حين تصير الأخلاق من اختصاص العلمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 06:56:39

يحيى بوافي

المغرب

حين تصير الأخلاق1 من اختصاص العلم

فلوريان كوفا2

ترجمة: يحيى بوافي

 

شهدت الدراسة العلمية للأخلاق عند بداية القرن انطلاقة سريعة، فاتحة الباب مشرعًا أمام العديد من النقاشات، بعد أن أدرجت تطور الأخلاق في إطار تطور الأنواع.

 

 إذا كان تاريخ الفكر الأخلاقي قد رسَّخ أسماء كبيرة، فإن الخصوصية الممِّيزَة للإتيقا3  المعاصرة تتمثل في انفلاتها من تصنيم الشخصية، ولئن كان بعض المفكرين مشهورين ولهم تأثيرأكبر من غيرهم، فإن التفكير الأخلاقي صار يرتكز اليوم أكثر من أي وقت مضى على العمل الجماعي لعدد لا يُحصى من المتخصصين أكثر من استناده على الأفكار اللاَّمعة لبعض العباقرة. هكذا يصير من السهل تقديم الوضعية الحالية والراهنة للتفكير في الخير والشر من خلال الحديث عن الأفكار وما يُحرِّكُها من تعارضات بَدلَ إلقاء نظرة على مؤلِّفِيها الأكثر شهرة.

 تتوزع الإتيقا المعاصر إلى ثلاث مجالات كبرى: الإتيقا المعيارية والإتيقا التطبيقية أو المطبقة، ثم الميطا-إتيقا؛ أمَّا الإتيقا المعيارية فهي حقل الإتيقا المُخصص لتطوير نظريات عامة حول طبيعة الخير والشر؛ بحيث يكون الأمر مرتبطًا فيها بإيجاد القواعد العامة التي تسمح بالحكم أخلاقيًا على فعل من الأفعال بأنه خير أو لشر. وقد انتظم في الأساس النقاش داخل الإتيقا المعيارية خلال النصف الأول من القرن العشرين حول التّعارض القائم بين نوعين من النظريات هي الديونطولوجيا والنزعة القائمة على اعتبار النتائج [أو العواقبية] (conséquentialisme)؛ وترى هذه النزعة، المُستلهمة في الغالب من عمل جيرمي بنثام (Jeremy Bentham) ومن أعمال جون ستيورات ميل (John stuart Mill) أن القيمة الأخلاقية لفعل من الأفعال إِنَّما تُقَاس في ضوء يُسْفر عنه من نتائج، وغالبًا ما يكون ذلك في ضوء رفاهية الأفراد المتمتعين بالحساسية. فكل فعل (بما في ذلك القتل) بالإمكان أن يصير خيرًا منذ اللحظة التي يكون فيها الخير الناتج عنه متجاوزًا للشر الصادر عنه.

 أما بالنسبة للديونطولوجيا المستلهمة في الأغلب من عمل كانط (E.Kant)، فإن الأمر يبقى على الطرف النقيض من ذلك؛ بحيث إن بعض الأفعال تظل غير أخلاقية مهما كانت النتائج التي تُسفرُ عنها، وبهذا المعنى يكون التعذيب في الأساس فعلاً غيْرَ أخلاقي، حتى لو أمكن  ظهور فائدتِهِ في ظل  بعض الشروط.

وإذا كان التعارض بين الديونطولوجيا والنزعة القائمة على اعتبار النتائج هو ما يُهيْكِل حقل الاتيقا المعيارية، فإن الفاعل الثالث الذي يأتي كي يُكوِّنَ مشهد هذا الحقل هي إتيقا الفضائل التي تجد جذورها في فلسفة أرسطو، وهي الإتيقا التي تم تطويرها منذ السبعينيات من القرن العشرين من قبل مؤلفين مثل فيليبا فوت4 (Philippa Foot) أو روزالين هورستاوز5 (Rosalind Hursthouse)، وتعتبر هذه الاتيقا أن الديونطولوجيا والنزعة القائمة على النتائج بالرغم من التعارض الأكيد بينهما، فإنهما تسندان معًا إلى خطأ مشترك يتمثل في أَنَّهُما تَبْتدِئان معًا بالبحث عن تعريف الفعل الخير أخلاقيًا، ثم  تحاولان في لحظة ثانية فقط تعريف الإنسان الخيِّر أو الفاضل، بوصفه من يكون في الغالب متمتعًا بالاستعداد لإتيان الأفعال الخيِّرة، وعلى هذا النحو يَكُون الإنسان العادل هو من له مَيْل إلى إتيان الأفعال العادلة. فبالنسبة للمدافعين عن أخلاق أو إتيقا الفضيلة، من المناسب التفكير في الاتجاه المعاكس؛ بمعنى وُجُوب تحديد الإنسان الخير (الفاضل) أولاً كي نفهم ما يكونه الفعل الخير، على هذا النحو يلزمُ فهم ما يعنيه أن يكون المرء شجاعًا حتّى نفهم الفعل الشجاع.

