حوار مع أكسل كان: «أُسمي شرًا كل ما يُلْحِقٌ ضررًا بمبادئ التبادلية»الباب: مقالات الكتاب
يحيى بوافي المغرب |
أجرى الحوار: فرنسوا غوفان
ترجمة: يحيى بوافي
• في كتبكم تستحضرون مشكل الجينوم. هل الخير والشر نابع من حمضنا النووي المنزوع الأكسجين ADN؟
- أكيد أن استعدادنا للأخلاق منغرس داخل ظاهرة تطورية أدت إلى الجينوم البشري. دون أن يعني ذلك وجود شفرة وراثية للأخلاق، لكن ما يسمح لنا بتطوير استعدادنا للتفكير في الأخلاق يتوقف على خصائص الفكر أكثر من توقفه على جيناتنا أو مُورِّثَاتُنَا. وتتمثل فرضيتي في كون الأخلاق تبقى على ارتباط بشرطين يُتِيحان ظهور الكائن الإنساني؛ امتلاك جينوم بشري أولاً، ثُم تَفتُّقُ الإمكانات المشَفَّرة من طرف هذا الأخير وازدهارها داخل التبادل الذي يضفي الطابع الإنساني داخل مجتمع بشري بعينه.
• في كتابك "Etre humain ,pleinement"(أن تكون إنسانًا بِأتَمِّ معنى)"، تتخيلون توأمًا في عمر أقل من سنة عاش انفصالا كارثيًا. أحدهما تُرك لشأنه، ليصير طفلاً متوحشًا، بينما أحرز الآخر جائزة نوبل في الطب؛ لنكون أما نفس الجينوم دون أن نكون أمام نفس الحس الأخلاقي؟
- إن الجينوم الخاص بهما قد وهبهما معًا استعدادات ذهنية استثنائية. لكن الطفل المتوحش الذي حُرم من العلاقات وأشكال التواصل الإنسانية عانى تأخرًا ذهنيًا حادًا، مما جعل استعداده للأخلاق محدودًا؛ فما يسري على الكائنات الإنسانية هو تمامًا على شاكلة ما يجري على مُكونات الحَطب في الموقد؛ احتراقها يستلزم ويقتضي اتصال بعضها بالبعض؛ وهذه التبادلية هي التي تتيح العثور على الأسس الكلاسيكية للأخلاق المتمثلة في الاستقلالية والرحمة والعدالة وتفادي الحقد والكراهية، وبالتالي فأنا أسمي "خيرًا" كل ما يأخذ هذه التبادلية في الاعتبار على مستوى انبثاق الإنساني، أما "الشر" فهو ما يلحق الضرر بها. تلك هي أسس الأخلاق دون تعالٍ التي تتمحور حولها أعمالي.
• لكن هل يمكن للاختلافات المُسَجَّلة على مستوى الحمض النووي المنزوع الأكسجين ADN التأثير في السلوكيات الأخلاقية؟
- نعم، نَعْرف مُحَدِّدَيْنِ خاصَّيْن للسلوك العدواني عند الراشد، أحدهما محدد بيولوجي، بينما الآخر من طبيعة ثقافية؛ أما المحدد البيولوجي فهو المتمثل في صورة مُورِّثة تقوم بتشفير أنزيم، هي أكسيداز أحادي الأمين la monoamine oxydase أو ما يُعرف اختصارا بـ MAO. فإذا كان هذا الأنزيم قليل النشاط، فإن أحاديات الأمين des monoamines العصبية، خصوصًا منها السيروتونين ترتفع نسبتها، مُهَيِّئة بشكل مسبق المجال لنشاط زائد يمكن أن يعبر عن نفسه من خلال العنف، أما المُحدِّدُ الآخر فهو المتمثل في أن يتلقى الفرد معاملة سيِّئة أثناء الطفولة، مما يرفع من خطر صيرورَتِه راشدًا يُسيءُ معاملة الآخر. لنتصور توأمين انفصلا منذ الولادة وكان لهما شكل قليل النشاط لأنزيم أكسيداز أحادي الأمين من النوع "أ" MAO-A، وبالتالي أحاديات الأمينDes monoamines العصبية مرتفعة. فمن عاش منهما في كنف أسرة بذلت له الحب ستكون المخاطر أقل كي يصير راشدا يسيء معاملة الآخر. لكن شقيقه أو شقيقته التوأم – خصوصًا الذكر منهما لأن له ميل ذكوري زائد بنسبة قليلة إلى العنف وهو ميل مرتبط بهرمون التيستوستيرون- إن هو عاش في أسرة تسيء معاملته، سيكون له، في المقابل، احتمال تبلغ درجته أربع إلى ثماني مرات أكثر كي يصير راشدًا يسيء معاملة الآخر. هكذا فمع توفر أكسيداز أحادي الأمين من النوع "أ" MAO-A كثير النشاط، لن يكون لمثل هذا الاستعداد من وجود.
