُ رواية البؤساء (Les Misérables)، عناقيد الغضب (Les raisins de la colère)، الغثيان La Nausée، والغريب( L’étrange)، والحظُّ هو ما كان يحدّد قراءاتي أكثر من إملاءاتِ المدرسة وأوامرها.

إن اختياري مُتابعةَ الدراسةِ في الآداب كان اختيارًا لأجل المكوث في الأدب، الذي صار بالنسبة لي قيمةً أسمى من كل القيم الأخرى، ونمطَ عيشٍ وحياةٍ بلغَ حدًا جعلني أُسقِطُ نفسي على شخوص رواية لفلوبير أو فرجينيا وولف، وشكلاً لقارة وضعتُها عن غيرِ وعي مني في تعارضٍ مع وسطي الاجتماعي. والكتابَةُ ما تصوّرْتُها إلا إمكانيةً لتحويل الواقع وتغييره.

إن رفض ناشريْن أو ثلاثة، نَشْرَ روايتي الأولى؛ رواية جدارتها الوحيدة واستحقاقها الأوحد أنها كانت تبحثُ عن صورة وشكل جديد، غير أن ذلك الرّفض ليس هو ما قمع رغبتي وأصاب كبريائي في مقتل، بل مواقفُ الحياة حيث يُلقي عليك كونُك امرأةً الاختلافَ في كامل ثقله بأنّك لست رجلا في مجتمع تحدّدت فيه الأدوار تبعًا للجنس، وفيه يُعتَبَرُ منعُ الحمل وإيقافُه جريمةً.

إن العيش في ظل حياة زوجية أثمرت طفليْن، وممارسةَ مهنة التدريس وتحمّل مسؤولية الرعاية الأسرية، كل ذلك فاقم من بُعدي عن الكتابة وعن الوعد الذي قطعتُهُ على نفسي بالانتقام من سلالتي.  ما كان بإمكاني قراءة " أُمْثولةِ القانون la prabole de loi"، في رواية المحاكمة لفرانز كافكا دون أن أرى فيها تصويرًا لمصيري: الموتُ دون عبور الباب الذي انتصب أمامي وحدي، أي ذاك الكتاب الذي أنا وحدي قادرة على كتابتِهِ.

 لكن الأمر حصل دون الاعتماد على الحظ الخاص والتاريخي، حيث توفي أبي ثلاثة أيام  بعد أن وصَلْتُ عندَه خلال ْفترة عطلة، واشتَغلْتُ أستاذة بفصول دراسية  ينحدر تلامذتها  من الأوساط الشعبية  التي تشبه تلك التي أتيتُ منها،  وعايشتُ حركات الاحتجاج العالمية، فلكمْ هي مُثيرةٌ تلك العناصر التي أعادتني عبر سُبُلٍ غير متوقعة وحسّاسة إلى عالم أصولي، وإلى  "سُلالتي وعرقي" ، مانحةً لرغبتي في الكتابة طابَعَ الاستعجال الخفيّ والمطلقِ، لكن هذه المرّة لم يَكُن الأمرُ، إسلامًا منّي للنّفس لتيار فكرة وهمية تعود إلى العشرينيات من عمري هي "الكتابة عن لا شيء"، بل أن أغُوص في لا مَقُول l’indicible الذاكرة المكبوتة وما يتعذّرُ قولُهُ فيها، وإضاءة ُلكيفية وجود  من ينتمون إلى وسطي ومن هم مِنّي، إنها الكتابة لأجل فهم الأسباب التي تقِفُ وراء الابتعاد عن أصولي ، سواء الكامِنَةُ منها في الذات أو القابعةُ خارجها.

لا وجودَ لاختيارِ كتابة يكونُ بيّنًا بذاته. لكن هؤلاء المهاجرون لا يتحدثون أبدًا لغة آبائهم، وأولئك الذين انشقوا عن الطبقة الاجتماعية، لم يعودوا هم أنفسهم تمامًا، إنهم يفكّرون ويُعبِّرُون بألفاظ أخرى، ما يجعلهم جميعا أمام صِعاب إضافية.