وفي فرنسا تم تقديم إتيقا الفضيلة على الخصوص تحت نسخة تُدَعى بالاتيقا "ذات نزعة الكمالية perfectionniste" والتي يدافع عنها باحثون مثل ساندرا لوجييه6 (Sandra Logier). وغالبًا ما يتم ربطها بإتيقا العناية l’éthique de care  بوصفها حركة تبحث عن إعادة إدراج موضوعات أكثر اتصافًا "بالطابع النسوي" داخل الاتيقا والتي كانت مستبعدة منها، كما هو الشأن على سبيل المثال بالنسبة للهشاشة  وللتبعية بين الأفراد، وهي تعارض على الخصوص أصحاب النزعة المركزة على الحد الأدنى في الأخلاق (les minimalistes) ، مثل روفين أدجيان7 (Ruwen Ogien)، الذين يذهبون إلى أن نمط عيشنا حينما لا يُلحق الضرر بأي أحد فإن الأخلاق لا يكون من شأنها عندئذ أن تُملي علينا كيف نعيش، خشية من أن تصير ذات نزعة أبوية.

إمكان لامحدود

 لكن أحد الملامح المُمَيِّزة للإتيقا المعاصرة، هو التطور الهائل للإتيقات التطبيقية أو المُطبِّقة. وعلى عكس ما قد يذهب إليه التفكير اعتمادًا اسمها، لا تتمثل هذه الأخيرة في التطبيق الميكانيكي والآلي للنظريات العامة للاتيقا المعيارية على المشكلات الخاصة، بل على العكس من ذلك نجد المتخصصين في الإتيقا التطبيقية أو المُطبِّقة  يعكفُون على عدد محدود من المشكلات، غالبًا ما تكون مشكلات أظهرها تطور حقل الفعل والعمل الخاص بالكائنات الإنسانية؛ هكذا نجد على سبيل المثال، البيوإتيقا  تهتم أساسًا بالأسئلة التي يطرحها تطور التقنيات البيولوجية والطبية؛ مثل التشخيص السابق على الحمل والمساعدة على الانجاب وتعديل وتغيير الكائن الحي...، أو الإتيقا الطبية التي ينصب اهتمامها على الصّعوبات التي لها علاقة بممارسة الطب: السر، القتل الرحيم، البتر العلاجي.....

وهناك ميدان يعرف حاليًا تطورًا سريعًا، خصوصًا في ظل عناية فلاسفة من مثل الاسترالي بيتر سنجر8 (Peter singer)، ألا وهو ميدان الاتيقا الحيوانية، الذي يسائل علاقتنا بالحيوانات. ويرتبط الأمر في الغالب بتحديد ما إذا بالإمكان تبرير المعاملات (السيئة) التي تكون الحيوانات عُرْضة لها بالخير الذي تحققه الكائنات الإنسانية من ورائها، سواء ارتبط الأمر باستهلاك المنتجات الحيوانية أو استخدام الحيوانات في البحث العلمي.

وعلى الرغم من التباينات والاختلافات الهامة، فإن أغلب المتخصصين يتفقون على أن جزءًا مهمًا من الألم الذي نتسبب فيه للحيوانات لا يمكن تبريره، وبأن معظمنا" يحمل نزعة تمييزية بين الأنواع (spécistes)، وبتعبير آخر، نحن نعتبر أن ما يهم الحيوانات أدنى أهمية من مصالحنا لمجرَّد أنها ليست كائنات إنسانية، وومع ذلك هناك أسئلة أخرى تَهُم الإتيقا الحيوانية مثل معرفة ما إذا كان علينا واجبات ومسؤوليات تجاه الحيوانات المتوحشة.