• تبحثون عن إقامة أخلاق كونية، لكن الثقافات ليست لها نفس المدونات والقوانين الأخلاقية....
- أمتلك تقريبًا تأكيدًا وإثباتًا لفرضيتي الكونية. لنأخذ على سبيل المثال ملحمة جلجامش ، باعتبارها الملحمة الأكثر قدما التي لنا معرفة بها، والتي تجري أحداثها في بلاد الرافدين، داخل ثقافة ظهرت منذ الالاف السنوات قبل ثقافتنا؛ فقواعد هذه الملحمة وأسسها الثقافية تبقى معقولة بشكل عميق. لأنها أدانت الاستبداد وحق الإقطاعي في ممارسة الجنس مع زوجة قنه خلال اليوم الأول من زفافه، بينما ثمَّنت الوفاء في الصداقة ورعاية الأرامل واليتامى، وهذه الأسس والقواعد الأخلاقية ستكون غير معقولة بالنسبة لنا إذا كان الخير والشر نسبيين بشكل مطلق.
• لكن هل من وجود لمعايير أخلاقية لأجل تقويم صور التقدم – البيوتقنية؟
- بكل تأكيد وهي تندمج مع تعريفي للخير والشر؛ إذا كان ابتكار من الابتكارات التقنية يتيح الازدهار الكامل للآخرين، فسواءً أكان طبيعيًا أو لم يكن، فإنه يظل خيرًا بنظري، وإلا فسيكون سيئًا، لتأخذوا على سبيل المثال الحمل من أجل الغير المعروف اختصارًا بـ GPA، سأعتبر حملاً لأجل الغير أخلاقيًا إن هو كان ذا طابع تضامني بالفعل، كأن تقبل صديقة عزيزة بالحمل بطفل لأجل صديقة أخرى فمثل هذا الأمر يُجَسِّد فعلَ سخاءٍ وكرمٍ ليس في إمكاني اختباره. لكن في حدود نسبة 95%إلى 98%من الأمهات الحوامل لأجنة الغير يلتزمون عن طريق عقد تجاري بوضع الطفل دون أن ترتبطن به؛ مما يعني أن إدراج وظيفة حمل المرأة لجنين الغير داخل نطاق التجارة لا يمثل في شيء تقدمًا؛ إذ من غير المناسب تعديل القاعدة القانونية التي ورثناها عن الرومان والتي تنص على أن أم الطفل هي المرأة التي تنجبه أو تضعه. وفي الحالة التي يكون فيها حمل جنين الغير نابعًا من الإيثار والشعور بالغيرية، عندها سيكون بإمكان الصديقة الحاملة للطفل التخلي عنه بإجازاتها التَّبَني الكامل عن طريق مربِّي بيولوجي، لكن إذا ما أرادت الأمُّ الحامل أن تحتفظ بهذا المولود فلها الحق في ذلك بشكل لا يقبل النقاش.
• هناك البعض يحلمون بأن يعيدوا انتاج أنفسهم عن طريق الاستنساخ....
- هنا إذن يطرح مشكل حدود سلطة الآباء على ذريتهم؛ لقد صار بإمكان الناس بشكل متزايد أن يكون لهم طفل إن هم أردوا ذلك، ومتى ما شاءوا. ليقوموا برعايته وفق الكيفية التي يفهمون بها الرعاية. وبالتالي ما من حاجة لأن نضيف لصالحهم سلطة جديدة، تتيح أن يكون لهم طفل بالمقاسات التي يحلمون بها. إن الطفل شخص؛ بمعنى أنه ثالث، وبالتالي لا وجود لشيء من الناحية الأخلاقية في إمكانه تبرير امتلاك سلطة على حميميته البيولوجية، لأن ذلك سيكون مُناقِضًا لمبادئ التبادلية.