 إنه مأزقٌ، فهم يشعرون في الواقع بصعوبةِ، إن لم نقل استحالةِ الكتابة داخل اللغة التي اكتسبوها والتي هي اللغة المُهيمنة، تلك التي أتقنوها وأُعْجِبوا بكل ما يجْذِبُهم إلى عالمهم الأصلي في أعمالها الأدبية، هذا العالم الأول الذي تُشكّلُهُ الأحاسيس والكلمات التي تقول الحياة اليوميةَ والعمل والموقع الذي تم شَغْلُه في المجتمع، فمن جهة هناك اللغة التي تعلّموا داخلها تسْمِيَّة الأشياء، بما لها من قسوة وأشكال صمتٍ، على سبيل المثال، لغة وجه لوجه بين أم وابنها، في النص الجميل جدا لألبير كامو: "بين نعم ولا".  ومن جهة أخرى هناك نماذجُ الأعمال المثيرة للإعجاب، التي تم استبطانُها، تلك النماذج التي فتحتْ العالم الأول وهم شاعرون بارتقائهم دَيْنًا لها عليهم، بل يصلون أحيانا حدّ اعتبارها وَطنَهُم الحقيقي. وسط تلك النماذج الخاصة بي تلوح وجوهُ فلوبير وبرُوست وفيرجينيا وولف؛ وفي الفترة التي استأنفتُ فيها الكتابة لم يقدّموا لي أي عوْن، إذ كان يتعيّنُ على القطع مع "الكتابة الجيّدة"، ومع الجملة الجميلة، تلك التي كنت أعلِّمُها لتلامذتي، حتّى أستَأْصِل وأجثَتَّ التمزُّق الذي كان يَخْترقُني وأعمل على إظهاره وفهمه.

 وبمُنتهى العفوية كان صخبُ لغةٍ تهدِرُ غضبًا وسخريةً، بل وحتى وقاحةً، هو ما خَطرَ لي وأسعفني، لغةُ الإفراطِ والتّمرد، تلك التي غالبًا ما يستعملها المُهانُون ومن جرى إذلالهم والاعتداء عليهم، بحسبانها الكيفية الوحيدة لرَدِّهم على ذاكرة من ألوانِ الازدراء وصنوفِ الخزي والخجل والعار.

 وبكيفية سريعة أيضًا، ظهر لي بديهيا -إلى حد لا أقوى معه على تبيُّن نقطة البداية- غرْسُ سرِّ تمزُّقي الاجتماعي داخل وضعية كانت هي وضعيتي الخاصّة حين كنتُ طالبة، وضعية المتمرّدة التي تُدينُ الدولة الفرنسية جرّاءها النساءَ دوْمًا. وأردْتُ أن أصِفَ كلّ ما حصل لجسمي بوصفي فتاةً، من اكتشاف للمتعة وللقواعد، على هذا النحو تحدّدت في هذا الكتاب الأول الذي صدر سنة 1974، ودون وعي مني، المساحةُ التي سأضَعُ فيها عملي الخاص بالكتابة، مساحة اجتماعية ونسائيةُ في آن واحد، ومنذ تلك اللحظة ما عادَ يمكنُني الفصلُ بين الانتقام من سلالتي والانتقام من جنسي فكلاهما صار واحدًا.