 إن حقل الإتيقا التطبيقية، لاهتمامه بالصعوبة الجديدة التي كشف عنها تطور الفعل الإنساني، يزخر بإمكان لامحدود، وعلى هذا النحو نجد مجموعة من المتخصصين يعكفون على التأثير الذي نخلفه على المناخ أو يهتمون بتطور الذكاء الصناعي.

ابتكارات إنسانية

يتمثل الحقل الأخير للبحث بهذا الخصوص في الميتا-أخلاق والتساؤل عن مفهومي الخير والشر ذاتهما   أكثر من التساؤل عن من يَتَّصِفُ بهما؛ بمعنى هل عندما نقول عن شيء بأنه "خير" نكون واصفين لواقع موضوعي، أم أننا في حقيقية لا نُعبِّرُ سوى عن تفضيلات ذاتية؟ هل من وجود لأشياء تكون "خيِّرة" أو "شريرة" بشكل حقيقي وواقعي، أم أن هذين المفهومين ما هما إلا اختراعات أو ابتكارات إنسانية لا أساس لها؟ وحتى إنْ وجد كل من الخير والشر، فما السبيل المتاح أمامنا لمعرفتهما؟

إن هذه الأسئلة مهما بدت تقليدية الطابع، فقد شهدت في السنوات الأخيرة عمليات تجديد عميقة، ويُعد التطور الكبير الذي عرفته الدراسة العلمية للأخلاق سببًا مفسِّرًا لذلك من بين أخرى؛ فإذا كانت سيكولوجيا الحكم الأخلاقي قد استقرت منذ كتاب جون بياجيه (1896-1980) عند دراسة النمو الأخلاقي (محاولات الطفولة في اتجاه حكم الراشد)، فإن العديد من الدراسات، منها الدراسات التي قام بها كل من لورون بيغ (Laurent Bègue) أو نيقولا بومار (Nicolas Baumard)، قد أغنت فهمنا للموضوع، وإحدى خصوصيات هذه المقاربة الجديدة هي تلك المتمثلة في إعادة وضع نمو الأخلاق الإنسانية في إطار تطور الأنواع.

من أول وهلة يمكن  لأن ترتعد النفوس من مثل هذه الفكرة؛ لأن المحاولات  التي تمت في الماضي لتأسيس الأخلاق على التطور أدت إلى ظهور النزعة الداروينية الاجتماعية لهربرت سبنر (1820-1903) التي ترى أن المجتمع من الواجب  عليه  إهمال من هم أكثر ضعفًا وتركهم لشأنهم، بَيْد أن صور الشطط والغُلو هذه قد استندت  إلى سوء فهم  لنظرية شارل داروين (1809-1882)؛ فإذا كان هذا الأخير قد تفادى الحديث عن الإنسان في كتابه الأساس "أصل الأنواع" (1859)، فإنه قد عاد إلى الموضوع في كتاب "نسب الإنسان (la filiation de l’ homme) (1871)؛ حيث أبرز فيه كيف أن التطور قد شجع لدى الأنواع الحية، بما فيها الإنسان، الإحساس بالغيرية والتضامن، وهذه الفكرة هي التي استعادتها معظم النظريات الراهنة حول التطور الأخلاقي.

ولأن الأخلاق قابلة لأن يتم تفسيرها علميًا، فإن بعض الفلاسفة يرون في ذلك إمكانية إيجاد أساس طبيعي وعلمي للإتيقا؛ أما البعض الآخر منهم فيرى فيه سبَبًا إضافيًا للتخلي عن الأخلاق باعتبارها وهما؛ فإذا كانت الأخلاق قد انتخَبَها التطوّرُ الطبيعي لصالحه، فليس هناك أي سبب للاعتقاد بأنها حقيقية. ومهما يكن من أمر، فإن العلاقة بين الإتيقا والمقاربة العلمية للأخلاق ستحتل، دون أدنى شك، القلب من المناقشات خلال السنوات المقبلة.

 

الهوامش:

 -1 Florian Cova ;Quand la morale  devient scientifique, Hors-série Le Point Références (collection les Textes fondamentaux) LE BIEN ET LE MAL; décembre 2016-Janvier2017.