• هناك مرضى يتلقون رقاقات يتم زرعها عصبيًا implants cérébraux لعلاج اضطرابات عصبية. فهل الإنسان "المُقَوَّى" هو أمر جيد؟
- تخيلوا جنديًا يقفز فوق لغم، فيتسبب له انفجار اللغم في فقدان أطرافه الأربعة وعينيه ... لنقوم على إثر ذلك بزرع أعضاء مصطنعة له يُحرِّكُها بإرادته، وتكون متصلة بدماغه؛ بحيث نقوم بزرع أجهزة حساسة للصور تُعوِّض عينيه، نعم قد تَحوَّل هذا الإنسان إلى سايبورغ cyborg، لكنه يظل شخصًا إنسانيته محفوظة واستقلاليته مصونة. فكيف يمكن لمثل هذا الأمر ألا يكون مشجعًا؟ إن دور طِبٍّ يُحْسِن إلى المرضى هو أن يبذل قصارى جهوده لأجل المحافظة على أقصى حد من استقلالية الأشخاص. لكن إن كنا من خلال هذا العضو هذ الإجْرَاء البيولوجي أو ذاك أو من خلال زرع عُدَّة إلكترونية، سنخلق ذُرية أو نسلا "مُقوَّى ومزَيَّد"، عبر إفادتنا للإنسانية بأكملها فإن ذلك ينم ويكشف عن هوام أو فنتاسم. لأن الطب والعلم إلى حدود الآن قد وضعا لهما كهدف تعويض ما يتم فقده في الحوادث والتخفيف من أشكال انعدام المساواة الخاصة بالطبيعة؛ لذلك علينا تفادى تحميلهما في المستقبل مهمة خلق أشكال إضافية من انعدام المساواة، ولأجل "الزيادة" في قدرة الإنسانية، نتوفر مسبقًا على ما يستوجبه ذلك: تربية للجميع، شروط غذائية ممتازة، إلخ؛ وهو ما يبقى معاكسا لخلق أرستقراطية جديدة ما فوق إنسانية.
• هناك لجان إتيقا متعددة، فأنت ترأس العديد منها، ما هو دورها؟
- إنها تنظيمات استشارية تبحث عن تحديد ما إذا كانت وضعية جديدة تشكل فرصة سانحة وحظًا للإنسانية أم تهديدًا لها. ومع أشكال التقدم التكنولوجية تضاعفت مثل هذه الوضعيات؛ لذلك صار من اللازم فهم الطبيعة الدقيقة للتقنية الجديدة من جهة الإمكانات التي تنطوي عليها، وما تستدعيه من مرجعيات فلسفية وأخلاقية وتاريخية وقانونية. إن لجنة الإتيقا تقدم للعموم، من خلال رأيها، خلاصات ليتم استعمالها وتوظيفها، وهي تشير، على الخصوص، إلى الكيفية التي توصلت بها إلى خلاصتها، وعلى عاتق الجميع يقع واجب المساعدة في مناقشة تكون من طبيعة ديموقراطية.
• ألا يجب عليها أن تحُثَّ المشرِّعين على تحويل الشر والخير إلى عبارات وحدود قانونية؟
- لا، ليس هذا هو دورها، حتى وإن كان يمكن لرأيها أن يسير في هذا الاتجاه ضمن حالات بعينها، كأن يكشف التطور عن مشكل أخلاقي كبير على سبيل المثال، لكن يمكنه أن يؤدي إلى سوق مهمة جدا، مما يجعل الإمكانية الوحيدة لأجل تعطيلها هي معارضته بواسطة قانون.
الهوامش:
العنوان الأصلي للحوار:
Axel Kahn : j 'appelle mal tous ce qui porte atteinte aux principes de la réciprocité،
وقد تم نشره بـ:
Hors-série Le Point Références (collection les Textes fondamentaux) LE BIEN ET LE MAL; décembre 2016-Janvier2017
1 - متخصص في الهندسة الوراثية الجزيئية، يترأس العديد من لجان الإتيقا، كما أصدر العديد من المؤلفات منها:-
الإنسان، الخير والشر.)،- أخلاق من دون تعالِ (بالتعاون مع Christian Godin) (une morale sans transcendance)،عن الإنسان، الليبرالية والخير المشترك DE L’homme ,le libéralisme et le bien commun 2013، أن تكون إنسانًا بِأتَمِّ معنى (Etre humain ,pleinement (2016.
2 - من أقدم القصص أو الأعمال الأدبية في التاريخ، حيث جلجامش ملك ظالم، بعد نزاله مع انكيدو ينتصر عليه، ليصبحا صديقين في رحلة البحث عن الخلود لينتهي به الأمر إلى العبرة التالية وهي أن الخلود بالأعمال لا بالأعمار.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- حوار مع الفيلسوفة فرنسواز داستور.. الوجود، العدم، والزمن
- حوار مع طوماس بيكيتي وقوفًا على أصول عدم المساواة والتفاوت
- حين تصير الأخلاق من اختصاص العلم
- حوار مع الفيلسوف مشيل أنفراي.. الفلسفة الرواقية وصفة لتجويد الوجود الإنساني والارتقاء به
- حوار مع هيرفي شنَيْفِيس .. «عتاة المجرمين يعدِمُون إنسانية الآخر»
- حوار مع أكسل كان: «أُسمي شرًا كل ما يُلْحِقٌ ضررًا بمبادئ التبادلية»
- «حرب أوكرانيا: أحاول ألاَّ ينال يأسي من أملي»
- حوار مع إدغار موران
- خـطـاب نـوبـل آنـي إرنـو
اكتب تعليقك