 كيف نتساءل حول الحياة دون أن نتساءل عن الكتابة أيضًا؟ ودون التَّساؤُل عمَّا إذا كانت هذه الأخيرةُ تَصْدمُ المَقبولَ والمُستَبْطَنَ من التَّمثلات حول الكائنات والأشياء؟  ألا تعكِسُ الكتابة المُتمَرّدة بعنفها وتهكُّمِها موقف المُهيْمَنِ عليه؟ والقارئ حين يكون من المحظوظين ثقافيًا، يُحافظ ُعلى نفس موقف التَّعالي والعطف في علاقته بالشخصية في الكتاب كما في الحياة الواقعية. إن الكتابة كانت في الأصل إذاً لأجل إحباط هذه النظرة التي أُلْقيَّت على والدي الذي أردتُ أن أسرُدَ حياته، وهي نظرة لا تطاق، كما أشعر بالكتابة باعتبارها خيّانَةً اعتمدتها وتبنَّيتُها ابتداء من كتابي الرابع، تلك الكتابةُ المحايدة، والموضوعية "المسطّحة"، وبالتالي فهي، بهذا المعنى، لا تحتوي استعارات ولا إشاراتٍ عاطفيةً.  والعنف ليس في حاجة لأن يتمَّ إظهارُهُ، فهو صادرٌ عن الوقائع ذاتها وليس نابعا من الكتابة.  وإلى حدود اليوم صار انشغالي وانهمامي الثابت عبر الكتابة مهما كان الموضوع، هو العثورُ على الكلمات التي تحْوِي الواقعَ وما يثيرُه من إحساسٍ في الوقت نفسه.

مواصلتي للكتابة بصيغة ضمير المتكلم "أنا" كان أمرًا ضروريًا؛ لأنه الضمير الذي به نوجد في معظم لغات العالم، من بداية كلامنا إلى لحْظَةِ موتنا، وغالبًا ما تمَّ اعتبارُه نرجسيًا في استعماله الأدبي، فمنذ اللّحظة التي يحيل فيها إلى المؤلّف، يكُفَّ عن الارتباط بـ"أنا" تكون من صنع الخيال. وهنا يحسُنُ بنا التذكير بأنّ ضمير المتكلم "أنا" كان إلى وقتنا هذا، امتيازا للنبلاء عند روايتهم لمآثر الأسلحة في المذكرات، كما أنّهُ يمَثّلُ في فرنسا الغزْوَ الديموقراطي للقرن الثامن عشر، وتأكيدًا للمساواة بين الأفراد ولحقّ الإنسان في أن يكون فاعلاً لتاريخه، كما يدعو إلى ذلك جان جاك روسو في الديباجة الأولى لاعترافاته: "ولا يُعترض علينا بأننا لسنا إلاّ رجلاً من الشعب، لن يقول شيئا يستحق شدّ انتباه القراء [....] وسط بعض الغموض الذي أمكنني عيشُه، إذا كنت قد فكّرت أكثر وأفضل من الملوك، فإن قصّة نفسي أهمُّ من تلك الخاصة بنفوسهم".

 ليس هذا الكبرياء العامي هو ما حفّزَني (ولو أن....) ولكن رغبتي في استخدام "أنا"، باعتباره شكلاً مذكرًا ومؤنّثًا في آن- بوصفه أداة استكشاف تستَشعرُ الاحساسات وتقبض عليها، تلك الإحساسات التي دفَنَتْها الذاكرة، والتي لم يتوقَّف العالمُ من حولنا عن وهْبِهَا لنا في كل مكان وزمان.  وقد صار شرطُ الإحساس هذا، بالنسبة لي، مُرشدًا إلى أصالةِ بحثي وضمانةً له في الوقت نفسه، لكن لأي غايات؟ ليس يتعلق الأمر بالنسبة لي بحكي قصة حياتي ولا هو ارتبط بتخلًّصي من أسرارها، بل هو على صلة بفك شيفرة موقف معيشٍ، حدثٍ، وعلاقة حب، والكشف بذلك عن شيء، ربما الكتابة وحدها هي الأقدر على جعله يوجد وعلى نقلِه وتمرِيره إلى وعي الآخرين وإيصاله إلى ذاكرتهم. ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأن الحبّ والألم والحداد والعار ليست برمّتِها كونيّة؟  سبق لفيكتور هيغو أن قال: "لا أحد منا له شرف امتلاكِ حياة تكون له وحده"، لكن كل الأشياء التي تم عيشُها حتمًا على النمط الفردي– "إن ما يحدثُ يحدثُ لي أنا"- لا يمكنها أن تُقْرأ بالكيفية نفسها، إلا إذا صارت "أنا" الكِتَاب، بكيفية من الكيفيات، شفافة، لتأتي أنا القارئ والقارئة لِشَغْلها، بحيث تصيرُ هذه الـ"أنا" بمجموعها عابرة للأشخاص، فيبلغُ الفردي الكوني ويُدركُه.