2 - أستاذ مساعد في الكلية التفاعلية للعلوم العاطفية بجامعة جنيف، مؤلف لكتاب:"

)Qu’ en pensez-vous ? une introduction à la philosophie expérimentale Germina,2011(.

3 - عادة ما  يذهب الكثير من الفلاسفة إلى عدم التمييز بين الأخلاق وبين الإتيقا، على أساس أنهما تسيمتان لمدلول واحد، وأن وجودهما معًا إنما مرده إلى أن «éthique» منحدرة من الجدر الإغريقي (èthos) و(Morale) من الجدر اللاتيني(mos) أو(mores) وهما يدلان على نفس الشيء تقريبًا (الآداب والعوائد والطباع وكيفيات العيش والفعل والتصرف)، لذلك اعتبر القُدماء إحداهما ترجمة للأخرى وهو ما يشير إليه بول ريكور، ليقترح  أخذ مفهوم الأخلاق باعتباره ثابتا مرجعيا، تُسْندُ له وظيفتان؛ من جهة منطقة المعايير، وبتعبير آخر مبادئ  المباح والمحظور، ومن جهة أخرى الشعور بالإلزام باعتباره الوجه الذاتي لعلاقة الذات بالمعايير"؛ فبالنسبة لهذا الفيلسوف تكون الأخلاق مؤطَّرة بإتيقا سابقة (الميطا إتيقا) تهتم بـ"منبع ومصدر المعايير" وإتيقا بعدية (الاتيقا التطبيقية)، التي تحيل إلى تطبيق المعايير داخل وضعيات خاصة، ويتمتع هذا التقسيم إلى ثلاث لحظات بفضيلة تقديمه وتوفيره لإطار واضح وسهل الاستعمال. ونشير إلى أن معظم الترجمات العربية تضع في مقابل لـفظ (éthique) لفظ (أخلاقية) وقد فضلنا نقل اللفظ كما هو إلى اللسان العربي، وعيا بعمق دلالته المعاصرة. (المترجم)

4 - فليبا روث فوت (Philippa Ruth Foot) فيلسوفة بريطانية أمريكية، تعتبر من بين مؤسسات أخلاق الفضيلة في صورتها المعاصرة (المترجم)

5 - ماري روزالين هورستاوز (Mary Rosalind Hursthouse) فيلسوفة نيوزيلاندية تعتبر من الوجوه المعاصرة البارزة الممثلة لتيار أخلاق الفضيلة ضمن الفلسفة الأخلاقية.

6 - فيلسوفة فرنسية معاصرة ولدت سنة 1961، تتوزع اهتماماتها الفلسفية بين فلسفة العلوم والفلسفة الأخلاقية وفلسفة اللغة والفلسفة السياسية والنوع، وتبقى فلسفتها على المستوى الأخلاقي متميزة بكونها موسومة بالأخلاق ذات النزعة الخصوصية المستلهمة من لودفيغ فيتغنشتاين، والنزعة الكمالية التي تركز على بلوغ الإنسان أكبر قدر ممكن من الكمال والتميز. (المترجم)

7 - أورفين أدجيان فيلسوف تحرري فرنسي ولد سنة 1949 وتوفي سنة 2017، تمحورت أعماله خصوصًا حول الأخلاق وفلسفة العلوم الاجتماعية، وتعد أعماله في الفلسفة الأخلاقية الأصل فيما يسمى بإتيقا الحد الأدنى  l'éthique minimale، بوصفها نظرية تُرْجِع الأخلاق إلى عدد محدود من المبادئ، أهمها عدم إلحاق الأذى أو الضرر بالآخرين. (المترجم)

8 - بيتر ألبير دافيد سانجي (Peter Albert David Singer) فيلسوف أسترالي ولد سنة 1946 يشغل كرسي الإتيقا بجامعة بيرنستون، يعد من مؤسسي الحركات الحديثة المدافعة عن حقوق الحيوانات إلى جانب كونه على مستوى الفلسفة الأخلاقية من بين أنصار ما يسمى بالنزعة الغيرية الفعالة، التي ترى أنه من واجب سكان الدول المتقدمة أن يوظفوا جزءًا من ثرواتهم من أجل التقليل من معاناة الأشخاص الذين يعيشون في ظل الفقر المدقع، وأن يوظفوا ذلك بأكثر الكيفيات فعالية. (المترجم).


عدد القراء: 2450

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-