 على هذا النحو كان تصوري لانخراطي في الكتابة، فهو لا يتمثل في الكتابة " لأجل فئة بعينها من القراء، ولكن الكتابة "انطلاقًا" من تجربتي كامرأة ومهاجرة من الداخل، انطلاقًا من ذاكرتي التي صارت أكثر امتدادًا بما عَبرَتْهُ من سنوات، وهي انطلاقًا من الحاضر مُموّن لا ينقطِع عن تقديم صور الآخرين ولا يكُفّ عن عرض كلامهم. وهذا الالتزام، بوصفه رهْنًا لنفسي داخل الكتابة، كان مدعومًا باعتقاد صار يقينًا مؤدّاه أن الكاتب يمكنُه الإسهامُ في تغيير الحياة الشخصية، وتحطيم عزلة الأشياء التي عانى منها ودفنها، وأن يفكّرَ في ذاته على نحو مختلف، لأن ما يتعذّرُ قولُه حين يكشفُه ضوء النَّهار ويصيرُ ظاهرًا، يكون هو السياسة عينُها.

ذاك ما نراه اليوم مع تمرُّد النساء حين وجدوا الكلمات لقلب السّلطة الذّكورية ونهضوا كما في إيران ضد شكلها الأكثر عنفًا وقِدمًا، [نعم] أكتُبُ في بلد ديموقراطي ومع ذلك لازلتُ أتساءل عن المكانة التي تشغلها النساء، بما في ذلك مكانتهُنّ في الحق الأدبي، فمشروعية انتاجهنّ للمؤلفات والأعمال لا زال لم يتم اكتسابها بعد؛ ففي فرنسا، كما في كل مكان بالعالم، يوجد مثقّفون ذكور لا وجود، بالنسبة لهم، لكتب تكتبُها النساءُ، بحيث لا يستشهدون بها أبدًا؛ لذلك فإن الاعتراف بعملي من قبل الأكاديمية السويدية يشكل  إشارة عدالة ورجاء لكل الكاتبات.

داخل إظهار وكشف ما يتعذّرُ قولُهُ اجتماعيًا، أي هذا الاستبطان لعلاقات الهيمنة، سواء أكانت هيمنة طبقة أو عرق أو جنس أيضًا، والتي لا يتم الإحساس بها إلا من طرف من يكونون موضوعا لها، توجد إمكانية لتحرّرٍ فردي ولتحرر جماعي أيضًا.

 إن فك شيفرة العالم الواقعي عبر تعريَّته من الرؤى والقيم التي تحملُها اللغة، كل لغة، معناه إزعاج النظام القائم من خلال خَلْخَلة وقلبِ التراتبيات.

 لكنني لا أخلط هذا الفعل السياسي للكتابة الأدبية الخاضعة لتلقي القارئ أو القارئة، مع عمليات اتخاذ موقف التي أشعر أنني مضطرة لها بالعلاقة مع الأحداث والصراعات والأفكار. فأنا ترعرعتُ وسطَ جيل ما بعد الحرب العالمية، حيثُ اتخاذُ الكتّاب والمثقَّفين لمواقف من سياسة فرنسا وانخراطهم في النضالات الاجتماعية أمر بديهي.  وما من أحدٍ في مقدروه اليوم الجزْمُ ما إذا كان قد اختلف مسار الأمور في غياب كلِمَتهم والتزامهم في العالم الحالي، حيث صار تركيزُ المرء على فنّه أكثر إغراءً، في ظل التعددية في مصادر المعلومة، والسرعة في استبدال  الصور بصور أخرى والتعوّد على ضربٍ من اللاّمبالاة، لكن يوجدُ، في نفس الوقت، بأوروبا صعودٌ لإيديولوجيا الانطواء والانغلاق، التي تنتشر مُكتَسِبَةً باستمرار مساحةً جديدة في بلدان هي لحدود الآن بلدانٌ ديموقراطية، لكنَّ صعودها غطّى عليه عنف حرب إمبريالية يقودها ديكتاتور يحكم روسيا، إيديولوجيا تتأسس على إقصاء واستبعاد الأجانب والمهاجرين، وهي تفرضُ علي واجبَ التَّحلي باليقظة والحذر كما تفرضه على جميع أولئك الذين يرون أن قيمة الكائن الإنساني تظل هي ذاتُها  دائمًا وفي كل مكان.

 أما فيما يرتبط بما يحظى به من وزنٍ انقادُ الكوكب الذي دمّرهُ إلى حد كبيرَ نهم وجشعُ القوى الاقتصادية، فلا يمكنه، كما يتمُّ التخوُّف، أن ينُوء بحملهِ من هُم محرومُون بالفعل، والصمت في بعض فترات التاريخ يبقى غير مناسب.

 بمنحي أعلى تمييز أدبي ممكن على الإطلاق، يكون الاشتغال الكتابة والبحث الشخصي الممارس في العزلة والشك قد سُلّطَ عليهما نورٌ ساطعٌ، لكنه نورٌ لا يبهرني، فأنا لا أنظر إلى منحي جائزة نوبل بوصفه انتصارًا فرديًا، كما أنه ليس من الكبرياء ولا هو من باب التواضع الاعتقادُ بأنه يمثّل، بشكل من الأشكال، انتصارًا أو نصرًا جماعيًا؛  نصرٌ اتقاسم  فيه الاعتزازَ مع أولئك الذين يأملون، بهذه الكيفية أو تلك، في المزيد من الحرية والمساواة والكرامة لجميع الكائنات الإنسانية؛ أولئك الذين يفكرون واللاّتي تُفكِّرن في الأجيال المستقبلية وفي المحافظة على أرض لا تنفكُّ شراهةُ عددٍ قليل إلى الربح، تجعلها بالتدريج أقل قابليةً للعيش ولاحتضانِ الحياةِ بالنسبة لمجموع من يُعمِّرونها.

وإذا كنتُ قد عدتُ إلى الوعد على قطعتُه على نفسي وأنا فتاةُ في العشرينيات من عمرها بالانتقام من سلالتي، فليس يمكنني قولُ ما إذا كنت قد حققته ووفَّيت به؛ فمن هذه السُّلالة ومن صلابة أجدادي رجالاً ونساءً، ممّن تسبّبت مهامهم الشاّقة في وفاتهم المبكرة، كان نهْلي لما يكفي من قوةٍ وغضب كي تكون لي الرغبةُ والطموح لأن أمنحها مكانًا في الأدب؛ داخل هذه المجموع من الأصوات المتعدّدة، الذي رافقني في وقت مبكر من حياتي، عبر منحه لي ولُوجًا إلى عوالم أخرى وأفكار أخرى، بما في ذلك  تمرُّدي عليه  ومحاولةُ تغييره، من أجل إسماع صوتي كامرأة ومنشقة أو هاربة اجتماعيا داخل ما يقدّمُ نفسهُ دائمًا باعتباره فضاءً للتحرر والأدب. 

 

الهوامش:

- Arthur Rimbaud, Une saison en Enfer. Édition critique. Introduction et notes par H. de Bouillane de Lacoste.

Paris : Mercure de France, 1941

- Jean-Jacques Rousseau, Œuvres complètes I. Les confessions ; Autres textes autobiographiques. Édition

publiée sous la direction de Bernard Gagnebin et Marcel Raymond. Paris : Gallimard, 1959

- Victor Hugo, Œuvres complètes. Poésie V, Les Contemplations (Préface des Contemplations). Paris : HetzelQuantin, 1882


عدد القراء: 3015

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-